تعاقب الأجيال... وبناء الحضارة

تعاقب الأجيال... وبناء الحضارة

يشهد كلُّ قرن من الزمن ثلاثة أجيال، إذ إنّ الجيل حسب عالم الاجتماع الألماني المفكر «كارل مانهايم» هو ثلاثة وثلاثون عامًا؛ وهناك مَن يرى أنّ ثلاثة أجيال تعادل وتساوي تسعين عامًا؛ وهي مدة زمنية كافية كي يحدث إقلاعٌ حضاريٌ متكامل الأركان، أو نهضةٌ وتنميةٌ تطال مختلف جوانب مجتمع من المجتمعات أو أمة من الأمم، شرط أن يحمل أحد تلك الأجيال راية شعلة التغيير والبناء الاجتماعي والفكري والحضاري، لا سيما إذا تهيأت له الظروف المناسبة، سواء فيما يتعلق بالإرادة السياسية، أو فيما يخص الإمكانات العلمية والمادية ونحوها.
وتعاقب الأجيال سنة من سنن الله تعالى النافذة في صيرورة التاريخ والاجتماع البشري، ومن وجهة النظر القرآنية فإنّ كلّ جيل مسؤول عن الجيل الذي يليه على الأقل، وبما أنه معاصر له  - مع فوارق العمر- فإن أهمّ رسالة ينبغي أن يتكفل بها تتمثل في التربية والترشيد والتأهيل.
  وقد نبّه القرآن الكريم في مواضع كثيرة منه، إلى هذه المسألة الحيوية الحساسة، كما نجد ذلك مثلًا في قوله تعالى: ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133].
ونبيّ الله يعقوب عليه السلام، قال ذلك في أيامه الأخيرة، أي إبان مرض الموت، وأولاده جميعًا بلغوا سن الرشد، بل منهم مَن هو نبي، ومع ذلك كله فهو لم ينسَ همَّ التربية وواجب التذكير بالعقيدة، وما يجب على أبنائه من بعده القيام به. إن يعقوب عليه السلام يمثل جيلًا من الناس، بينما يمثل أبناؤه الجيل الذي يليه، بيد أنّ الواجب المتعلق بقيام الدين والسلوك القويم ظلّ حاضرًا في فكره إلى اللحظة الأخيرة.
ولا غرو أنّ في ذلك إشارة مهمة إلى أنّ الاستمرار في النصح والتوجيه والتربية، والتخطيط المتواصل لها، وتسجيل أهمّ ثمارها للأجيال القادمة، إنما هو من أوكد الواجبات التي ينبغي التكفل بها على كلّ مَن وضعته الأقدار في الحقل التربوي، والعلمي والثقافي والإعلامي.
إن كلّ الأمم التي تمكّنت من القوة المادية، وأسست حضارة شامخة، عرفتْ المدخل الصحيح وتنبّهت إلى سر المعادلة الحضارية، وهو بلا ريب، بناء الإنسان والاستثمار في التربية والثقافة والعلم؛ فهذه المعادلة الذهبية هي الضامن الحقيقي لإنجاز نهضة أي أمة من الأمم وتقدمها ومنعتها الحضارية، بكلّ ما تعنيه من دلالات ومقاصد ■