الصورة الكاريكاتيرية عند ابن الرّومي

الصورة الكاريكاتيرية  عند ابن الرّومي

الشّعرُ تمثيلٌ وتصوير ذهنيّ، يُخرجُه الشّاعر ليعبّر عمّا يختلجُ في نفسهِ من مشاعر وأحاسيس، بصياغةٍ فنيّةٍ وأسلوبٍ فريدٍ، يُمثّل فرادته في اختيار موضوعاتِهِ، وسكبها في قوالبَ خاصّة بعد إخضاعها لعوامل مُتعدّدة لتوافق مقتضى الحال المعبّر عنهُ في ذات الشّاعر. 

 

قد ينحو الشّاعر منحى عقليًّا فلسفيًّا يُعبّر عنه بشعر الحكمة، وقد يُعبّر عن خلجاتِ نفسهِ تعبيرًا وجدانيًّا، وأحيانًا يكون متبرّمًا فيتّخذُ من الهجاء سبيلًا للتّفريغ عن مكنونات نفسه تجاه شخصٍ معيّن صابًّا جام غضبهِ في وصفِهِ بأبشع الصّفات مع التّحامل عليه والحطّ  من قدره، فالهجاء أشدّ إيلامًا على النّفس وأكثر التصاقًا بذوات البشر بحيثُ يذهب مذهب المثل، تسيرُ به الرّكبان. وقد يسلُكُ الشّاعر في هجائه مسلكًا كاريكاتيريًّا لا يهدفُ إلى ذكرِ المثالبِ بقدر ما يرسم صورةً ساخرةً تقومُ على التقاط العيوبِ، مُستغلًّا التفاصيل الدّقيقة والجزئيّة التي يبرع في سبر أغوارها بُغية تضخيمها وإبرازها في قالبٍ كوميديٍّ يُثير الضّحك ويبعثُ على الحبور. لذلكَ نستطيعُ القولَ إن الهجاء هو المنبع الأساس للصّورة الكاريكاتيريّة يُضافُ إليه القدرة على الرّسم وبثّ صورة حكائيّة ذات روحٍ ساخرة. لذا، يتوجّبُ على الشّاعر أن يُحسن التقاط صوره مُدقِّقًا في اختيارهِ ورسمه، راسمًا ملامحَ شعره للوصول إلى النقطة المفصلية في هذا المجال. ومن خلال مطالعتنا للشّعر العربيّ وجدنا بذور الشّعر الكاريكاتيري متفاوتة بين شاعر وآخر. وأفضل من يُمثّلُ هذا الخطّ الشاعر ابن الرّومي. فكيف تجلّى هذا المنهج الشعريّ وكيف تمظهر في شعره؟

الشاعر المشهور
ابن الرومي من شعراء العصر العبّاسي المُجيدين، شهد الكثير من الأحداث الأليمة في حياته ممّا جعله مُتبرّمًا ومُتشائمًا وقد تنوّعت أشعاره بين المدح والهجاء والفخر والرّثاء. وهو بحسب وصف ابن خلكان: «الشّاعر المشهور، صاحب النّظم العجيب، والتّوليد الغريب، يغوص على المعاني النّادرة فيستخرجها من مكانها ويبرزها في أحسن صورة ولا يترك المعنى حتى يستوفيه إلى آخره ولا يبقي فيه بقية».
عاش ابن الرّومي في بيئة تعجّ بالمتناقضات، في مجتمع متباين، يئس من إصلاح المجتمع فراح يختلق عالمه الخاص، وأولع في توليد الصّور وابتكارها بحرفيّة عالية، وهو إذ يتناول الصّور الغريبة إنّما يعبّر عن حالة نفسيّة عند أصحابها يحاول تناولها بطريقة هزليّة ساخرة.
يُعدّ ابن الرّومي من أمهر رسامي الكاريكاتير في الشّعر العربي، كان متطيّرًا مُتشائمًا. يصفه طه حسين فيقول: «كان حاد المزاج، مضطربًا، معتلّ الطّبع، ضعيف الأعصاب، حاد الحسّ جدًا، يكاد يبلغ من ذلك الإسراف». اتّخذ من الهجاء سلاحًا ليخلق نوعًا من التّوازن مع المحيط والذّات الشّاعرة، حيث يعمد لرسم الصّورة بالكلمات بعد أن يلتقطها بكلّ حواسِه ويُضفي عليها الحركة بحيثُ تتمثّلُ مشهدًا حسّيًّا حركيًّا ناطقًا. فالشّاعر السّاخر يوقظ كلّ حواسهِ في رسم المشهد لتدبّ به الحياة.
قال ابن الرومي في هجاء عيسى:
أكلْتُ رغيفًا عند عيسى فملّني
    وكان كهمّي من محبٍّ مُقَرَّبِ
يُحبُّ خميص البطنِ من أكلائه
    ويُضحي ويُمسي بطنُهُ بطنَ مُقرِبِ
وما أُنسُ ذي أنسٍ لعيسى بمؤنسٍ
    ولا وقْعُ أضراسِ الأكيلِ بمُطربِ
تزوَّدْ إذا آكلتهُ فهي أكلةٌ
    وما أختها إلّا كعنقاء مُغرِبِ 
في هذه الأبيات يصف لنا ابن الرّومي حال بخيلٍ، فيصوّرُه تصويرًا ساخرًا مُعتمدًا الثنائيات الضدّيّة «ملّني / مُقرَّبِ، يُضحي / يُمسي، خميص البطن / مُقربِ»، لقد أجاد ابن الرّومي في الدّخول بتفاصيل نفسيّة البخيل حيث بدا مهمومًا مُتيقّظًا غير مستأنسٍ بمن يُشاركه طعامه، فهو يُحبُ من كان خميص البطن غير شره مُستخدمًا حاسة البصر «خميص»، على الرّغم من عدم تمتّعه بهذه الصّفة وامتلاء جسمه، بحيث يشبّه ابن الرّومي بطن عيسى ببطن المرأة الحامل التي أوشكت على الوضع «بطن مُقرِبِ». إنّ جلوس ابن الرومي على مائدة عيسى فتحت على الأخير أبوابًا لم يكن يحسب لها حسابًا، ولم يكتفِ ابن الرومي بحاسّة البصر بل سارع ليُردفها بحاسّة السمْع ليدلّ على الأثر الذي يتركه «وقع أضراس الأكيل» على نفسيّة عيسى، مع تكرار حرف السين الذي يوحي بالسّكون والهدوء، كونه من الحروف المهموسة، إلا أن استهلاله بالنفي «وما، ولا» أدّى إلى أخذ الدّلالة في المنحى المُغاير المُعبّر عنه بنوع من السّخط والغضب، لينتهي إلى النكتة في البيت الأخير وهي استحالة أن يُدعى الضّيفُ إلى مائدة عيسى مرّة أخرى، لذلك وجب عليه أن يتزوّد بما استطاع من الطّعام كمن يتزوّد لسفرٍ طويل، مُستعينًا برمز العنقاء الأسطوري للدلالة على استحالة الجلوس على مائدته نهائيًّا.
ويظهر الكاريكاتير في شعر ابن الرّومي على شكل صورة ذات بناء معماريٍّ غير متناسق، تتكفّل الصّورة بإظهار جزءٍ من البناء بشكلٍ مُضخَّمٍ مُثيرٍ للضّحك وليس البناء كلّه. فعندما يصفُ الأحدب يقول:
قصُرَتْ أخادعُهُ وغار قِذالُهُ
    فكأنّهُ مُتربّصٌ أن يُصفعا
وكأنّما صُفعَتْ قفاهُ مرّةً
    وأحسّ ثانية لها فتجمّعا
هذه الصّور الشّعريّة التي يعرض لها ابن الرّومي، تنطلق من الواقع في تصوير الأحدب بصورة حسيّة حركيّة، فقد تجمع الأخدعان، وهما عرقا الرقبة، واختفى مؤخّر الرأس ليدلّ على الشّكل الخارجيّ الذي يتّصفُ به الأحدب، وهو الثبات على هذه الوضعيّة «فكانّهُ متربّصٌ أن يُصفعا». ولكن ابن الرّومي لم يكتفِ بذلك، بل أحال الوصف إلى مادّةٍ مُضحكة أخرجتنا من الحياد، وجعلتنا ننخرطُ في هذه المشهديّة المثيرة للضّحك، فالشّاعر ينقل الصّورة من السكون إلى الحركة ليعطيَها شحنةً كاريكاتيريّة تتمثّل في البيت الثاني للدلالة على ملازمة هذه الحال للأحدبِ، وكأنّ الشّكل الخارجي للأحدب جاء كردّة فعلٍ على صفعة جعلته مُتهيّبًا من حدوث مثلها فبقي ثابتًا على حاله. 

مشاهد حية
وفي وصفِهِ العميانِ، رسم ابن الرّومي لوحةً كاريكاتيريّة نابضة بالحياة، تمثّلُ حركاتهم وكأنّك أمام مشهدٍ حيٍّ بكلّ تفاصيله مع جرعةٍ من المبالغة تثيرُ الضّحك حيث قال:
مُجالسةُ العُمي تُعدي العمى
    فلا تشهدنَّ لهمْ مشهدا
فإن أنتَ شاهدتهمْ مرّةً
    فكنْ منهمُ الأبعد الأبعدا
بحيثُ تفوّتْ إشاراتهم
    وإلا فإنّك منهمْ غدا
لأنّ إشاراتهمْ  لا تزا
    ل قدْ نفضَتْ نحو عينٍ يدا
فيُعمونَ من شئتَ في ساعةٍ
    ولمْ يَحتسبْ قطُّ أن يرمدا 
كثّف ابن الرّومي مشهديّته لتنفتح على قصة لها أبطالها، يتحركون في فضاء مفتوح نسبيًا، فوزّع جمله ما بين سبب ونتيجة (مجالسة /تُعدي)، ونفي (فلا تشهدنّ)، وشرط (فإن أنت شاهدتهم)، وجواب شرط (فكن منهم الأبعد)، والتحذير من مصير محتوم (وإلا فإنّك منهم غدا)، والتّعليل الذي يؤكّد فعلهم غير المقصود والمُقترن بنتيجة حتميّة وهي إلحاق الأذى بالآخرين (فيُعمون). في هذه المشهديّة الصّاخبة، التي حشد لها ابن الرومي أسلوبيًا، ركّز على حركة العميان وإشاراتهم، فالتقط هذه الجزئيّة التي تخصّهم وعمد إلى تضخيمها. فحركات العُمي قدْ تتسبب بعدوى العمى لأنهم غير مسؤولين عنها، كونها تنبعُ منهم بشكلٍ لاإراديٍّ، فضلًا عن عدم إمكانيّة رؤية من يجلس بجانبهم. وكدأبهِ، يعمد ابن الرّومي إلى رسم مشهديّةٍ كاملة ليصلَ إلى حُسنِ الخِتام فيكثّف الصّورة عبر مفارقات ضدّيّة «فيعمون/ لم يحتسب أن يرمدا»، فالصّورة الشّعريّة التي رسمها ابن الرّومي لم تكن جامدة إنّما متحرّكة واكبناها بكلّ تفاصيلها وكأنّنا أمام مشهدٍ تمثيليٍّ كوميديّ صعودًا وهبوطًا مُتمثّلينَ حركاتِ العُمي وما يصدُرُ عنهم.
وتتجلّى نقمة ابن الرّوميّ على كلّ ذي لحيةٍ فنرى هذه الصّور منتشرة في ديوانه:
ولحيةٍ يحملُها مائقٌ
    مثل الشّراعينِ إذا أشرعا
تقودُهُ الرّيحُ بها صاغرًا
    قوْدًا عنيفًا يُتعِبُ الأخدعا
لو غاص في البحرِ بها غوصةً
    صادَ بها حيتانهُ أجمعا
في هذه الصّورة العنيفة، يُشبّهُ ابن الروميّ اللحية بالشّراع الذي تُسيّرُهُ الرّياح حيثما اتّجهتْ فلا يقوى إلا على مُجاراتها، فلا سبيل لاتّقائها، فالشّراع وُجِدَ للاستفادة القصوى من طاقة الرّياح في تسيير المراكب عُنوةً مع سلبِ قدرتِها على التّحكّم بوجهتها مع وجوده. وكأنّنا أمام صورةٍ لرجلٍ طويل اللحية تُسيّرُهُ الرّياح رغمًا عنه ساحبة إياهُ مع ما يرافق ذلك من إرهاقٍ وتعبٍ ومذلّة. وكان بإمكان ابن الرّومي أن يقف عند هذا الوصف ولكنّهُ أمعَنَ في الاستغراقِ برسم صورتِهِ فأوكل للحية مهنة خارجةً عن المألوف ألا وهي اصطياد الحيتان لتأخذ دور شبكة الصّيد. هذا المشهد المرسوم بالكلمات جعلنا نُبحرُ ونغوص مع صاحب اللحية متتبّعين حاله ومصيرهُ السيئ الذي وصل إليه بفعل إطالة لحيته في جوٍّ كاريكاتيريّ لا يخلو من الظّرف والفكاهة.

أسلوب طريف
وفي مُفارقةٍ أخرى، يعكف ابن الرّومي على التقاط صوره بحرفيّة وإتقان، مُسلّطًا الضوء على ما يُمكن اتخاذه مادّة ً للهجاء الممزوج بالتندّر والتّفكّه، مُستخدمًا أسلوبه الطّريف، وسبكه المُتقن متوسّلًا لغته الشّعرية بما يتملّكه من أدواتٍ معرفيّة، وبنيةٍ سرديّة حكائيّة تتمحور حول تضخيم صورة تكون متميزة عند المهجوّ، وفي هذه الأبيات يسلط الضوء على الأنف الذي يحتلّ مركز الصّدارة في الوجه، ليكون مدخلًا إلى الهجاء فيقول:
قولا لدِبسٍ شرِّ من يطأ التّرابَ ويرمسُ
    إن كان أنفُكَ هكذا فالفيلُ عندكَ أفطسُ
وإذا جلسْتَ على الطّريقِ ولا أرى لك تجلسُ
    قيل السّلامُ عليكما فتجيبُ أنتَ ويخرسُ
وكما نرى، فإنّ ابن الرومي يعمد إلى التّصوير الكاريكاتيري نتيجة حدثٍ مرّ به تارة، فيستخدم ضمير المتكلّم بشكلٍ مباشر لإيصال رسالته، وتارة يعمد إلى إطلاقها بالوساطة أو بصيغة المجهول، وفي كِلا الحالين لن يسلم المهجوّ من فلتات لسانه. وفي هذه الأبيات، يعرج ابن الرّومي على صفات «دبس» الخُلقيّة قبل الخَلقيّة، وكأنّه يحاول تبرير هجائه له. وعلى عادة الجاهليين، يستخدم ابن الرّومي ضمير المثنى للغائب «قولاً»، ويُحمّلهما مقول القول، وهي رسالته التي يستهلّها بذكر صفات «دبس» الخُلقيّة «شرّ من يطأ التراب». لقد حمّل ابن الرّومي كلامه كثيرًا من الأبعاد الدّلاليّة التي تخطر في ذهن المُتلقّي بمجرد ذكر صفة الشرّ، وجعل «دبسًا» رمز الشرّ بكلّ ما يخطر على بال، ومنها انطلق لذكر مثالبه، فركّز على شكل الأنف ليكون مُنطلقًا لرسم صورته الكاريكاتيريّة معتمدًا على مقارنته مع الفيل الذي يبدو بمُحاذاته «أفطس»، ليخرج الصّورة النهائيّة التي تتمثّل بوجود آخر قد يظنّه المارّ شخصًا ولكنّ الصّمت الناتج عن عدم ردّه يشي بأن الجالس على الطّريق شخصٌ واحد والآخر ظلّ أنفه.
أمّا وصفه لصلعة أبي حفصٍ فقد كانت قمّة الإثارة حيث قال: 
يا صلعةً لأبي حفصٍ مُمرّدة
    كأنّ ساحتها مرآةُ فولاذِ
ترنُّ تحت الأكفِّ الواقعاتِ بها
    حتّى ترنّ لها أكنافُ بغدادِ
لا شيء أحسنَ منها حين تأخذها
    من الأكفِّ سماءٌ ذاتُ أرذاذِ
المنادى هنا «الصلعة»، وقد قدّمها على صاحبها لأنّها محور الحديث، وأغدق عليها الصّفات التي تجعل منها متميزة «ممرّدة»، واستعان بالتّشبيه الذي يبيّن مدى انعكاس الأشياء عليها «كأنّها مرآة». 

مدرسة فنية
ختامًا، نستطيع القول إن ابن الرومي كان صاحب مدرسةٍ فنيّة مميّزة. لقد استطاع التّعامل مع الحدث باختيار زاوية الرؤية التي تُناسبُ تهكّمهُ وظرفهُ، فعمد إلى تضخيم أجزاء معيّنة من المشهد الكليّ ليُقدّم إسقاطاتهِ عليها، فنراه تارة يصفُ اللحية ويهجو أصحابها وتارة يصف الأحدب، أو صاحب الصّلعة «الممرّدة»، أو البخيل أو صاحب الأنف الطّويل. لقد أجاد ابن الرّوميّ في إعمالِ خيالِهِ ونحتِ صورِهِ النّابضة بالحياة والتي جعلتنا نتلقّف الفكرة ونتمثّلها مشهدًا حيًّا مُشبعًا بالحركة والإثارة مع ما يُرافق ذلك من ابتسامة عريضةٍ ترتسمُ كلّما تخيّلنا المشهدَ أو تذكرناه ■