المناسبة ومقوماتها الشعرية في شعر حسن متولي عبيد

المناسبة ومقوماتها الشعرية في شعر حسن متولي عبيد

تعد المناسبة أصلًا وسببًا في الإبداع، وإن لم يجدها المبدعون لأوجدوها؛ فليس هناك عمل إبداعي دون مناسبة تخلقه أو تعمل على إنتاجه، يستوي في ذلك الكاتب والشاعر والرسام وغيرهم، كما تستوي في ذلك كل الفنون؛ فجميعها نتاج المواقف التي هي صلب المناسبات، ولكن ينبغي ألا يتجاوز زمن المناسبة - مهما طال - ذهن المبدع إلى العمل، كذلك لا ينبغي أن يتاح للمناسبة أو لقرائنها من العمل الإبداعي مكان يستدل عليها من خلاله، ولعل الشعر أكثر الفنون التي تلفت الانتباه إلى وجود المناسبة إن وجدت، وهي كلما تمكنت من النص الشعري نقص عمره، وتراجعت شعريته.   

 

يمكن تقسيم قصيدة المناسبة في تقدمها نحو الشعرية إلى ثلاث طبقات تنتظم ترتيبًا تصاعديًا؛ إذ تشير الطبقة الأولى أو الدنيا إلى وقوع القصيدة عند درجة المناسبة المحضة بحيث لا يمكن قراءتها بأكثر من قراءة، ولا تخضع لأي من محاولات التأويل، وما يزيد أن تقال أو تطرح عن الإشارة إلى ذات زمانها ومكانها الأولين. وشعراء هذه الطبقة يعرفون بأعينهم، وقصائدهم لا حياة لها، بل يصعب إعادة إنتاجها، وإن حاولت أن تعيد إنتاجها تجدك إزاء إيقاع خال، ليس سوى حركات وسكنات.
أما الطبقة الثانية أو الوسطى، فهي تشير إلى وقوع القصيدة قريبًا من درجة الانحراف الدلالي بحيث يمكن قراءتها وتأويلها إلى حد ما، كما يمكن إعادة إنتاجها؛ حيث تجد بجانب الإيقاع العروضي لغةً وأسلوبًا ودلالةً، يمكن استغلالها والعمل على تطويعها أو التحاور معها. وهذه القصيدة اعتاد شاعرها أن يطوعها لأي زمان وأي مكان، وعلى الرغم من قابليتها لذلك؛ فإنها تبقى مشدودةً دائمًا نحو الوظيفية.

إيراد مركز المناسبة ضمن القصيدة
أما الطبقة الثالثة أو العليا، فهي تشير إلى أعلى درجات شعرية المناسبة، وفيها تمتلك القصيدة إيقاعًا مرنًا ولغةً شعريةً عميقةً لها دلالات متعددة، تخضع للقراءة المتعددة وللتأويل المتعدد، وقد يصعب على القارئ تصنيفها لولا ارتباطها بالمقام الأول الذي قيلت فيه؛ يبدو ذلك عبر العنوان أو من خلال إشارة تقع بين العنوان والنص. وقد يعمد شاعر هذا اللون إلى إيراد مركز المناسبة ضمن القصيدة غير مفض إلى تصريح، وهي درجة من الاحترافية لا تخفى على القارئ الحصيف، وقد وجدت عند هذه الطبقة قليلًا من الشعراء؛ حيث مثلت تجاربهم حالةً من الإنسانية السامية والشعرية العالية، ومن بين هؤلاء، الشاعر المصري الراحل حسن متولي عبيد. 
ويأتي ديوانه «فيض الشجون» معزوفةً شعريةً أسريةً، وطنيةً، إنسانيةً، روحيةً، دينيةً، شعائريةً، ذاتيةً، كونيةً خالصةً، إذ تهتم قصيدته في مجملها بالشأن العام، وعلى الرغم مما تضمنته من مناسبات، ومن الخصوصية التي تبدو مسيطرةً على معظم موضوعاتها؛ فإنها تتجاوز ذلك إلى حيث يكون الإنسان، هذا القاسم المشترك الأعظم في هذا الكون.
تأمل جانب الإشراق فيها
    تر الخيرات تهديها الشرور
تجد كل الذي بالكون يحيا
    له يدنيك في القربى مصير
ستفرح إن أصاب الناس خير
    وتحزن إن دهت أحدًا أمور
وإذا قرأت مثلًا (شعر وموسيقا) قصيدته المهداة إلى الإذاعية حكمت الشربيني؛ فلن تجد ما يشير إلى أنها قصيدة مناسبة، ولولا إشارة الشاعر في الإهداء، بعد العنوان وقبل القصيدة؛ لم يتمكن المتلقي من تصنيفها على أنها من شعر المناسبات.
كذلك ترمز قصيدته (دياب) إلى جدلية الضعف والقوة، الخير والشر، التواضع والغرور، الحضور والغياب، الانسجام والقلق، شهادة الحياة وشهادة الدراسة؛ لتستحيل المناسبة حالةً وجدانيةً تتشظى إلى عوالم كونية إنسانية واجتماعية رحبة، تتعانق فيها اللغة الشعرية مع الحياة والواقع في إطار فلسفي.
دياب أنت والدنيا غلاب
    فهل لك مخلب منها وناب
وحوش لا تلين لغير وحش
    إذا ما ضمها في الشرع غاب
فلا يرجو من الأشرار خيرًا
    سوى المغرور أتعبه سراب
دياب أنت في الميدان باق
    وغيرك معشر سطعوا وغابوا
كأنهمو غثاء السيل يمضي
    وأنت الطمي ليس له ذهاب

فقد انشغلت قصيدة حسن متولي بكثير من المشغولات اللغوية والفنية والدلالية مما يصرف المتلقي عن ملاحظة المناسبة فيها؛ حيث يتوافر لها كثير من مقومات الشعرية بدءًا من لغتها القائمة في الأساس على التراكيب الذهنية، مرورًا بالتنازعات الدلالية، ثم تعدد أنماطها البلاغية أو الأسلوبية.
وتأتي الحقول المتضادة بنيةً واضحةً فاعلةً في شعر حسن متولي، على سبيل المثال، قصيدته (لماذا الحزن؟)، فقد قام معجمها اللغوي على كثير من الكلمات المتضادة، منها: (الحزن، السرور/ ظلام، نور/يروي، الظمأ/تخمد، تثور/الخيرات، الشرور/تفرح، تحزن/ترثي، تسعد/الضعيف، القوي/الحب، البغض/الخصم، الخل/توصل، انقطع/فروع، جذور/الحزن، تشدو/شكور، سخط)، وهكذا... فقد كان للتضاد في شعر حسن متولي تناسب يترتب عليه استدراج المتلقي لتحسس الدلالة، وقد توافر للتضاد مالم يتوافر لغيره من الأساليب في قدرة الكشف عن الفوارق الإنسانية؛ حيث يأتي أكثر إقصاءً ومواجهةً. 

التفاتات نوعية
وقد تعددت الأساليب القائمة على الاختلاف في شعر حسن متولي، واقرأ قصيدته (النيل)؛ سوف تجد بها كثيرًا من الالتفاتات النوعية على امتداد القصيدة، ويكون الانتقال والتحول الأسلوبي من الغيبة إلى الخطاب، ثم من الخطاب إلى الغيبة متبوعًا بانتقال وتحول دلالي تزيد معه حركة القصيدة؛ ومن شأن تلك الحركة أن تصرف المتلقي عن التمركز حول خصوصية القصيدة:
سار ولما  يعيه التسفار
    مر القرون مهابة، ووقار
نبع الجنان  ولم  يزل سلساله
    تزهو به  البلدان،  والأمصار
شهد الرحيق عذوبةً، وحلاوةً
    جادت به من فيضها  أقدار
متلويًا لا كالأفاعي، ريقه
    من لدغة للعاديات عقار
يسري بجدباء القفار فينبري
    يعلو بجدباء القفار عمار
لو أن نفط الكون يطلبنا به
    لو رشفة، قلنا: بذاك العار

ومن الملحوظ في الأبيات السابقة أن الشاعر قد تحدث عن النيل بطريق الغيبة، يدل على ذلك كثير من الدوال مثل: (سار)، (يعيه)، (نبع)، (سلساله)، (به)، (شهد)، (متلويًا)، (ريقه)، (يسري)، (يعلو)، ثم انتقل في الأبيات التالية إلى الخطاب، يدل على ذلك بعض الدوال، مثل: (يا خالد)، و(لك)، (غدقك)، و(منك)، من قوله:
يا خالد الجريان ما من راحة
    لك غير راحك بالحياة تدار
عجبًا لمن يجد العطاء لغيره
    فرحًا له، بل هكذا الأخيار
هل كالكنانة وهي خير هدية
    هبةً لفضل محبة آثار
شمخت مدائنها وعز جنابها
    من فيض غدقك حنطة وثمار
من عهد فرعون إلى أيامنا
    لم يكب بالنعماء منك عثار

ومن مخاطبة النيل في الأبيات السابقة ينتقل إلى الحديث عنه بطريق الغيبة، في قوله:
شريان إمداد الحياة وقلبها
    ووريدها، ومسيلها المعطار

ثم إلى الخطاب في الأبيات التالية:
كم داعبت وجنات وجهك نسمة
    فبسمت منك الغانيات  تغار
عبرت ضفافك يا تليد جحافل
    ولها بأهرام الخلود مسار
مضوا وأهلك بالضفاف شوامخ
    وبأنف (هول) ندبة، تذكار
أشكو إليك بنيك طال سباتهم
    وشكا النكوص إلى العلا مضمار
تلقي بشهدك في البحار وأرضنا
    رغم السلاسب، والقراح  قفار
يا نيل قل للغافلين دعوتكم
    ولقد كفى التحذير، والإعذار
زفوا إليك من الحسان عرائسًا
    فبناتهن لدى الربى أزهار

ثم انتهى إلى الغيبة في البيت الأخير:
هلا خطبتم وده بقلادة
    يهدى إليكم بالنماء سوار

ويختتم الشاعر القصيدة كما بدأ؛ حيث بدأ حديثه عن النيل بالغيبة، وأنهى بالغيبة حديثه، وهكذا «يشتغل الالتفات في حيز إشاري لعبي يستدعي من خلال داله الحاضر، تأويل داله الغائب»، وقد شهد النص كثيرًا من صور التحول والانتقال بين الضمائر والأفعال، وهو ما يترتب عليه تحول في أسلوب الخطاب، وسواء جاء عفوًا أو عن قصد؛ فهو حسب الأسلوبية يمثل الخطأ المقصود، والمتلقي إزاء هذه الانتقالات كثير النشاط والحركة؛ وهو مما يزيد من تفاعلية النص.
وقد جاء التحول أو الانتقال المتعدد عبر تلك الالتفاتات مناسبًا لحجم ومساحة الالتواءات الممتدة بطول نهر النيل، كما صور رحلة النيل الطويلة عبر الأزمان، ومن خلال ذلك يأخذ الشاعر المتلقي إلى مفاتن شتى بعيدًا عن الإغراق في المناسبة، كما ساعد على ذلك التحولات الخطابية وما تبعها من تحولات دلالية؛ فيحدث التنوع والتعدد، وهما من معطيات الأسلوبية، ويأتي الالتفات ضمن سلسلة الانزياحات التركيبية التي تحدث بالنص خلخلةً وتهتكًا للصلابة والرتابة؛ ومن ثم تتحقق له الصيرورة والسيولة.
ويعد التكرار من الظواهر البلاغية قديمًا وحديثًا، وقد جاء الشعر أكثر ألوان الإبداع الأدبي اشتمالًا على هذه الظاهرة، والبنية الشعرية حسب يوري لوتمان «ذات طبيعة تكرارية حين تنتظم في نسق لغوي»، ويأتي التكرار في الشعر للتأكيد، والإقرار، وإيجاد الإيقاع، والتناسق، وغير ذلك.

بنية أسلوبية
كما يأتي التكرار أحد الأساليب إلى الاتساعية النصية؛ بما يخلقه من تنوع وتعدد وما يستدعيه من علاقات؛ تقلل فرص الالتفاف حول ذاتية النص. وقد جاء التكرار في ديوان حسن متولي بنيةً أسلوبيةً تعمل على كسر النمطية بما تمتلكه من انزياحية، تشيد من أنقاض المناسبة بناءً دراميًا محكمًا، من ذلك تكراره لاسم الإشارة (هذا)، من قصيدته (من وحي الحج)؛ إذ يقوم بتكراره المتتابع، والضغط عليه؛ ليلفت الانتباه إلى موسوعية المشار إليه:
هذا محمد الذي خضعت له
    صيد الجبابر قد مضت بعناد
هذا ابن آمنة الكريم ترققت
    منه الجوانب ممعنًا بوداد
هذا الذي لولاه ما بلغ المنى
    أحد، ولم نرزق بأي رشاد
هذا الحفي الهاشمي المصطفى
    هذا البهي ككوكب وقاد

يحتفي الشاعر بالتراث ويحاوره في لغة جديدة، ومن الواضح أنه اتكأ في بناء قصيدته على النسق الإشاري من قصيدة الفرزدق، التي قالها في مديح الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ومنها:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
    والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم
    هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة، إن كنت جاهله
    بجده أنبياء الله قد ختموا
ويأتي التشبيه - بحسب قدرته الانزياحية - ضمن مشغولات النص الفنية، بوصفه الأداة البيانية التي تستطيع قلب الكيان الدلالي بما تمتلكه من قدرة على الاستبدال، والعدول. ويتوقف الانزياح التشبيهي على تباعد الطرفين؛ بحيث يجد المتلقي أن هناك فجوةً متحققةً أسفرت عن اتساع الدلالة، وقد تحققت هذه الصورة في الشعر العربي قديمًا وحديثًا، وهي دائمًا في تحول يواكب الشعرية المعاصرة. 
ومن التشبيهات المثيرة للانتباه في ديوان (فيض الشجون): (التشبيه المنفي)، والذي يمكن رصده على أنه قد يبلغ لدى المتلقيين مساحةً كبيرةً من الإدهاش، كما في قوله:
متلويًا لا كالأفاعي، ريقه
    من لدغة للعاديات عقار

إذ يوجد في البيت السابق: تشبيه تمثيلي منفي، ووجه الشبه فيه صورة منتزعة من أمور متعددة؛ فيكون قد شبه الشاعر هيئة النيل - في ثنياته المتلوية عبر امتداده من الجنوب إلى الشمال- بهيئة من صفاتها التثني والتلوي، وليس ثمة هيئة أقرب إلى ذلك من هيئة الأفاعي، لكن الشاعر قد نفى صفة المشبه به عن المشبه؛ فقال: (لا كالأفاعي)؛ حيث أثبت الشاعر التلوي، ونفى ما دونه من صفات الأفاعي، ولولا أداة النفي (لا) التي سبقت المشبه به لكان لدينا تشبيه مثبت، وهو تشبيه هيئة النيل في ثنياته وتلويه بهيئة الأفاعي في تثنيها وتلويها، وربما عده البعض مذمومًا.
كما أن أداة النفي التي أثبتت التلوي، ونفت المساواة بين تلوي النيل وتلوي الأفاعي؛ تؤذن بتصور آخر، وهو تشبيه تلوي النيل بتلو لا كتلوي الأفاعي؛ درءًا للتوهم. 
وقد دفع الشاعر بدليل نفيه لما دون التلوي من صفات في المشبه به بقوله: (ريقه من لدغة للعاديات عقار)، وفيه مقابلة ضمنية يمكن تقديرها بقولنا: ريق الأفاعي سام مهلك، في مقابلة أن ريق النيل بلسم شاف من العاديات، مثل: (الفقر، والجدب، والقحط). وعلى الرغم من ذكر (الأفاعي) في البيت؛ فإن التجاوز الاستبدالي الذي انطوى عليه البيت؛ قد منح الكلمة بعدًا جماليًا، ولعله يقع قريبًا من قول عنترة:
فترى الذباب بها يغني وحده
    هزجًا كفعل الشارب المترنم
غردًا يسن ذراعه بذراعه
    فعل المكب على الزناد الأجذم

وقد قال فيه البغدادي: - رغم ذكر الذباب - «وهذا من عجيب التشبيه، يقال: إنه لم يقل أحد في معناه مثله؛ وقد عده أرباب الأدب من التشبيهات العقم، وهي التي لم يسبق إليها ولا يقدر أحد عليها».
كما جاء (الحذف) كأحد مشغولات القصيدة في مواطن كثيرة من شعر حسن متولي، ومن ذلك قوله:
سار ولما يعيه التسفار
    مر القرون مهابة، ووقار
ومن الحذف أيضًا، قوله:
هزي إلينا جذع نخلتك التي
    فتئت تجود ورطبها متأنق

ولعل أهم ما يميز لغة الشعر عامةً كثرة اعتمادها على الحذف بوصفه طريقًا إلى الإيجاز. ويأتي التخلي عن الذكر والعدول إلى الحذف جرأةً وقرارًا جماليًا يصل إلى حس المتلقي، مثلما يصل إلى حس المبدع. ومن بلاغة الحذف أنه يرفع من درجة التكني، ويزيد من مخالفة التوقع.
وهكذا فقد أمكن للشاعر الراحل حسن متولي عبيد أن يشغل القصيدة بما لا يدع للمتلقي مجالًا للتمركز حول مناسبتها، وقد هيأت له اللغة بما حملته من طاقة أسلوبية ودلالية أن يدير حركة الشعرية في ديوانه (فيض الشجون)؛ ذلك أن اللغة الشعرية العالية تسمح بتجاوز المتخيل، ولا تجد في القوالب الجامدة - التي لا تقبل تعديلًا على هيئتها - متسعًا في أن تعبر عما يحمله الذهن من دلالة؛ ولن يكون لها قدرة على تجاوز المعاني السائدة والتراكيب البالية بغير انتهاك حدودها الرتيبة  ■