البصرة الدنيا «بصرة» على شط العرب

البصرة  الدنيا «بصرة» على شط العرب

بدا لي أن الموعد مع هذه المدينة جاء متأخرًا، وأنه ما كان ينبغي لي أن أمضي كل ما مرّ من عمر بدون اللقاء بهذه الجميلة المدعاة بالبصرة، ولكنيّ ألقيت بحمولة المبرّرات على تاريخها المثقل بالآلام والحزن... وبالدم، حيث علاقتها به كعلاقتها بالماء، يحيط بجسدها من كل حدب وصوب، ولا ينافسه على سطح أرضها إلا ذلك الذهب الأسود في باطنها.
وشدّتني عيون البصرة إليها، فقلت لا بد أن أبصرها رؤيا العين، فمن رأى ليس كمن سمع، ومن سار على طين الخطوة لا يشبه من بقي يرمق شموخ النخيل من بعيد، فلا بد من رائحة الأرض وظل النخل.

 

أمضي إلى البصرة بفرح، كمن يذهب لملاقاة حبيبة بعد غياب، هذه الخارجة من رحم التاريخ، المتشظية بإحداثيات الجغرافيا، الساكنة فينا ككيمياء، وتمنح الأحياء دموع صبرها على ما فجعت به... وما أكثره.
إذن هذه هي البصرة، كما نطقتها الكتب القديمة والحديثة، وكما كتبت قصائدها على ضفتي شط العرب، ومثلما عرفت من أحداث عبر تاريخها، وصولًا إلى ما قاسته خلال العقود الأربعة الأخيرة، مدينة زحفت إليها الأقدام، طلبًا للعلم والرزق، أو للهيمنة عليها، فينهض تاريخ أمامي، تختلط فيه أحوال السياسة بالدين فلا يكاد المرء يستطيع عزل الديني عن السياسي... وعن العلمي أيضًا!
يأتيني صوت الشيخ الأباضي جابر بن زيد يلقي براحلته في البصرة، يخبئ ثورته تحت العمائم التي يعرف نواياها ولاة بني أمية، فيعود إلى وطنه عمان بعلمه الذي اكتسبه من ابن عباس والحسن البصري وابن سيرين.
وأقف أمام تمثال الخليل بن أحمد الفراهيدي، مهاجر آخر من عمان، لا يعرفه العراقيون إلا أنه ابن البصرة، وفيها رسم خطوط علم العروض ووضع كتابه العين.
وكأني ببني العباس يمعنون في تعقّب ما تبقّى من الزمن الأموي، وتضيق صدورهم بما يتوارد إليهم من ثورة الزنوج، يخشون مآلات من سبقهم، مع أن حكم التاريخ ماض، لا ريب فيه ولا جدال، حيث لا يبقى إلا وجه ربك، ذي الجلال والإكرام.
هذه البصرة، وكما يرددون أهلها أن «الدنيا بصرة»، وربما هو تحريف من قول «الحميري» في إشارته لفضلها بقوله: «الدنيا والبصرة»، وسكّانها نحو ثلاثة ملايين نسمة، لولا النزوح الذي ابتليت به هذه المدينة التي تغسل، بما استطاعته من جلد وصبر، عن شطّها حزن النخيل ودمع التمر، تختبر قدرتها على النهوض، والأمل في أن غدها ممتلك لقدرة الذهاب إلى سنوات التنمية والخدمات التي يستحقها شعبها الصابر والمكافح، وقد أنهكته ألاعيب السياسة ومغامرات العسكر.
مدينة تنتصر لذكرى شهدائها بلوحات تذكارية كبيرة، وتمنّي أحيائها بنهوض حقيقي مستحق.
أخلّف التاريخ ورائي، وأيمم وجهي، ووجهتي صوب تاريخ آخر، حيث يقال إن موقع جنات عدن شمال المدينة، فيها نزل أبو البشر سيدنا آدم، متخذًا من منطقة القرنة موطئًا، وفيها شجرة آدم التي تطل على شط العرب، ويلتقي في هذه البقعة نهرا دجلة والفرات.
أمضي متتبعًا مياه شط العرب، وعين على النخيل الباسقات، تلك التي قال عنها الخليفة هارون الرشيد: «كل ذهب وفضة الأرض لا يبلغ ثمن نخلة في البصرة» كما جاء في مقدمة ابن خلدون، وكأني بهن أمهات تلك اللاتي أثرن شجن عبدالرحمن الداخل في بعده الأندلسي.
وأسائل البصرة عن تاريخها، فهي أشهر مدن العراق، وأول مدينة إسلامية خارج الجزيرة العربية، وصفت بأنها «قبّة الإسلام» منذ أن بناها عتبة بن غزوان في العام الرابع عشر للهجرة، في زمن الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، واختلف في زمن إنشائها، بفارق ضئيل من السنوات، لكنها ظلت حاضرة حيث سار إليها الصحابة والتابعون، ومن جاء بعدهم.
وجاء فيما يخص إنشاءها كما ورد عند البلاذري: «لما نزل عتبة بْن غزوان الخريبة (مسالح الفرس قريبة من  الأبلة) كتب إِلَى عُمَر بْن الخطاب يعلمه نزوله إياها وأنه لا بد للمسلمين من منزل يشتون به إذا شتوا، ويكنسون فيه إذا انصرفوا من غزوهم، فكتب إليه اجمع أصحابك في موضع واحد وليكن قريبًا منَ الماء والرعي واكتب إِليَّ بصفته، فكتب إليه: إني وجدت أرضًا كثيرة القصبة في طرف البر إِلَى الريف ودونها مناقع ماء فيها قصباء، فلما قرأ الكتاب، قَالَ: هَذِهِ أرض نضرة قريبة منَ المشارب والمراعي والمختطب، وكتب إليه أن أنزلها الناس، فأنزلهم إياها...، وذلك في سنة 14هـ».
مع وصول الإسلام إليها طوت البصرة صفحة مهمة من صفحات تاريخها أيام الجاهلية، وقد كانت ذات شأن، امتزجت فيها أخلاط من الأمم المجاورة، ففيها الفرس واليونان والهنود والعرب، وقلة من الأنباط، سكنوا هذه «الأرض الغليظة» كما توصف بما فيها من حجارة صلبة بيضاء، والمفارقة أن العرب كانوا يسمونها «أرض الهند»، مع أنها أول مدينة عربية أنشئت في العصر الإسلامي، وجرى تمصيرها قبل الكوفة.
ارتقت البصرة مع كل عصر، لتكتب تاريخها المضيء بصور ناصعة زمنًا إثر زمن، وفيما منحها العصر الأموي أن تكون العاصمة الإقليمية لدولتهم في العراق فإن العصر العباسي أوصلها إلى قمة ازدهارها، مدينة فخمة بها الأسواق والمنازل، وكانت المدينة الثانية بين حواضر بني العباس بعد عاصمتهم بغداد.
وفي اللغة فإن المدرسة البصرية في النحو بقيت منافسة للكوفية، حتى وصف أمر اختلافهما بأن «مذهب البصريين أصح من جهة اللفظ ومذهب الكوفيين أصح من جهة المعنى»، وهذا دلالة على ما شهدته على مر تاريخها من مدارس يرتادها طلبة العلم من سائر بلاد المسلمين، وعرفت بمشاهير العلماء المسلمين وفقهائهم، وخرج منها أئمة المعتزلة، وفيها ازدهرت مدرسة إخوان الصفا التي اشتهرت في القرن الرابع للهجرة.
وحينما عبر بنو عثمان البحر وصولًا إليها جعلوها ولاية، لتعرف في خلال القرن الثامن عشر حركة تجارية واسعة مع الأوربيين، سادة الاستعمار في تلك الفترة «الإنجليز والفرنسيين والهولنديين» على وجه الخصوص، عززها افتتاح قناة السويس عام 1869م.
تأخذني البصرة إلى مطاعمها، ووجوه الجالسين على مقاعدها، أصيخ السمع إلى موسيقى «اللهجة» على اللسان العراقي، وفي الذاكرة أغاني الزمن الجميل، يصعد منها صوت سعدون جابر، على موسيقى حنجرته نحفظ الكلمات، وإن كنّا نجهل المعنى في بعضها هنا «يا طيور الطايرة مري بهلي»، وأتبع إلياس خضر على وقع مرور قطار الليل مع «الريل حمد»، فأسمع «دق قهوة وأشم ريحة هيل».
أوقفت ذاكرتي عند النوتة الأخيرة لأقرأ قائمة الطعام، أكتشف متأخرًا ماذا يعني «التمّن»، إذ لا يسمى هنا بالأرز، ولا «العيش» كما نعرفه في بعض مناطقنا الخليجية، وأشار أحدهم إلى أنه تحريف لكلمة «تن من»، أي عشرة أمنان، والمن وحدة وزن تبلغ 4 كيلوغرامات، وأفتح قائمة الطعام، متتبعًا المزيد لأتعرف عليه، فالمسميات دالة على خصوصية الأمكنة، أقرأ: سمك نويبي على التمن، قوزي على التمر، تشريب لحم ضاني.
لكن دعتني كلمة «الوير» للاستفهام عنها، فالمطعم يضع لافتة، وفي أكثر من زاوية، تقول إن هذا المسمى بالوير يمنع نهائيًا، فإذا به يعني محاولة البعض دفع حساب شخص آخر يجلس على طاولة ما في المكان، ويبدو أنه لإزالة الحرج، أو لتقليل حجم النقاش بين الطرفين... الدافع والمدفوع عنه!!
مفردة جديدة ألقتها البصرة في قاموسي، كما هي عبارات عدّة أقرأها على واجهات بعض الفنادق، تضع ضمن جودة خدماتها أنها تعمل بالمياه الحلوة!
أخذتني ناصية ما إلى شارع الاستقلال، مزيج من مطاعم ومكاتب شركات ومحلات متعددة البضائع، الوجوه أينما سرت مرحّبة، خاصة لمواطني جيرانهم من أهل الخليج، يدركون أي تراكمات ألقت بها العقود الماضية وحان أوان أن تعود القلوب... إلى نبضها الأصيل، يقولون: «تأخرتم في المجيء إلينا»، وتقول كاتبة وناشطة اجتماعية «الفرح بجيّتكم، فنحن نذهب إلى كل مكان، ولكن نادرًا ما يأتي إلينا أحد»... وفي بالهم أن الصورة النمطية المكتسحة وسائل الإعلام عليها أن تتبدّل، وقد أضحت «البصرة» أرض سلام بعد سنوات طويلة من زمن الحروب والفتن... والفساد، تجتهد للخروج من عنق الزجاجة، وفقدان الأكسجين، لتتنفس كما يليق بها، تاريخًا وحضارة!

على هواء الشط
أدندن بالكلمات فور أن أخذني المساء إلى ضفة شط العرب، «عبرت الشط على مودك»، وكأني به من هنا كان العبور، وكلما حل الليل يزداد المكان جمالًا يملأ الكورنيش بالحياة حتى تزدحم الخطوات... شباب تراهم الأكثرية، تشعر بحيويتهم وهم يتأنّقون كأنما هم ليسوا من هذه المدينة التي تبدو منهكة في معمارها، وما تركته الحروب من آثار على ملامحها، وجوه أنيقة تقرأ فيها إشراقة الحياة، وهي تحثّ الخطى على اتساع كورنيش الشط بحثًا عن حياة... حياة تنتصر للسلام على حساب رائحة البارود، وصلف الجنرالات، وفساد السياسيين.
يلوح على البعد «الجسر الإيطالي» كأنه لوحة تكمل فرائحية المشهد، أستغرب من التسمية العائدة إلى جنسية الشركة التي أنجزته، مع أنه رسميًا يسمى بجسر الشهيد محمد باقر الصدر، وافتتح عام 2017م، الأول من نوعه في العراق والثالث في الشرق الأوسط، حجمًا ونوعًا، يبلغ طوله نحو 1280 مترًا، ويرتفع عن مستوى الماء 35 مترًا، بعرض 35 مترًا أيضًا.
أراقب تغيّر الألوان عليه، تزيده بهجة، وانعكاس الأضواء يمنحه حياة تسر الناظرين مع جماليات الكورنيش وحيوية السائرين عليه، وكم مبهج أن يسير المرء مع حالات الفرح الشبابية، فلا بد من الأمل، رغم كل ما يحدث، فالمياه ستستمر بالعبور تحت الجسر... على أي حال.
 يستوقفني رجل ستيني يسألك عن أحوال بلادك، وتسمع رنّة الصوت واللهجة «هوايا نحبكم»، ويقترب شاب آخر: «آني في خدمتك» فتنساب روحك مع هذا اللطف الإنساني الذي يحاول عبور الجسور ليمدّ يد المحبة من جديد، وعيني على «الجسر الإيطالي» يمد جناحيه بين ضفّتي شط العرب لوحة من جمال كأنه يحدد معالم مستقبل بصراوي جديد يحمل البشرى، أو أنه القاطرة التي تضعها البصرة نموذجًا لاستيقاظها الأنيق، فحيثما تولّي وجهك ثمة بناء ينهض بين تلك البيوت المتعبة، وبمعمارها الفقير، وبابتسامة تشرق على وجوه متعبة أكثر، ولكنها تتجمّل بالصبر والأمل، وأنها واثقة من قدرة مدينتهم على اللحاق بركب التقدم، وهي المتخمة بحقول النفط التي تشعل شمعاتها في أمكنة شتى حول المدينة، وبالثروة البشرية الأكثر ديمومة من كل الحقول.

أمام «أنشودة» السيّاب
 كان شط العرب رائقًا في الصباحية التالية، السكينة تحفّ الماء، لم تبدأ حركة الحياة بعد كما عشتها ليلة البارحة، وعمال النظافة يكنسون ما خلّفه السهارى على امتداد الكورنيش من قشور اللب وبقايا كثيرة، أصاَدف بائع قهوة متجوّل يحمل دلّته، يرفض أخذ مقابل، فنجانه ذاك كان ضيافة لمن جاء إلى مدينته، وأستريح للهجته البصراوية، وكأني أودّ أن يستمر فيها أكثر، لهجة لم تختلط ببهارات لهجات أخرى، فبقيت تتهادى على لسانه، كما يتهادى قارب على صفحة شط العرب، مختالًا كأنه يعبر كل أنهار العالم دفعة واحدة.
على البعد يناديني بدر شاكر السيّاب لأقف أمام تمثاله، أسائله عن «جيكور»، قريته التي ناجاها: «جيكور ستولد من جرحي/ من غصّة موتي، من ناري»، ويتنهّد: «جيكور ستولد لكني/ لن أخرج فيها من سجني»... وأسائله عن «أنشودة المطر»، فهل مازال يصيح في الخليج: «واهب المحار»، وكيف هو يأسه: «ما مر على العراق عام دون جوع»!
أتأمل هذا المعذّب الواقف على ضفة الشط بتمثاله العتيد، مستعيدًا ما قرأته عن آلامه الأخيرة في مستشفى بالكويت قبل أن يغمض عينيه للمرة الأخيرة... فيدعوني رجل على فنجان قهوة، من بائع مشروبات متجوّل، فإذا به الشاعر والصحفي جليل صبيح، رجل بغدادي يدين لمجلة العربي بأنها شكّلت ذائقتنا الأولى للشعر والحكاية... والتعرّف على تقاليد الشعوب. 

في فضاءات المقام
يلوح لي جامع مقام علي بن موسى الرضا، وخلفه سوق المقام يأخذني في متاهته التي يختبر بها قدرة الغرباء على حفظ مسالكه، يستقبلني بطاولة المكسرات والحلويات، يعدّدها كل بائع، وتشدّني بمسمياتها وألوانها، وتتكدس المذاقات في فمي، فأرجوهم أن يتخففوا من هذا «الكرم» المرهق، وأخرج منه إلى شارع الكويت، ويدلّني أحدهم على سوق البنات، ثم الهرج (سوق الجمعة سابقًا)، فأستكشف ماذا يقدم ذلك للبنات وماذا في الهرج من أشياء قديمة.
ما بين محلات السوق، سوق المقام، ويسمى سوق العشّار، تمضي بي الخطوات، تجذبني صورتان، الأولى لصناديق صرافة صغيرة يجلس خلف كل صندوق منها رجل، أو لتكن التسمية دقيقة (صرّاف)، أشعر بأن هذه النقود كأي بضاعة أخرى، فليس ببعيد عنها رجل يبيع النبق والجمّار، الصورة الثانية الجاذبة، وأستدعي أغنية سعدون جابر «يا جمّار القلب».
 أقف أمام عربة لبيع الحلويات، يرحب بي: «هلا عيني، هلا آغاتي»، ويلاحظ سعادتي بالجمل العراقية العذبة، فيمضي بها أكثر، وأسأله عن نوع معيّن من بضاعته الحلوة، فيجيبني أنه «عرموط»، وهذا «كير بالسمسم»، وقبل أن أمضي عنه نستعيد حوارًا أقرب إلى نكتة: إذا كان هذا الحكي للغرباء فكيف به مع الحبيبة؟!، نوادع بعضنا على وقع الضحكات، وطعم الحلويات في الفم.
ومن سوق إلى آخر أجول في «منطقة العشّار»، أفتش عن أصل التسمية، وأجد أن الاسم يعود إلى كونها المكان الذي يؤخذ فيه العشر على ثمن البضائع المستوردة أو المصدرة، ضريبة أو كرسوم جمركية مقابل استخدام الميناء في عهد الدولة العثمانية، وأيضًا أطلق الاسم على نهرها، فسمي بنهر العشار، لتصبح المنطقة قلب البصرة التجاري.
من بائع إلى آخر، أسأل عن اسم هذا السوق أو ذاك، يشيرون إلى سوق «حنا الشيخ» و«الصيادلة» الذي كان اسمه سابقًا سوق الهنود، فكان مركزًا لباعة التوابل القادمين من الهند، وأصبح الآن مزدحمًا بلافتات العيادات والصيدليات، مرورًا بسوق التنك وسوق الخضارة والحبال والعطارين... وغيرها كثر، وكل تسمية دالة على البضائع المعروضة فيها.
أتّخذ شارعًا موازيًا، يشدّني مبنى كنيسة، أقرأ اسمها «كنيسة القلب الأقدس للسريان الكاثوليك»، بدأ بناؤها عام 1936م، واكتملت عام 1940م، وهي ضمن 17 كنيسة أخرى في البصرة، أتحدث عن أحد المطارنة الواقف يودع ضيوفه، نتحدث عن المسيحية، وعن الرياضة أيضًا، يقول إن أتباع المسيحية يكثرون في البصرة وبغداد، والأكثرية في قرى الموصل، وقد كانت بكاملها مسيحية، لكن يبقى المسيحيون اليوم هم الغالبية.

سبحات صباحية
صباح بصراوي آخر، أسابق به الوقت، هناك متاحف ومكتبة وغيرها مما تتوجّب زيارته، لكن لم يبق الكثير من الساعات يحصيها عقربا ساعتي، أسأل عن متحف البصرة الحضاري فيشير أحدهم إلى منطقة القصور، وراء الجسر الإيطالي، وتأخذني نشوة الاستمتاع بالصباحية الطازجة للمشي، لكن خرائط جوجل تقول إن المكان يبعد عدة كيلومترات، والسماء بدت ملبدة بالغيوم، والمطر الخفيف يسابقني، فأستجيب لنداء صاحب سيارة أجرة، لأصل إلى المتحف سريعًا.
يمتدح الشاب، السائق، جهود المحافظ الذي يقود حملة تعمير للبصرة، كان الكورنيش دلالة على جهود هذا الرجل، وهناك عمل ملموس إذ سيمتد هذا الكورنيش المتّسع إلى منطقة القصور، حيث بها متحفان لتكون منطقة مدنية بجوارها حدائق ومتنزهات جار العمل بها، مع انسحاب قوات الحشد الشعبي الموجودة حاليًا. 
رأيتها خطوة مهمة لإعطاء المدينة صبغة خارج السياق العسكري، وما أجمل أن يلهو طفل في أرجوحته، أو أن يسير المرء في حديقة متسعة على الجمال بحيث لا يرى العابرون أفواه البنادق ونقاط الحراسة، تلك التي لا تقول إن المكان آمن... بل إن تلك المشاهد تعطي الانطباع بأنه ثمة خوف.
لا يخفي الشاب البصراوي تذمّره من الأحزاب، وما جاءت به من تشظّيات فاقت قدرة الجسد العراقي على التحمّل، يقول إن بلاده كانت تحتاج إلى النهوض أولًا على قواعد سياسية سليمة قبل الدخول في موضوع الديمقراطية وإنشاء الأحزاب... يتنهد: «تعبنا من الحروب»، وكأنه يشير إلى أن السلام الذي يعرفونه الآن متوافق عليه من جميع العراقيين، فقد تعب الجميع من القتال والفقر!
ويضيف: «بطولة كأس الخليج جمعت العراقيين قبل أن تجمعهم بأهل الخليج».

التاريخ يعود إلى... القصر
متحف البصرة الحضاري، هو أحد قصور صدام حسين، تحوّلت قاعات الاستقبال الفخمة إلى قاعة عرض متحفي، فهنا القاعة السومرية، وهناك «البابلية» و«الآشورية»، كل منها تعرض ما بقي من تلك الحقب الغابرة، أما قاعة البصرة فتقدم مجموعات متحفية من مراحل حضارية شتى مرت على المدينة، وتتوسط تلك القاعة قاعة التوجيه، وهي بمنزلة مساحة مفتوحة لتنظيم المعارض وغيرها مما يمكن له الاحتفاء بتراث البصرة المتنوع.
أكثر من 440 قطعة أثرية، يعود بعضها إلى نحو 300 عام قبل الميلاد، اجتمعت تحت سقوف قاعات قصر في متحف واحد افتتح رسميًا عام 2016م.
وليس ببعيد متحف التاريخ الطبيعي، التابع لجامعة البصرة، ورغم أنه افتتح في ذات العام، 2016م، إلا أنه ما زال قيد التوسعة والتطوير، تشدّني الأسماك الضخمة المحنّطة، فيشرح لي أحد موظفيه أن هذه سمكة هامور وزنها 200 كيلوغرام، وحنطت عام 1976م، وهناك سمكة هامور أخرى وزنها 30 كيلوغرامًا أدخلت عالم التحنيط قبل شهر. 
نعبر أمام مدرسة الإعدادية المركزية، التي بنيت أيام الملكية، بناها تاجر بصراوي عام 1925م، ويلفّنا المساء بأذرعته ونحن نعبر مركز المدينة، حيث ساحة أم البروم، أقدم ساحاتها، من هنا مرّ العثمانيون، ونصبوا أعمدة المشانق. ونأخذ الخطو إلى شارع الجزائر، وهنا في منتصفه جامع ومسجد أولاد عامر الذين يطلق عليهم «الحساوية»، كونهم أتباع الشيخ أحمد الإحسائي، ثم الأبلة، أي مربط الخيل، ويلوح جامع الكواز، حتى بلغنا المكتبة المركزية.
على واجهة المكتبة لوحة امتنان ووفاء لما قامت به مديرة المكتبة خلال أحداث عام 2003م، عالية محمد باقر، المرأة الشجاعة التي حملت المخطوطات القيمة التي تمتلكها المكتبة لتخبئها في بيتها، خوفًا عليها، كأم تخشى على أبنائها في زمن الفتن، وبعد أن هدأت العاصفة عادت المخطوطات إلى أرففها، مانحة الضوء للمكان.
نبحر بين ضفاف رفوف المكتبة الثرية بكنوزها من المخطوطات، والكتب القديمة، فهذا كتاب السيرة النبوية عمره نحو 650 سنة، وذلك الكتاب المقدس المقدر أنه منذ 550 عامًا، ومن فضاءات قديمها إلى مساحات جديدها نمضي بين الشعر والرواية والدراسات والمجلات الفصلية، وصولًا إلى مساحات خصصت للأطفال جمعت بين المعرفة والتسلية، وقاعات أخرى للفعاليات، فتبدو المكتبة، على صغر مساحتها مساحة ناطقة بالحياة. 
سألتني الكاتبة والناشطة جميلة الصيمري إن كنت جربت مذاق الأكلات العراقية، فنفيت أنني عرفتها كلها، وما أكثرها، فكانت دعوة أخرى على وجبة شعبية في البصرة، وربما في عموم العراق، «كاهي وقيمر»، وفي وقت الأعياد تغدو مكملة لكل فرح.  

شارع الفراهيدي
المشي في شارع الفراهيدي متعة مسائية، وهو النموذج المصغّر من شارع المتنبي في بغداد، مجموعة أكشاك أنيقة لبيع الكتب تصطفّ على جهة واحدة، فيما تخلى الجانب الآخر لباعة يتخذون من الأرض مكانًا يضعون عليه طاولات عرض بضاعتهم، أحدهم يبيع تذكارات قديمة، آلات تصوير مرّت عليها عشرات السنين، فبقيت واقعة تحت بند «الأنتيكات»، أسطوانات لعبدالحليم حافظ وأم كلثوم وطلال مداح، وغيرهم من سادة الطرب العربي الأصيل، بجوارهم تسجيلات لأشهر الموسيقيين حول العالم، موزارت وباخ وغيرهما، كل أسطوانة بمثابة تحفة.
أصادف معرض كاريكاتير مصغّر، تقول سيدة من المنظمين إنهم من جمعية تطوعية تقدم فعاليات مستمرة في هذه البقعة المتضمنة أيضًا خشبة مسرح صغيرة، تدعونا إلى سيدة أخرى تجلس وراء بضاعتها... «الفن مقابل الغذاء»، مع تغيّر المعنى، فهذه المرأة تبيع مأكولات ومشروبات، ومن بينها «اللبلبي»، مسمى آخر لهذا الحمّص المغلي، والمسمى خليجيًا «النخّي» باستنثاء عمان التي تدعوه «الدنجو»!
ترفض المرأة إلا اعتبار ما أكلناه ضمن الضيافة، وأستأذنها في التقاط صورة، فتطلب ألا أظهر وجهها، يناديني ابنها الصغير ليلتقط معي صورة، ويعرّفني على عالمه في وسائل التواصل الاجتماعي. 
في كشك خشبي أنيق، كباقي الأكشاك، تلوح مجلة العربي بأعداد قديمة، أفرح كمن يلتقي بصديق قديم، هذا العدد من عام 1967م، أقول للبائع إنه عام ميلادي، وأرى الآخر بتاريخ صدور لا يبعد أكثر عن سنة السابق، وهكذا مرت علي مرحلة بداية السبعينيات، أمنحه مفاجأة جميلة، أنني أرغب في شراء هذه الأعداد كلها، يشير إلى «الحجّية»، التي لديها أعداد أخرى ربما في البيت، نتّفق على لقاء اليوم التالي، لكنه اللقاء الذي يمنعه مطر البصرة المندفع ساعات طوال، مع رياح باردة أربكت إيقاع ما خططنا له من جولات وصور.
تشاء الصدفة أن بين أعداد مجلة العربي القديمة واحد يتحدث عن الأهوار، ضمن باب «مكتبة العربي»، حيث استعراض كتاب لجفين يانج يتحدث فيه عن «رحلة في عالم مثير ومجهول»، وعرض وتخليص روزماري صايغ.
التسكع في «شارع الفراهيدي» متعة، محفزة وبقوة للمشي في ذلك الشارع البغدادي الأكبر «المتنبي»، لعل مدينة الرشيد تتيح لي فرصة اللقاء بها، وفيما كانت السحب تحيط بقمر منتصف الشهر كانت الوجوه البصراوية تجتمع حولي، وسؤالها الدائم، بشغف معرفة عمق ما أحدثته مدينتهم فينا: «كيف رأيت البصرة؟».  

من «القرنة» إلى «الجبايش»
وكان لا بد من السير إلى «الأهوار»، والوقوف تحت شجرة آدم في القرنة، شجرة معمرة متيبسة الأغصان، أقرأ في لافتة تقول: «في هذه البقعة المباركة حيث يلتقي دجلة بالفرات حيث تشرفت بزيارة سيدنا إبراهيم عليه السلام سنة 2000 ق.م، وصلى بها وقال ستنبت هنا شجرة كشجرة آدم عليه السلام في جنة عدن».
وكان لا بد من قارب يأخذنا إلى حيث يلتقي النهران، دجلة والفرات، كأنما كل قطرة تروي للأخرى من أين جاءت، وماذا رأت عبر مشوارها حتى التقت جميعها في هذه «القرنة» لتمضي بها «مجاري النهرين» إلى ضفاف أخرى.
كمن عبر صحراء مقفرة وجدنا هذه الأهوار... وكأنه لا حدود لآخرها، مساحة ممتدة عامرة بالماء والقصب والبردي والطيور، وغير ذلك من حيوات تستوطن هذا الفضاء الجميل، نحافظ على توازن القارب الصغير كي لا يميل يمينًا أو شمالًا، نوزّع أوزاننا على خشبه، وعلى مقربة لاح معمار يبدو غريبًا في هذه المنطقة الطبيعية، فإذا به الصرح التذكاري لشهداء الأهوار، بناء لافت، لكنه يحاكي الأموات في الخدمات الداخلية المفترضة به، هزّ مرافقنا رأسه على ما تم تناقله من أخبار حول هذا المبنى، ملايين كثيرة... وناتج فقير.
أخذنا القارب وغناء الشاب الذي جمع في صوته بين أمرين، عذوبة الصوت ووجع إحساسه، هكذا تبدو البكائيات العراقية حينما تسرد جمالياتها، يصعد حزنها كأنه الحروف التي تكتبها القصيدة، ويصعد الألم كأنه يعبر الحنجرة الجريحة.
يأخذنا جمال المشاهد حولنا، وكم من الحكايات و«الأحداث» عبرت بين نباتات البردي والقصب، مثل هذه المسطحات المائية تنتشر في وسط وجنوب العراق، وأقسامها الرئيسية ثلاثة: الأهوار الوسطى، والتي تعد العمق الأساسي للأهوار، وفيها الكثافة السكانية والتنوع، ومساحتها نحو ثلاثة آلاف كيلومتر مربع تقريبًا، وهور أو بحيرة الحمار، وتمتد بمساحة 2800 كلم مربع، والأهوار الشرقية، وتسمى «هور الحويزة» أو «أهوار شرق دجلة»، وهي ملاصقة للجانب الإيراني.
على فراش من الأعواد اليابسة، تراكمت فوق بعضها البعض، وسط المياه المتشكّلة كخرائط حول تلال ترابية صغيرة، أو كأن هذه التلال تكدّست لاحقًا لتصعد بجالسيها بعيدًا عن الماء، اتخذنا جلستنا بانتظار الانتهاء من شوي السمك «المسقوف»، مع ما تجود به الحياة من أشياء بسيطة، بصل أخضر على وجه التحديد.
على البعد تلوح «الجواميس»، نطق أحدهم مفردة وجدتها متقاربة مع إطلاقنا على الدواب اسم «الهايشة»، ويقول أحد البصراوvيين تعليقًا: «اللي عنده جواميس أموره طيبة».
سماء المدينة ملبّدة بالغيوم، وحينما أمطرت ألقت بحمولتها التي أغرقت الشوارع، ورفعت منسوب البرد إلى ما يصبح فيه المشي صعبًا، في البال أمكنة تستحق الزيارة، وأخرى تنتظر التقاط صور، يصيبني ما يمكن تسميته بـ«الاكتئاب الصحفي»، فكيف لهكذا لقاء بعد طول انتظار أن تربكه «حالة الطقس»!!
ولأن اللقاء بالبصرة كان مكثفًا وسريعًا، اتخذنا دربًا مختلفًا لمغادرتها، برًا للوصول إلى مطار الكويت، حيث تذكرة العودة تمرّ عبر هذه الدانة الخليجية، وكانت طريق الصحراء عامرة بالماء، فالمطر يبلل كل الطرقات عبرها ■

شارع الاستقلال يبدو هادئًا مع محاولة تزيينه بما يعطيه من حيوية وأهمية في شرايين المدينة

المدينة تجتهد لتتجمل بمجسمات تذكارية، نافضة عن كاهلها ولو القليل من ركام سنوات مرت

رائق الماء في الشط، وخلفه المدينة التي تريد انعكاسًا أجمل لها في مياهه

في هذا السوق تجد ما يدهشك أحيانًا، فالملابس العسكرية على أشكالها، وما قد يناسبها من اكسسوارات الأسلحة

متحف الحسون... صغير في المبنى، مكتظ بما يعرضه، وهو أشبه بمطعم وسط عالم من مخزون التراث

هنا يلتقي نهرا دجلة والفرات ليشكّلا انسياب الجمال على شط العرب\سلامًا أيها العابرون على جداول الماء، محفوفين بالقصب والبردي... والطيور حولكم

المجسّم التذكاري الذي يجمع في ساحته عددًا كبيرًا من قبور شهداء الأهوار

واحد من المجمعات التجارية الحديثة التي بدأت بتجميل وجه المدينة ضمن مشاريع تطويرية أخرى.

مدخل متحف البصرة الحضاري، أو القصر الذي أصبح متحفًا

إحدى قاعات المتحف، بهاء القصور ينحني لأشكال الحضارة

مدخل المتحف الطبيعي، ينتظر وصول التطوير العام الذي بدأ في المنطقة المحيطة\مجموعة صور من معروضات المتحف الطبيعي

مدينة ألعاب في البصرة على شط العرب، بعض البهجة بعد أزمنة الحروب والفتن

شارع الفراهيدي، حياة مسائية رائقة بجوار شارع الجزائر، احتفاء بالثقافة

تمثال الشاعر بدر شاكر السياب، على ضفة شط العرب، وقريبًا من المقام والأسواق خلفه

مركز فني تعاد صيانته بإشراف من اليونسكو، وتظهر الشناشيل التي تظهر كثيرًا في المعمار البصري

ملعب جذع النخلة، أحد الصروح الحديثة التي يعول عليها البصراويون في جذب الاهتمام بمدينتهم