تارودانت مدينة بنكهة التاريخ

تارودانت  مدينة بنكهة التاريخ

حين تقبل على مدينة تارودانت ستتراءى لك حمامـة خضراء، نائمة في حضن سهل سوس جنوب المغرب، وفي حراسةٍ يَقِظَةٍ للأطلس الكبير الذي يفصل بينها وبين مراكش الحمراء شقيقتها ونظيرتها في تقاسيم كثيرة، بنخيلها وزيتونها وفنونها وتقاليد أهلها وألوانها التي رسمها التاريخ وشومًا ساحرة على محياها المتبسم. تبهرك طبيعتها الحالمة الندية، ويطربك خرير سواقيها المنسابة نحو البساتين والعرصات الحانيات بأفيائها. تستدرجك لتستسلم لغنج النسيم إذا يخاتل جمالَ النساء المتلفعات بالملاحف البيضاء والزرقاء حين يحتفين بمهرجان البهاء في عيون النخيل الباسق المتشح باللبلاب المزهر. تقودك العطور المنداحة من أعطافهن ممزوجة بأشذاء زهور البرتقال في ضيعاته المحيطة بالمدينة، ولا تملك سوى الخضوع لإلحاح الرغبة في اكتشاف ما تيسر لك من الأسرار الكامنة في الجيوب الخلفية لهذه المدينة البديعة.

 

تستهويك الأسوار العالية التي يبلغ طولها 7.5 كلم، وعرضها 3 أمتار، وارتفاعها 10 أمتار. يتخللها 130 برجًا مستطيلًا و9 حصون، وبه خمسة أبواب، هي: باب القصبة وباب الزركان وباب تارغونت وباب أولاد بونونة وباب الخميس. ويصنف الأول إفريقيًا، والثالث عالميًا من حيث الضخامة، بعد سور الصين العظيم، وسور كومبالغار بالهند. وطالما درأ عن تارودانت غوائل المحتلين فكسر شوكة جبروتهم، ومازال يختزن ملامح الملاحم البطولية.
يجتاحك الحنين إلى أمجاد خلدها الزمان، وأنت ساهم الفكر أمام مآثر تارودانت المتناغمة في هرمونية مغربية أندلسية بديعة، فتتذكر بلوعة حزينة نسمات وظلال غرناطة وإشبيلية وطليطلة ومرسية وجيان وقرطبة وشقيقات لها أخريات انفرط عقدها الفريد، وضاعت منا في غبار الزمان. 

الدهشة والسحر
تقودك الدهشة لتتوغل في أزقتها القديمة الضيقة، ترشدك حوريات مجنحة غير مرئية إلا لذوي النفوس المرهفة التي تقدس الجمال وتدرك مكامن نواميسه، تسحرك الأقواس والظلال في الأسواق القديمة، فتحسب نفسك في أحد أسواق فاس أو القاهرة القديمة أو دمشق أو مراكش، أو ما شئت من المدن العريقة. وحين تتقدم أكثر، تصادف التاريخ متربصًا بك في كل زاوية، فتراه متكئًا في هدوء، يدير دواليب السنين في صمت ناطق بآلاف المعاني، ويكشف في حديثه المرموز عن نواميس كثيرة للباحثين عن خبايا الأحداث التي جعلت تارودانت تنهار مرات عديدة وتولد من جديد نافضة عنها رمادها كطائر فينيق عنيد. ويستبد بك الإغراء لزيارة صروحها العلمية العتيدة. فتلج معهد محمد الخامس للتعليم الأصيل الذي تخرجت منه خيرة الأطر من المغرب ومن دول إفريقية أخرى تولى أغلبها مناصب سامية ومراتب عليا في التعليم والقضاء والسياسة وغيرها. 
وتعرج على الجامع الكبير الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى ما يربو على خمسمائة سنة، وقد تم تجديد بنائه في عهد الدولة السعدية على يد السلطان محمد الشيخ السعدي. وقد لعب هذا الجامع أدوارًا كبيرة في مختلف المجالات الدينية والعلمية والفكرية والسياسية والاجتماعية، كما ذكر المستشرق ليفي بروفنسال بعد زيارته للمدينة. 

بين مد وجزر
مدينة تارودانت مزيج متجانس من الألغاز الجميلة، بدءًا من اسمها الذي حيكت حوله قصص كثيرة، منها ما ينسبه إلى هضبة خضراء مجاورة لها، وأخرى إلى أن أصله «تَارْوَا دَّانْ»، وهي عبارة أمازيغية تعني أن: «الأولاد ذهبوا»، إذ يحكى أن امرأة أطلقت هذه العبارة وهي تصرخ بعدما جرف «الوادي الواعر» أولادها إثر فيضانه وهجومه على المدينة، وهو واد كبير يتوازى مع وادي سوس، ويحاصران المدينة بينهما، لتظل مهددة بسيولهما الجارفة في كل شتاء.
أما تاريخ تأسيس تارودانت فقد اختلف عليه المؤرخون، لكن المشهور أنه تم على أيدي أمراء هشتوكة وجزولة الأمازيغ قبل الفتح الإسلامي للمغرب بقرون عديدة، وجعلوها مركزًا سياسيًا وتجاريًا مهمًّا في منطقة سوس، حتى صارت بوابة رئيسية للتجارة مع إفريقيا.    
في سنة 62هـ وصلها الإسلام على يد عقبة بن نافع ثم موسى بن نصير بعد ذلك، لتخضع لحكم الولاة الأمويين كباقي حواضر المغرب. وبقيت تلعب أدوارًا كبيرة في الحياة السياسية والعلمية والاقتصادية المغربية في عهود الدول: الإدريسية، والمرابطية، والموحدية، والمرينية، والوطاسية، لكنها بعد ذلك ستعيش على إيقاع المد والجزر في استقرار أوضاعها، واستطاعت الصمود بعد صعود نجم الدولة السعدية (1554-1659م) وبخاصة أمام  مضايقات البرتغاليين الذين تَغوَّلوا ثم حاولوا أن يتوَغَّلوا في مناطق سوس، بعدما احتلوا ثغورًا أخرى على الساحل الأطلسي، قبل أن يتم دحرهم في معارك كثيرة كان أشهرها معركة وادي المخازن. 
 في عهد السعديين ستعرف المدينة أبهى عصورها، لتصبح ضمن أركان الثالوث الذهبي للحضارة المغربية آنذاك، وهي تارودانت ومراكش وفاس. وخلال تلك الفترة حرص السعديون على استغلال موقعها الاستراتيجي، فجعلوها مركزًا مهمًا يتحكم في شرايين التجارة المرتكزة على البضائع المختلفة، بين المغرب وأغلب البلدان الإفريقية، كالنسيج والحرير والجلود وغيرها. لكن صناعة السكر كانت لها الأولوية عند السعديين لما لها من مردودية تجارية انعكست إيجابيًا على اقتصاد المغرب في ذلك الحين، وما زالت بقايا معامل السكر بإحدى ضواحي تارودانت تشهد على ذلك. وفي ظل الازدهار الاقتصادي، تطور العمران الذي اكتسى الطابع الأندلسي، كما ازدهرت العلوم الدينية واللغوية والآداب والفنون، فتحول جامعها الكبير الذي بني على غرار جامع القرويين إلى جامعة مهمة تستقطب الطلبة من جميع أنحاء المغرب وخارجه.

في قلب الفتن    
شهدت مدينة تارودانت مع مطلع القرن السابع عشر الميلادي كارثة كبيرة، متمثلة في الطاعون الذي اجتاح المغرب، وقد ظل مخيمًا عليها أكثر من عشر سنوات، وأودى بحياة السلطان أحمد المنصور الذهبي 1549 /1603م. وبعد وفاته وقع الخلاف بين أبنائه حول الحكم، مما أدى إلى فتنة كبيرة انقسم على إثرها المغرب إلى مملكة فاس ومملكة مراكش، وبذلك تراجع نفوذ تارودانت، وخضعت لسلطة مملكة مراكش. 
بعد سقوط الدولة السعدية وصعود الدولة العلوية سنة 1666م، استردت تارودانت دورها، لما تُوفره من موارد اقتصادية، ولموقعها الإستراتيجي كقلعة حصينة في أحضان سهل سوس المحمي بجبال الأطلس الكبير والأطلس الصغير، رغم أن هذه المرحلة لم تَخْلُ من الفتن، فقد حاول المولى الحران أخو السلطان مولاي إسماعيل الاستئثار بإقليم سوس وجعل تارودانت عاصمة له. غير أن السلطان أرسل إليه جيشًا كبيرًا فقضى على الثورة، وولى ابنه محمد العالم أَمْرَ تارودانت، وعادت إلى استقرارها، ونشطت فيها الحياة العلمية والثقافية، وتحول مجلس الأمير محمد العالم إلى منتدى أدبي يفد عليه الشعراء والأدباء من فاس ومكناس ومراكش وغيرها من حواضر المغرب. لكن الأمير محمد العالم ركبه الطمع في الملك، فثار على أبيه المولى إسماعيل فبعث إليه ابنه زيدان فقضى على ثورة محمد العالم، وكلف ابنه عبدالملك بن إسماعيل أمر تارودانت. وبعد وفاة المولى إسماعيل ستعيش المدينة ما عرفه المغرب عامة من فتن واضطرابات. ورغم أنها عادت إلى استقرارها في عهد السلطان محمد بن عبدالله، إلا أنها  فقدت أدوارها بسبب الاضطرابات السياسية، فانهار مركزها التجاري المؤسس على التجارة وصناعة السكر، وفقدت السيطرة على الطرق التجارية. وفي ظل هذا التحول، بقيت أنشطتها الاقتصادية مرتكزة على الفلاحة. وقد ظل إقليم تارودانت مركزًا فلاحيًا لإنتاج زيت الزيتون والخضر والفواكه والحوامض، وتصديرها إلى الدول الأوربية والإفريقية إلى اليوم ■