رواية «سنوات الحضور والغياب» وقفات مع العودة إلى الماضي

رواية «سنوات الحضور والغياب»  وقفات مع العودة إلى الماضي

تؤرخ الروايات بما ترويه من قصص وحكايات للأحداث التي توثق مختلف اللحظات الإنسانية بما فيها لحظات الموت والميلاد، وتخبرنا عما حدث في ذلك الزمان وما نحن عليه الآن... هكذا يشعر قارئ رواية «سنوات الحضور والغياب» للكاتب والأديب الكويتي حمد الحمد، فهي مزيج متجانس من الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد، ومن الأخبار والأحاديث وتجارب الحياة يخلق الشخصيات ويوزع الأدوار، ومن المشاعر الوجدانية والقيم الإنسانية ينسج الحبكات والمواقف الدرامية، التي وإن كثرت وطالت فهي لا تخرج عن سياق الحب والكره والخوف. 

 

«رحلة غياب بين الكويت والرياض وهناك حيث البحر» وصف دقيق أرفقه الكاتب على غلاف روايته تحت صورة بالأسود والأبيض لشارع بمنطقة خيطان، وضعت الصورة كأنها مقتطعة من صحيفة، أو عابرة من مخيلة أحدهم، وسط لون بنفسجي خلاب وحالم. غلاف الرواية يحمل دلالة أن الأحداث عابرة للزمن، فعلى القارئ الربط والتحليل بين أحداثها. 
إن السرد العميق يقتضي تفرغ الكاتب التام، فلا عجب أن تظهر هذه الرواية في فترة العزلة المجتمعية التي فرضها انتشار كوفيد- 19. 

فصول ستة أسيرة الزمكان 
فصول ستة، معنونة تحت أماكن وأزمنة، ومنها تولدت الشخوص وانبثقت الحكايات. الفصل الأول حمل عنوان «بين أبو حليفة وخيطان»، وذكرت مناطق عدة كجبلة والفنطاس وحولي، وقد وظفها الكاتب بما يتناسب مع أحداث الرواية. ففي منطقة أبو حليفة حرص الكاتب على تعريف موقعها الجغرافي للقارئ في تذييل أسفل الصفحة  المطلة على الخليج العربي، يلهو الصبية عادة على شاطئ البحر ويسبحون في مياهه، وفي تلك المنطقة يتعرف القارئ على الصبي بدر النعار بطل الحكاية، وأول صانع لحبكاتها عندما يظهر غريق بعد أن دفعه أصدقاؤه للسباحة معهم، رغم تردّده لأسباب عديدة أوضحها عدم قدرته على السباحة، أسعف بدر ونجا من موت محقق، لكنه لم ينجُ من ذلك الشعور الذي استوطن قلبه، فبين الخوف والخزي والنقص والرفض ستتأرجح حياة بدر كما ستظهر لنا الأحداث في الفصول القادمة. 
ومن خيطان التي كانت قرية حتى بداية الخمسينيات من العقد الماضي، يأتي الشاب خليفة السياني، وهو صاحب أول قصص الحب بالرواية، والتي جمعت بينه وبين بزة النعار أخت بدر الكبرى، ففي خيطان سكنت أسرة خليفة بعد أن تكالبت عليهم الظروف وأخرجتهم من جبلة إحدى المناطق الرئيسية القديمة في الكويت إلى أبرق خيطان المحاطة بالبيوت الشعبية والمليئة بالوافدين، لذا فإن القارئ سيتعرف من تلك المنطقة على ملامح كويت كدولة عربية حاضنة للعرب وغير العرب منذ زمن بعيد. 
وتتسع دائرة المكان في الفصل الثاني ليكون تحت عنوان «هناك حيث الرياض»، ولا عجب في ذلك لأن الكاتب أشار إليها على غلاف روايته، لكن أولى المدن السعودية كانت مكة، حيث المكان الذي سيجعل من بدر رجلًا في نظر أبيه من خلال أداء فريضة الحج. بدر الصبي الصغير كان الأكثر فرحًا بهذه الرحلة رغم تكرار محاولات والده في إهماله، الذي نال مبتغاه في مشعر منى وجعل اسم بطل الرواية بدر الكويتي. الرياض تمثلت في حي غميته حيث استقر بدر عند العائلة التي عاش عندها عدة سنوات، وفيها شب وأحب ابنتهم منيرة التي حاول الارتباط بها، وتلك ثاني قصة حب في الرواية غير متكافئة. 
وفي هذا الفصل يظهر دور شخصية فهد - شقيق بدر الكبير - والذي أتاح الكاتب له مهام عديدة تقلدها مع كبر والديه وضعف حالته الصحية، وجميعها تصب في رعاية البيت ومن فيه وبخاصة أخته بزة. 
وحتى لا يطيل بالأحداث، ما قد يبعث الملل عند القارئ، وضع في الفصل الثالث ظرف زمان بالعنوان «ومرت السنين يا خليفة»، حيث يلاحظ القارئ تسارع وتيرة الرواية وظهور شخصيات جديدة محورية. وبطريقة ذكية استطاع الكاتب سرد الأحداث من خلال بدء بطل الرواية - بدر- في كتابة يومياته بكشكول، وفيه أسقط المشاعر التي رافقته مع كل حياة عاشها سواء في الكويت أو الرياض. وفي هذا الفصل تأتي أحداث الغزو العراقي للكويت، والتي كان لها بصمتها في خط الرواية، ومنها كانت العودة مرة أخرى إلى الكويت. وهنا يمكن إضافة عنوان آخر للفصل الثالث ليكون سنوات العودة. 
وتحت عنوان «البحث» كان الفصل الرابع، لكن من يبحث عمّن؟ إنه باب مليء بالمطاردات. هل بدر يبحث عن نفسه؟ أم الآخرون يبحثون عنه؟ هو عاد وراح يجوب الأماكن المحملة بالذكريات، وهم راحوا يبحثون عنه. بزة تتعرف على أخيها وتناديه، وابنها يتلقط أخباره، وصديقه عزوز يبحث بين الوجوه ليتعرف عليه، حتى تاجر الساعات الذي عمل لديه كان يشك في أمره. ورغم حالة التيه يأتيه فرح عارم سببه حبه لمنيرة. 
في الفصل الخامس «بعيدًا من هناك»، تمثل البعد في حياة بدر، حيث كان على ظهر سفينة عاملًا مع طاقمها، وقد وفرت له ما كان يحتاج إليه، حيث الفرار والهروب من الماضي، من وجوه ألفها، ومن هاجس الرجوع والعودة. طالت فترة عمله وواجه خوفه مع البحر، ورغم مرور السنوات إلا أن البحر هزمه مرة أخرى ودفعه للبحث عن أرض صلبة أخرى ليستقر عليها.
«المحطة» هو عنوان الفصل الأخير، فصل النهايات السعيدة التي ضمنها الكاتب كل الحبكات التي حدثت، وامتازت بأنه لا يوجد خط للرجعة بل هناك خط لبناء حياة جديد، خط للاستكشاف والتجربة، خط للغوص في المجهول، وذلك ما جعل النهايات السعيدة تحمل في طياتها خيالات مفتوحة لدى القارئ وحده.
 
كاتب مثقل بقضايا مجتمعه
لأن أجمل الروايات أصدقها، وأقربها للواقع، فإن هذه الرواية كتبت بشكل يتيح للقارئ أن يلم بطبيعة المجتمع الخليجي والعربي على وجه العموم ويتعرّف على أدق مشاكله وقضاياه، لذا فإن ترجمتها إلى لغات أجنبية تفرض أولويتها، ففي سياق الأحداث يتعرف على فكر وعادات وتقاليد وظواهر وقضايا المجتمع في ذلك الزمان والمكان، ويمكنه أيضًا أن يسقط ذلك على المجتمع العربي أجمع نظرًا للروابط العديدة والصلات العميقة بين المجتمع الخليجي والمجتمع العربي. ولوضوح أكثر، فإن القضايا كثيرة شكّلت حبكات الرواية، وهي أساسًا قضايا المجتمع العربي وإن قلت أو ازدادت حدّتها. وتمثلت في: 
● تدليل الابن الأصغر عند أحد الوالدين. لقد كان بدر آخر أبناء مطر النعار والمحبب والمدلل لوالدته، الأمر الذي جعله لينًا وهينًا، وتلك الصفات غير محببة عند الأب الذي لطالما رآه ضعيفًا لا يقوى على مجابهة الحياة وتدبير شؤونه. من هنا يستشعر القارئ بالجفاء والانزعاج والبرودة في علاقة مطر النعار بابنه بدر. وتظهر المشكلة نفسها في الفصل الأخير حيث مشاري الابن المدلل وانزعاج والده منه.
● اتخاذ العبادات الإسلامية وسيلة لعلاج المشكلات النفسية والاجتماعية: أداء فريضة الحج، كان الحل المناسب الذي رآه الأب لعلاج مشكلة ابنه النفسية والاجتماعية لما فيه من صعوبات ومشقة في الطريق، إلى جانب الزحام الذي يلاقيه الحاج في أداء المناسك، الأمر الذي جعل بدر يشعر بأن الحج وسيلة اتخذها أبوه للتخلص منه! لقد درج بعض المسلمين على إلزام أبنائهم أداء العبادات بالقوة والإجبار والإكراه رغم عدم بلوغهم سن التكليف. 
● التكاثر والإنجاب من خلال الزوجة الثانية، وهو الحل في معظم المجتمعات العربية والإسلامية دون النظر إلى حالة الزوج العمرية والصحية والاقتصادية والاجتماعية. شخصية سعود - خال بدر - جسدت هذا الواقع، فهو البالغ 60 سنة، سافر إلى البصرة للزواج بفتاة فقيرة وصغيرة ولا مانع في أن تكون جميلة أيضًا كون دورها الإنجاب. ولأنه عادة ما يكون هذا الزواج سرًا، فقد أفقده زوجته الأولى ذات المكانة الاجتماعية المرموقة عندما شاع خبر زواجه.  
● العلاقة التي تجمع الرجل والمرأة قبل الزواج، تلك القضية التي كانت وما زالت شائكة ومريبة في بعض المجتمعات العربية، وذلك لأن الحب والألفة والقبول هي التي تدفع الطرفين للارتباط، في حين أن المكانة الاجتماعية والطبقية والحالة الاقتصادية يلعبان دورًا مهمًا في الزواج. بزة النعار وخليفة السياني جمعهما الحب والإعجاب، وتدخلت العادات والتقاليد حيث الأولوية لزواج البنت من أبناء عمها، لكن الكاتب كان له نهاية مغايرة ومحببة للقارئ. في الفصول الأخيرة يظهر تفهم أكثر من الأهل لهذه العلاقات خاصة إذا كانت تتجه نحو الزواج. 
● الزواج المختلط بكل أشكاله كان هاجسًا لدى الكاتب، سواء كان زواج الكويتي أو الكويتية من خليجيين أو عرب أو أجانب، وما يرافقه من اختلافات فكرية وعقائدية واجتماعية تلقي بظلالها على الزوجين وعائلتهما. إلا أن الكاتب مال إلى إنجاح كل تلك الزيجات، وذلك نابع من تفاؤله ودعمه للعلاقات الإنسانية وتسيد الحب والتفاهم فيها. 
● القضايا المالية في الماضي لم تأتِ من البنوك والمصارف، بل كانت من التجار، ولأن مجتمع الخليج اعتمد على البحر كمصدر للرزق فقد عمل معظم أبنائه في السفر والغوص على اللؤلؤ. الكاتب في روايته أوضح للقارئ أن هناك قرضًا ماليًا يعطيه النوخذة - قائد السفينة - للبحّارة والغواصين المحتاجين، لتدبير أمور أهليهم أثناء غيابهم على أن يتم تسديده بعد عودتهم. والد خليفة تراكمت عليه هذه المبالغ خاصة بعد اكتشاف اللؤلؤ الصناعي، فأجبره النوخذة على بيع بيته ليسترد ماله، ما دفع أسرته للانتقال إلى خيطان. والفصول الأخيرة يوظّفها الكاتب لتظهر في القروض والأقساط البنكية التي قد تحد من حرية المتعثر لتلزمه بالسداد. 
● العرب مكون أساسي في كل المجتمع الكويتي، بل إن أي أرض آمنة باختلاف موقعها هي قبلة لكل الفارين من الحروب والأوضاع المتردية. لقد رسم الكاتب شخصياته بدقة عكست واقعًا لا يمكن نكرانه، فقبل تدفق النفط اعتبرت الكويت تحديدًا مجتمعًا منفتحًا تجاريًا وثقافيًا على الآخر، ومكانًا جاذبًا وآمنًا للعيش والاستقرار. فشخصية محمود الفلسطيني كانت الكويت ملاذه وللعديد من الفلسطينيين، وفيما بعد لابن أخيه عاطف صاحب محل العقار، محفوظ المهري بائع الأقمشة المتجول الذي برع في تجارته رغم بساطتها، ذلك حال الكثير منهم، فقد وفروا للمرأة احتياجاتها في عقر دارها، بأمانة مادية وأخلاقية، وتوفيق السميعي زوج خالة خليفة الزبيري، وجميلة زوجة الخال سعود العراقية، وكرامة اليمني الذي عاش في بيت خليفة كمربٍ وعامل ومحب له ولأبنائه، وبربارة ونور الدين الهندي وآخرين وظفهم الكاتب لتعكس غنى المجتمع الكويتي بالتعددية الثقافية ورحابة الشخصية الكويتية التي تعايشت مع معظم الجنسيات. 
● التعليم ومحو الأمية: من القضايا التي سعت دولة الكويت وفي وقت مبكر جدًا - مقارنة بدول المنطقة - إلى القضاء عليها. وأحسن الكاتب حين أشار إلى ذلك بذكره فتح فصول تعليمية لمحو أمية الكبار، وأوضح أنها كانت تستقبل الجميع باختلاف أجناسهم وجنسياتهم. وقد بيّنت الأحداث إقبال وحرص المرأة الكويتية على التعلم - والدة خليفة - ودفع أبنائها للتعلم واستكمال تعليمهم. 
من جانب آخر، يوضح الكاتب إشكالية الابتعاث الدراسي الذي لحق به الراغبون في استكمال دراساتهم العليا في الدول الغربية، وما صاحبه مما يمكن أن نطلق عليه التغريب أو صراع الحضارات، حيث حب الانفتاح والانخراط بالمجتمعات المتحررة مقابل العادات والتقاليد العربية والثقافة الإسلامية ■