لماذا اخترت هذه القصص؟

لماذا اخترت هذه القصص؟

تعالج هذه القصص الثلاث موضوعات مختلفة، اجتماعية ووجودية وخيالية/تعليمية، الأولى تعرض حياة الأسرة وتسلّط الضوء على العبء الثقيل الذي تضطلع به المرأة فيها. والثانية تصوّر ثقل الفراغ على حياة الفرد والذي لا يبدده غير وجود الآخر أو الكتابة. والثالثة تحمل فكرة طريفة عن الأعداد، وكيفية تطورها من الأعداد الفردية إلى المركبة إلى المعطوفة.  نجد في هذه القصص الثلاث العمقَ والخيال والطرافة على تفاوت. وهي كلها تمتاز ببنائها السردي المتين، وبهندستها المتقنة التي حصرتها ضمن موضوعها وجعلتها تكتفي بالتفاصيل البسيطة الدالّة. كما تمتاز بخلوّها من الزخرفة اللفظية، وابتعادها عن الأسلوب الإنشائي الذي لا يتلاءم مع القصة القصيرة. 

المرتبة الأولى:  «قبل شروق الشمس» لسحر خواتمي/ألمانيا
تتميّز هذه القصة بالبساطة والذكاء، البساطة في الموضوع، والذكاء في طريقة العرض، وهي تدور حول عائلة مؤلفة من زوج وزوجة وطفلين، لكنها تثبّت نظرها على الزوجة خصوصًا، وعلى دورها في حياة الأسرة، لهذا تروي بضمير المتكلم العائد إليها. تبدأ المرأة يومها مع انطلاق صوت المنبه بينما تكون في عميق حلمها، فتنهض لتوقظ الزوج والأطفال، «فيبدأ الشجار حول ما سيلبسون، وما سيأكلون، وكم من الحليب سيشربون.  وبعد استنزاف قوّتي ننطلق معًا، أودّعهم عند بوابة المدرسة، وأستأنف طريقي إلى مقرّ عملي».  لكن هذا العمل المرهق لا يقتصر على الفترة الصباحية من يومها.  فما إن ينتهي دوام العمل حتى تسرع إلى البيت لتحضير الطعام، ثم لجلي الأواني والصحون وترتيب المنزل. لهذا حين ينام الأولاد لا تجد سوى القليل من القوة والوقت للسهر مع زوجها، لذا جاء حضور الزوج في القصة باهتًا، فنحن لا نراه إلى جانبها في أي شأن، لا يقاسمها أعمال المنزل اليومية ولا يشارك في أي منها، لهذا لا يتبقى لها وقت لتشاركه حياته كما ينبغي أن تفعل. 
تستخدم هذه القصة وسيلتين مختلفتين لتسليط الضوء على دور الزوجة، أولاهما التكرار، لكنها لا تكتفي بالأفعال الدالة عليه، مثل «ككل يوم»، «ككل صباح»، بل تلجأ إلى إعادة سرد الجزء المكرّر من عمل المرأة اليومي لترسيخ الصورة وإبلاغ الرسالة.  ولا شك أن تكرار جزء بكامله من القصة أكثر من مرة يرهق القارئ، وهذا الإرهاق المقصود هو ما يدفع القارئ إلى تمثّل الإرهاق الذي تعيشه المرأة ووعي تأثيره على جسدها وروحها. كما أن هذا التكرار يوضح أن المرأة تعيش في دوامة من العمل المرهق، فلا شيء في حياتها يتغير، ولا شيء في سلوك زوجها يتغير، فهو لا يشعر بثقل أحمالها، ولا يشاركها فيها، ولا يفكر في التخفيف عنها، لهذا لا تختلف صورته في القصة عن صورة الطفلين.
الوسيلة الثانية التي استخدمتها القصة لتسليط الضوء على ثقل أعباء الزوجة هي الأحلام، ففي بداية زواجها تغفو الزوجة فترى نفسها في أرضٍ جرداء، لا مرج فيها ولا ماء، وحين تتحسّس جيبها تجد بذورًا. وفي ليلة لاحقة تغفو فترى نفسها تزرع بذورًا في أرضٍ جرداء، ثم تتحسسّ جيبها فتجد قربةً صغيرة. وفي ليلة لاحقة تغفو فترى نفسها تسقي نباتاتٍ صغيرة، ظهرت بداياتها، ونمت أطرافها، كانت قد زرعتها في أرضٍ جرداء. وفي ليلة أبعد ترى نفسها في روضةٍ غنّاء، يكسوها المرج ويجري فيها الماء، تحفّها الأشجار وتزيّنها الأزهار، وفجأةً ترى عاصفةً مقتربة، فتخاف، وتتساءل «كيف سأحمي روضتي الجميلة!»، ثم كالعادة، في منتصف الحلم، تستيقظ على صوت المنبّه.
هذان الوجهان من حياة المرأة، الحَمْل وما يرافقه من مسؤولية والحياة اليومية وما تفرضه من أعباء، يرسمان حياة المرأة الواقعية، حياة تعب ومسؤولية وحياة فرح أيضًا إذا ما أحسنت العناية بروضتها الجميلة التي تشعر بأنها لها - وهذا ما لا شك فيه - وقد تشعر أحيانًا بأنها لها وحدها حين يكون الرجل على شاكلة الزوج في هذه القصة. 

المرتبة الثانية: «حياة» لهادي جمال شبلي/لبنان
منذ البداية تضع هذه القصة شخصيتها الوحيدة في جوّ من الاختناق، فنراها داخل غرفة لا باب لها، تحاصرها الطبيعة بشمسها الحادّة وصحرائها الجافة والصمت، فلا حركة ولا صوت ولا أثر للحياة. والأسوأ من الحصار هو الفراغ الذي يدخلنا الكاتب إليه بتصويره المقتضب الحيّ لأعماق الإنسان الذي وُلِد ليعيش مع الآخرين، مع كل الأحياء من البشر والحيوان والنبات، «تملّكني حنين غامضٌ إلى أيّ كائنٍ حيّ». 
الحصار الذي أحاط بالشخصية في القصة أصعب من حصار السجن الانفرادي، لأن السجين المعزول يعرف أن وراء جدران الزنزانة مساجين وحراسًا. زنزانة الشخصية القصصية ليست داخل سجن بل داخل الوجود، إنها زنزانة وجودية تملأ القلب بالفراغ والصمت ولا تسمح بغير اليأس، لهذا أصبح صوت الشخصية محبوسًا في داخلها. ولهذا صار وجود الآخر حاجة ملحة، حتى لو كان هذا الآخر عصفورًا، أو صرصورًا.  صارت الشخصية تضع فتات الخبز على حافة النافذة علها تجذب عصفورًا جائعًا، وصارت ترمي السكر على الأرض لعله يغري صرصورًا مختبئًا بالظهور. 
وحدها الكلمة المكتوبة فكّت الحصار الخانق، وحدها الكتابة أعادت الحياة إلى الوجود وأعادت اصوات الطيور واخضرار الشجر ومنحت الروح امتلاء وطمأنينة.  هذه القصة مديح للكتابة وللكلمة، ومديح للآخر أيضًا مهما كان مختلفًا، ربما هذه أبرز نقاط قوتها. 
ولا بد من التنويه بسلامة لغتها وسلاسة عباراتها وطلاوة ألفاظها وراهنية موضوعها ومعالجتها.   

المرتبة الثالثة: «قصة ثورة الرقمين واحد وصفر» لمسعودة بوقرينات/الجزائر
تقدّم هذه القصة الأعدادَ الفردية والمركّبة والمعطوفة في سياق سردي طريف، فقد شخّصت الأعداد الفردية ومنحتها صفاتٍ وأحاسيسَ وطموحًا، وصوّرت علاقة الكبير منها بالصغير على شاكلة علاقة القوي بالضعيف والغني بالفقير. ثم بيّنت كيفية تغيّر المواقف بتغيّر الأحوال، فالعدد صفر الذي حاولت الأعداد الفردية الكبيرة قتله لأنه لا يساوي شيئًا، والعدد واحد الذي احتقرته لأنه لا يساوي سوى نفسه، اتّحدا، فأصبحا عشرة وتفوّقا على أكبر خصومهما، أي الرقم تسعة، فالتفّت هذه الأرقام حولهما تعتذر وتتودّد. ثم بدأت هي أيضًا تتّحد ثنائيًا وتكوّن أرقامًا مركبة، ثم تطوّرت الاتحادات وتجاوزت الثنائيات فوُلدت الأعدادُ المعطوفة.  
لا تعالج هذه القصة موضوعًا اجتماعيًا إلا من خلال فكرة التعاون تطبيقًا للفكرة التي تنسب إلى أبراهام لينكولن «في الاتحاد قوة». وهذه الفكرة تنطبق على الأفراد وعلى الجماعات كما تنطبق على الشركات الاحتكارية. غير أن القصة لا تذهب في هذا الاتجاه، بل تبقى في نطاق الأعداد، وتصبح أقرب إلى القصص التربوية التي تعلّم الأولاد أنواع الأعداد وتركيبها. 
 الوجه السلبي في هذه القصة هو ضعف لغتها، فالأخطاء فيها من كل صنف... إملائية ولغوية ونحوية.