عادات رمضانية في صنعاء

عادات رمضانية  في صنعاء

أحد عشر شهرًا يرسم فيها الإنسان مسارًا لطموحاته، إلى أين سيصل وكيف السبيل إلى ذلك... بإصرارٍ يصل إلى ما يتوق إليه،  وكلما حقق بتلك الخطوة نجاحًا ما سعى بالخطوة الأخرى إلى نجاح آخر... إلى أن يأتي شهر تتوقف جميع أمنياته وأحلامه  ليتفق مع روحه على حلم واحد لا سواه... الروح هي التي تتمنى وتسعى وتعيش. 

 

النفس هي التي تطالبه بالسكينة والطمأنينة التي افتقدها طوال الأشهر السابقة، تتوق الروح إلى ملاقاته، منذ شهر رجب يبدأ العد الفعلي لشهر الروح.
يمضي رجب ويأتي شعبان... تحسب ساعاته وأيامه، البعض يصوم شهري رجب وشعبان والبعض يكثر فيه الصيام كما كان يفعل رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، كذلك تتجه الأعين نحو السماء مترقّبة هلال رمضان الذي أكثر ما يكون فيه الاختلاف، فدولة تراه وأخرى يتعذر عليها ذلك.
ثمة فرحة لا تصفها الكلمات حين تعلن الجهات الرسمية أن علماءها رأوا هلال رمضان، وما إن تنتهي من قراءة بيانها حتى (يقرح) مدفع جبل نقم وتعلو (صفارات) الأطفال التي تنتشر في الشوارع حينها. الأطفال يتفنون باستقبال ضيفهم، فمنهم من يشعل الألعاب النارية (قريح) ومنهم من يجمع الكراتين أو إطارات السيارات التالفة ويقوم بإحراقها، ثمة قرى ما زالت تستخدم هذه الطريقة للإعلان لبقية القرى المجاورة رغم توافر وسائل الإعلام المرئي والمسموع... الأطفال يعيشون فرحة قدوم الشهر المبارك بهذه الطقوس مهللين بأناشيدهم منها:
يا رمضان يا بو الحمايم يا رمضان
حيا بك يابو المكارم يا رمضان
وادي لنا شغثة (حفنة) دراهم
ولو قمنا بقياس فرحتي الكبار بالصغار لتفوقت فرحة الصغار اتساعًا وكثافة... حيث لفرحتهم صوت فاق صوت بيان الإعلان الرسمي والمدفعية.

رمضان والمدفع 
يرتبط مدفع جبل ارتباطًا وثيقًا برمضان يأتي معه ويرحل معه أيضًا حتى أصبح اسمه (مدفع رمضان)، جبل نقم يطل على صنعاء من الجهة الشرقية، يُملأ المدفع بالبارود و(خرق) قماش غير مستخدمة (بالية) عند الإشعار برؤية هلال رمضان ويستمر طوال شهر رمضان المبارك وقت الإفطار.

تسابيح رمضان وقرآنه
منذ الليلة الأولى تبدأ المساجد بفتح مكبرات الصوت لصلاة التراويح... ومن بعد منتصف الليل في الساعة الثانية والنصف يبدأ التسبيح الأول وهو بمنزلة (مسحراتي) الحي حتى يصحو مَن نام لعمل السحور وتناوله، تتلوه تسابيح لا تخلو من الحمد والشكر الكثير لبلوغنا الشهر المبارك حتى آذن الفجر. 
أما اليوم الأول في نهار رمضان، وهذا ما يميز رمضان صنعاء قبيل ساعة الإفطار بدقائق، فتفتح المساجد مكبرات الصوات بقرآن كريم  (دريس) بصوتي الشيخ محمد القريطي أو الشيخ محمد حسين عامر رحمهما الله، هذان الشيخان الجليلان بمجرد أن تسمع صوتهما يتبادر إلى ذهنك شهر رمضان المبارك وما أجمل ما يعرفان به. 

 الحياة في رمضان 
في صنعاء، وكل مناطق اليمن عامة، ينقلب ليلها نهارًا ونهارها ليلًا، فغالبية الناس لا تنام إلا بعد صلاة الفجر، ولا تبدأ الحياة في شوارع صنعاء إلا بعد الظهر. 
بعض الدوائر الرسمية تبدأ دوامها من الساعة العاشرة صباحًا ، ومع ذلك حركة الناس في تلك الساعات قليلة جدًا، أما من بعد الظهر فتبدأ أغلب الأعمال، وبعد العصر تعج الشوارع والأسواق بالناس حتى آذان المغرب فيختفي غالبية الناس ويعم السكون حتى صلاة العشاء فتدب الحياة فيها مرة أخرى.

المساجد في رمضان 
منذ الليلة الأولى من الشهر الكريم يعتبر المسجد الملاذ الآمن للصائم، تنقى روحه من هموم الحياة ومشاقها، يصلي ويتعبد لله عز وجل، فرب العالمين هو رب كل الشهور، إلا أن هذا الشهر تكون الروح فيه توّاقة للقرب منه، يتخلى الصائم عن نفسه وأفعالها، يخمد الإنسان المتعطش لكماليات الحياة ويلح بالدعاء بالمغفرة ونعيم الآخرة، لا ينسى الإنسان ما يتمنى، لكن ملاذه الأول الطمأنينة والسكينة لروح صالت وجالت كثيرًا في ميادين العيش لتعيش.
تبدأ حلقات الذكر والقرآن من بعد صلاة الظهر حتى صلاة العصر، تنقسم إلى مجموعات، فمنهم من يقوم بترتيل القرآن لختم عدد معين من سور القرآن، وجماعة تقوم بالحفظ والتسميع لبعضها البعض، أو يترأس هذه المجموعة واحد منهم أكبر علمًا وجماعة تقوم بالذكر، تتخلل ذلك أنشطة ومسابقات في الحفظ والمسابقات العلمية، وقد يقتصر نشاط هذه المجموعات داخل المسجد المتواجد في الحي، وقد يشترك بمسابقات مع مساجد الأحياء الأخرى. 
 أما عند صلاة المغرب فيصلي الجميع بعد أن يفطر البعض في المسجد، والبعض يأتي للصلاة والانتظار حتى يؤذن لصلاة العشاء فيصلونها ثم صلاة التراويح لمن أراد.

  صلاة التراويح
من شعائر رمضان المبارك صلاة التراويح، وهي ما نفتقده في بقية الشهور، حيث ترى الناس تتنقل من مسجد إلى آخر لتتلذذ بأصوات القرّاء وللبحث عن الحسنات في المشي إلى المساجد، كأنهم يزيلون عنهم همومهم فلا يخرج المصلي كما دخل، أشياء كثيرة يحس بها تتساقط منه... وأشياء يتخلى عنها عنوة، وبعد صلاة التراويح تبدأ حلقات ذكر لبضع دقائق ويغلق المسجد إلى قبيل الفجر. 

العشر الأواخر
يتضاعف شوق الصائم إلى هذه الأيام، فيتعبد فيها بهمّة ممزوجة بقليل من الحزن لأنه يودّع خير الشهور، فيمكث أغلب الناس في المساجد للاعتكاف فيها. وتزداد فيه الهمة وتلافي القصور الذي وقع به الصائم، وأجزم أيضًا بأن روحه تتوق للهدوء والسلام النفسي... لا شيء سوى مرضاة الله. 
في العشر الأواخر تزدحم المساجد بصلاة القيام، حيث تسابق النساء الرجال إلى المساجد في هذه الصلاة، فتسمع البكاء والدعوات الكثيرة، وبالمساجد مصليات خاصة بالنساء. 
والجميل ذكره أن الناس جميعهم يبحثون عن إمام حسن الصوت في تلاوته للقرآن، حيث يخشعون ويتناسون كل شيء، إلا أنه بين يدي الله يبكي الرجال أيضًا، حينها تذكرت مقولة  (الرجل لا يبكي)  التي تغرس في الطفل الذكر مذ نعومة أظفاره لكنه اليوم يبكي أمام الله مالك الملك، راجيًا الجنة والمغفرة، شاكيًا باكيًا لمن لا يقفل بابه... يبكي لله العالم بما يخفيه البعض... يغادر، وأراهن لو وزن بميزان الحياة لأصبح أخف من الريشة... يخرج بشعور الرضا والراحة الذي لا يشترى بكنوز الأرض.

وقت الإفطار
يعرف رمضان بالإعلان الرسمي للدولة والمدفعية، كذلك وقت الإفطار يعرف بصوت الشيخ محمد القريطي وصوت الشيخ محمد حسين عامر، فقبل آذان المغرب بدقائق تفتح المساجد والوسائل الإعلامية تذيع تلاوات من القرآن استعدادًا لأذان المغرب، في هذه الأثناء تتم أجمل الأحداث وأروعها حتى يخيل للشخص أنه في الجنة.  أغلب الرجال يخرجون بموائدهم إلى الشارع والبعض منهم إلى الجوامع... يتسابق الجميع لإفطار بعضهم البعض، وإذا مر غريب عن الحي استوقفوه ليشاركهم موائدهم. 
الجميل أن بعض الرجال والأطفال يتسابقون في ذلك، فالبعض يقف في الشوارع الرئيسية لتوزيع الماء والتمر في أكياس بلاستيك على السيارات والمارة أيضًا.

وقت الإفطار في المساجد
يهرول أغلب الصائمين بموائدهم إلى (صوح) فناء الجامع الأكثر تجمعًا في رمضان الجامع الكبير بصنعاء الذي يجتمع فيه الكثير من الغرباء عن المنطقة، وذلك لمكانته الكبيرة في قلوبهم كونه اللبنة الأولى للمساجد في صنعاء. 

وقت الإفطار في المواصلات 
كنت أحبّذ هذا الوقت، حيث ترى الجميع يتسابقون لإفطارك بكل حب وكأنه يعرفك وكأنك أقرب منه إليه... هنا فقط في هذا الوقت وهذه اللحظة يجعلك أهم منه فلا يفطر حتى يعطيك ما تفطر به أو يثق بأنك تمتلك ما تأكله حتى الماء، سيقاسمك وعنده استعداد كامل أن تأخذه كله حتى ولو لم يملك غيره، في هذه اللحظة لا فرق بين رجل وامرأة، وبكامل احترامه لك، وكم تتمنى أن تظل هذه المشاعر طوال العام، لا اللحظة تلك فحسب.

عشاء رمضان وسحوره
تتنوع الموائد في رمضان وتكثر فيه لاسيما أول أيامه، إلا أن هناك وجبات أساسية تتميز في شهر رمضان.

وقت الإفطار
يجهز الماء والتمر والسمبوسة خاصة التي لا تخلو مائدة منها وكذلك الباجية (وهي خليط من الفول مع الكراث والبقدونس والبهارات والبعض يخلط الحمص، وكذلك الشفوت ، وهو عبارة عن لحوح ولبن أو زبادي. واللحوح يصنع من حبوب الذرة والقليل من القمح ليتماسك. الجميل في الأمر أنه ما زالت هذه العادة إلى اليوم، حيث تصنع أغلب النسوة منه الكثير ليوزع على الجيران، ويقمن بصنعه بالتناوب، ومَن لا تملك الحبوب تعطيها من تملكه، فلا فرق بين غني وفقير في رمضان. 

وقت العشاء 
من الوجبات الأساسية في العشاء السلتة التي تتكون من (البطاط المسلوق في المرق أو أرز أو باميا والمرق والحلبة) أو الفحسة التي تتكون من (اللحم المقطع إلى قطع صغيرة جدًا أو دقة اللحم المكوّرة)  هنا يجدر التنبيه إلى أن المقلى لابد أن يكون في الحرض  حتى يستلذ بطعمها  فالمقلى الطين أو الحديد لا يكون بنفس مذاق المقلى الحرض وكذلك لابد أن تكون النار تحته عالية، الشوربة (وهي عبارة عن حب من القمح لا يطحن جميعه يضاف إليه إما الحليب أو المرق ويغلى على النار).
وكذلك الحلبة الحامضة و(القليل من الخل يضاف إلى الحلبة الجاهزة أو الليمون) تأكل الحامضة مع الفجل أو (القشمي)، ومن الأكلات أيضًا العصيد  (عبارة عن خليط من الماء والطحين يتماسك على النار ثم يسكب عليه المرق) وقد تضاف إليه الحامضة أيضًا.
ومن الأكلات بنت الصحن (طبقات من العجين ترص فوق بعضها ويرش بين كل طبقة وأخرى حبوب السمسم والحبة السوداء والسمن) وتؤكل مع العسل وكذلك السوسي (طبقات من الخبز الجاهز.  يضاف بين كل طبقة وأخرى حليب وبيض وسمن وعلى واجهته الحبة السوداء) والمكرونة والشعيرة لكنها تتلاشى، كلما مرت الأيام يصبح أكل الصائم أقل. 

وقت السحور
فتة بالحليب والسمن:  (خبز يقطع قطعًا صغيرة ويضاف إليه الحليب المغلي على النار ثم السمن) والبعض بقوليات أو وجبات خفيفة. 

مشروبات رمضان 
يبتعد الصائم عن المشروبات الغازية والعصائر المعلبة، فيتميز شهر رمضان بمشروب: 
- عصير القديد (عبارة عن برقوق أصفر مجفف) محلي الإنتاج يوجد أيضًا مستوردًا لكن أكثر ما يستخدم  هو المحلي.
- عصير الزبيب (يغلى الزبيب على النار ويضاف إليه بعض القرنفل).
- عصير الكركدية. 
- عصير الشعير. 

حلويات رمضان 
يحبذ الصائم في رمضان الرواني والشعوبية وبلح الشام (الطرمبة)، وأكثر ما يباع في الأسواق في هذا الشهر لاسيما الرواني، وتتفنن النسوة في المنازل بصنع المحلبية والكراميل والجيلي.

أسواق صنعاء 
تختلف أسواق صنعاء في رمضان أوله وآخره... وتتعدد لتلبي كل احتياجات الناس والصائم على وجه الخصوص والاحتياجات الرمضانية، فيكثر باعة السمبوسة والحلويات وكذلك الجبن التعزي، إلى جانب المحلات الأساسية التي تتواجد طوال أيام السنة. 
ويكثر كذلك باعة المصاحف والمسابيح سواء بافتراش أرصفة الأسواق أو التجوال وكذلك المسواك، كما يكثر هذا الازدحام في الأسواق الشعبية، فأمام كل محل تجاري يفترشه هؤلاء الباعة لاسيما في الأيام الأخيرة من شهر رمضان. 
تتنوع البضائع بين ملابس العيد سواء للرجال والنساء أو الأطفال بالذات وكذلك (جعاله) العيد فأواخر شهر رمضان يأتي بعض (الرعية) من مزارعين يمتلكون المكسرات (الزبيب، اللوز، الجوز) إلى جانب الفستق للبيع في أسواق صنعاء الشعبية أو بالقرب من المحلات التي تبيعها طوال السنة.  
تزدحم أسواق صنعاء وتغلق أحيانًا أمام وسائل النقل، فلا تستطيع حينها العبور لكثرة الناس والباعة، ويستمر ذلك إلى ليلة العيد حتى ساعاتها الأخيرة. 

حواري صنعاء 
ينقلب النهار ليلًا والليل نهارًا في صنعاء لاسيما أن الناس لا تنام إلا بعد صلاة الفجر، فمن بعد الصلاة الفجر إلى الظهر لا يتواجد أحد في الحواري إلا ما ندر، ويحرص الجميع على إبقاء الأطفال ليلتها من دون نوم حتى يصحوا حين يصحو الجميع فلا يزعجون جيرانهم،
فمن بعد الظهر يصلي غالبية المصلين في المساجد وينتهي كبار السن فيخرجون إما لصوح المسجد أو يتجمعون عند جدار المسجد من خارجه أو يتذاكرون فيما بينهم وقد يلتحقون بالحلقات. 
أما أغلب الأطفال فيجتمعون في المساجد بتلك الحلقات التي ذكرناها آنفًا إلى قبل المغرب.  أتذكر أنني كنت أسمع القرآن فأهرول إلى الشارع حتى لا يفوتني مشهد إطلاق المدفع للإفطار) الأطفال ينتظرونه بشغف ويستمتعون حين (يقرح) ويرون الدخان المتصاعد وهو بمنزلة إثبات أن الطفل أنهى صيامه.  (ثمة إثبات آخر هو أن يخرج الطفل لسانه فإذا كان أبيض فهو صادق بصيامه وإذا احمر فهو أكل ولم يصم)... أما الشباب فثمة شيء يفعله البعض، فمن بعد صلاة الفجر يتجمعون بمكان خارج الحي (مكان متسع)للعب الكرة حتى الساعة العاشرة صباحًا ثم العودة إلى منازلهم للنوم. 
أما النسوة فتبدأ بتجهيز الفطور وأعمال المنزل إلى ما بعد صلاة العشاء لتبدأ بالخروج إما للتسوق أو لزيارة الجيران أو الأهل، وكذلك الرجال إما لأعمالهم أو للتجمع لمضغ القات.

رمضان والإنسان الخيّر
يصبح الإنسان شخصًا آخر أكثر عطاء... في رمضان لا فقير يجوع. تبنى المطابخ الخيرية في الأحياء سواء في منزل أحد الخيّرين أو في المرافق التابعة للمساجد وتوزع على الفقراء والمحتاجين... يزداد خير الإنسان ويمحى شره...تزداد صلته بأرحامه (مكالفه) فتكثر العزائم في هذا الشهر المبارك وتجمع العائلات،  ويكثر فيه تجمعات الأصحاب وكذلك الغرباء فأغلب البيوت تفتح أبوابها لتفطر الصائمين، حتى إن بعض المطاعم الشعبية تغلق في رمضان لقلة زوّارها وكذلك المطاعم الكبيرة تقل الحركة فيها أيام هذا الشهر... الجميع يتسابق لنيل الأجر بكل أعمال الخير من الصدقات والطعام والتفريج عن المسجونين حتى كسوة العيد، لذا نجد أهالينا من كبار السن يقولون (رمضان يأتي بخيره) وخيره لا ينضب من طمأنينة وسكينة وجعلنا أناسًا خيّرين تملؤنا المحبة للجميع ■