دور المستقبل في مذكرات المستشرق كارل بروكلمان

دور المستقبل في مذكرات المستشرق كارل بروكلمان

تختلف السير الذاتية حسب الثقافة الصادرة عنها، ويبدو الاحتفاء بالذات والدوران حولها أساسًا لتدوين السيرة لدينا، بداية من العنوان الذي يأتي - غالبًا - متضخم الأنا، ولافتًا نظر القارئ  إلى أنه أمام «كيان كبير» لم يكن تضييع تاريخه أمرًا واردًا. وعلى هدي من هذه الملاحظة المبدئية يبدو توقعنا لمذكرات كادت تضيع لدى الألمان، وتأخرت ترجمتها لدينا؛ وهو المستشرق الألماني الكبير كارل بروكلمان (17 سبتمبر1868-6 مايو 1956)، وهو اسم مألوف للغاية بداية من سِفره الضخم - وهو بحثه للأستاذية - «تاريخ الأدب العربي» (ترجم في ستة مجلدات)، فضلًا عن «نحو اللغة العربية» و«المعجم السرياني»، وليس انتهاء بعضويته لمجمع اللغة العربية بدمشق، وصيحته الخالدة بشأن المعجم التاريخي. 

 

هو واحد من أسماء باذخة مثل أستاذه نولدكه، وفيشر، وزاخاو. يقدمها د. الفارس علي، وصدرت عام 2023 في مصر بعد أعوام من دراسته بجامعة برلين الحرة، فأسدى
د. الفارس لنا معروفًا بهذه الترجمة الرائقة، في انثيال للأفكار، ودون تقعر، ومع اهتمام بشرح التعالقات الثقافية التي خبرها أثناء إقامته الطويلة بألمانيا، وليسدد بعض ديوننا تجاه الاستشراق الألماني الموضوعي الممتد وصولًا إلى توماس باور وغيره من المعاصرين.
لم يكتب بروكلمان سيرته تمجيدًا لذاته، لكنه كتبها لابنه الذي كان في عداد المفقودين خلال الحرب العالمية الثانية، إلا إنه نجا من معركة ستالينجراد الشهيرة (أغسطس 1942 - فبراير 1943). وإذا كان «اليأس حر، والأمل عبد رقيق» وفقًا لمقولة المثل الغربي، فإن المستشرق الكبير كان يؤوده الاعتراف بغياب ابنه نهائيًا، ويطارد طيفه رغم ويلات الحرب واستمرار المعارك طويلًا، وضعف الأمل في عودته مع ارتفاع الضحايا ووصولهم إلى مليوني شخص. وفي معرض تذكر حياة ولده وولادته مع اندلاع الحرب الأولى فكأنه منذور للحرب، ويقيم توازيًا بين حال بلاده واطراد قلقه على ولده وكيف تنامت مشكلات الحرب، موازيًا بين تراكم مشاكلها وتنامي اليأس من حلها معادلًا لتواري الأمل - غالبًا - في عودة الابن. لقد بدا مستعيدًا لحياته الباهتة مع غياب ابنه، ومؤملًا أن يكون رجوعه فاتحة لحياة حقيقية جديدة.
 يوجه بروكلمان سيرته بضمير المخاطب موجهًا الخطاب إلى ابنه المفقود خلال الحرب العالمية الثانية، مستحضرًا وجوده، ومتشبثًا بالأمل في عودته قريبًا، ويستشعر وجوده بداية من الحديث عن العائلة وجذورها، ويرصد من دون أسى تراجع المستوى المادي لوالده وتحوله من تاجر شهير إلى مدير لمحل بقالة، في لغة تجمع بين الجدية الواضحة والسخرية المرة.
 تسير الكتابة على نحو مطرد، لا ينكسر فيه زمن، ولا تتداخل أزمان سرده، لكنه يقوم بقص سيرته على نحو أفقي؛ منتقلًا من استدعاء جذور عائلته إلى الطفولة وذكرياتها وصولًا إلى دخول المدرسة الاعتيادية، وهكذا على نحو لا مكان فيه للعودة إلى الماضي أو استشراف المستقبل بما يرجح أنه كتب هذه السيرة على شكل يوميات تم جمعها على نحو أفقي متتابع، أو أنه قام بتدوينها في فترة متقاربة للغاية.
وبعد فترة من التأرجح بين الدراسة العلمية والأدبية رجحت دراسة اللغات غيرها من اهتماماته، وبخاصة مع إتقان العبرية والسريانية والآرامية التوراتية سريعًا، وبدت نداهة دراسة اللغات مسيطرة عليه، ويظهر مع سريان نصه إتقانه - نسبيًا - للتركية، ثم الإنجليزية.
 ويبدو مشواره العلمي هاديًا وإمامًا وصولًا - في مشواره الأكاديمي - للعمادة، ثم ترأس الجامعة في يوليو 1918. ويقدم نفسه شاهدًا على تحول المجتمع إلى المنزع الاشتراكي، وتحدث بإيجاز - له أسبابه - عن مناهضته للنازية وسعيه نحو «إعادة الإعمار»، وذلك في لغة تتخفف من الوصف إلى درجة تقترب من الصفر؛ ذلك أنه يطارد الفكرة ولا يهتم بتحكيكها.
 ولم يكن البعد الفني واحدًا من همومه، بل انصرف إلى التركيز على الجانب التسجيلي منها، مع استطراد في بعض الفقرات أو أغلبها جعل العمل مصابًا بطول الفقرات التي لا تتنازل عن ضمير المخاطب الذي يؤنس كارل بروكلمان توجهه إلى ابنه مستحضرًا إياه بمزيد من الأسى، وكثير من المحبة. ولا يبتعد طول الفقرة عن بعض التداعي الذي يسم السيرة، فنجده ينتقل من مسيرته العلمية الأولى ثم ينتقل فجأة لذكرى والده وعدم وجود سيارة دون أدنى اتصال إلا الانثيال الذي يربط تدفق السيرة في شكل إنساني بعيدًا عن الاعتبارات الفنية.
ومن العسير أن تجد في سيرته تضخيمًا لذاته، أو اعتدادًا بمنجزه العلمي، وما جاء من ذلك ظل محكومًا بسياق بعيد عن التفاخر، ولكنه للعظمة يضع الأمر في إطاره، ويرده إلى سياق العام لازدهار البحث العلمي وأحوال الجامعة في فترة الإمبراطورية الألمانية الثانية (1871-1918)، فلا يقدم ذاتًا متضخمة تدور حول ذاتها، وذلك في كل مراحل حياته طفلًا أو شابًا أو مشرفًا على الموت، ولا يدعي لذاته قدرات كبيرة في العلم باستثناء تيهه وفخره بإتقان العبرية صغيرًا. وفي الإطار ذاته لا يصور نفسه منكبًا على القراءة ليل نهار، لكنه يفيض في الحديث عن النزهات والتعارف، وقد يقبل مؤتمرًا بالجزائر لرغبته في زيارة المغرب. وتحت ثنايا حكيه التلغرافي تلمح اعتزازًا برحلته إلى تركيا وبعض الأسى لقصر زيارته لباريس. ولعل هذا البعد البشري، مخاصمة الأسطرة كان مفردة من «نحو» تأليف السير الغربية.
   يتقدم البعد الشخصي والإنساني على سواه، حتى في حديثه المقتضب عن بعض أفراد عائلته، فيلح على نجاح هذا في زواجه، وإسهام هذه في العمل الاجتماعي أو نجاة ذلك من المرض واعتلال الصحة، وقد ترتفع مكانة قريب لديه بسبب سجاياه الحميدة كالإيثار ونكران الذات. نحن نتعامل مع البشر ولسنا قيمين عليهم.
تلتزم أغلب سيرهم كثيرًا من الموضوعية، ولا تتقنع بمثل عليا، وعلى النقيض فقد يكثر لديه نقد ذاته وصفاته الشخصية ومعاناته في التواصل الاجتماعي. ينفر من التجمل وتصدير صورة مثالية عن نفسه، بل تجده يجاهر بموقفه من الأديان، أو بعضها، مستبعدًا صفات النبل والكرامة عن بعض أصحابها، ولا يتوارى من إعلان بعض عنصرية بغيضة، وموقفًا سلبيًا من البشرة السمراء، وقد تمدح صدقه وعدم ادعائه بالقدر الذي قد تلومه على عدم الموضوعية التي يُفترض أن تلازمه عالمًا ثابتًا، وهو الأمر المنعكس في تأكيد أفضلية أصله القديم، والتأكيد على علو شأن عائلته اعتمادًا على ذاتها أو إضافتها إلى بعض الأعلام. 
لا تستطيع أن تتخلص من بعض عنصرية تخص الجنس الآري، ولم يفلت منها كارل بروكلمان الذي يبدو شخصًا فولاذيًا يُظهر كثيرًا من التواؤم مع ظروفه الخاصة، ويستطيع التعامل مع دخل مادي أقل بمنتهى الأريحية، غير أن القلق يأكله جراء القلق على بلاده مع تغول الاشتراكية وجموح النازية وتأرجح وطنه بين العلو والانخفاض ليكون أمره موافقًا لمقولة جرامشي الشهيرة: «تفاؤل العقل وضعف الإرادة»، ويشير لاشتباك الأكاديمية بالسياسة مع سيطرة النازيين، وشيوع تهمة «خيانة الوطن» التي طالته هو شخصيًا، كما تعكس بعض فقراته كثيرًا من أساه لهزيمة بلاده، ويؤكد تنبؤه بسقوط بلاده وتقسيمها بعد ذلك.
  يقدم كارل بروكلمان صورة للمجتمع الجامعي وتحضر داخل صورته بعض الأفعال البعيدة عن المثالية اتساقًا مع أمانة الصورة التي يعتمدها وعدم المثالية، ويصرف فيشر وزاخا وهارتمان صوب الاعتلال الذي يلازم البشر ولم يقدمهم ملائكة بلا أخطاء. وتتنوع مثالبهم بين الإفراط في الخمر والاهتمام المطلق بالمصالح وبعض من التآمر ونسبة من الفساد الذي لا يهدم المجتمع الأكاديمي المحكوم - في النهاية - بالقانون، لكنه يقدمه بشريًا منقوصًا بالضرورة لا ملائكيًا كاملًا، فيرى الأشخاص والجو الأكاديمي بحجمه الحقيقي دون مرآة مقعرة أو محدبة. كتابة تسجيلية تخلو من تحيزات فجة أو عاطفية ساذجة. ولا يجذبه شيء في أساتذته قدر التجرد للعلم والبعد عن المظهرية والاستعراض. يأسره الإخلاص ولا يبني وجهة نظره على مجرد السمعة دون الإتقان الفعلي على أرض الواقع.
 تدعمه ثقافته المغايرة في إظهار امتنان كبير لوالدته، أو المجاهرة بحصوله على منحة دراسية لسوء أوضاعهم الاجتماعية والمادية.
لا مكان لخجل من ظروف، أو ادعاء لفضيلة، أو خجل من تناوش الظروف وتناوب الدهر عليه، مع ضعف عاطفي سيطر عليه، حتى عودة ابنه من الأسر عام 1950. 
استدار الزمان على كارل بروكلمان واضطر في أيامه الأخيرة - وهو رئيس جامعة سابق - أن يتكفف حاجاته الأساسية من الجمعيات الخيرية، وإذا كانت أيادي كارل بروكلمان البيضاء كبيرة على التراث العربي والدراسات الاستشراقية-مهما اختلف الكثيرون على منجزه - فإن كثيرًا من شفافية السيرة ونداوة الذكريات لديه كان من الغبن أن يضيع ■