«ما قبل الأنقاض»... مفاتيح لكشف أغوار الرّواية والتّاريخ في رواية «القطائع... ثلاثيّة ابن طولون» للكاتبة ريم بسيوني

«ما قبل الأنقاض»... مفاتيح  لكشف أغوار الرّواية والتّاريخ  في رواية «القطائع... ثلاثيّة ابن طولون»  للكاتبة ريم بسيوني

رواية «القطائع... ثلاثيّة ابن طولون»، تأخذنا إلى عوالم متعدّدة، ففيها الحب والعشق، والعلائق التي تربط بين الأرواح، فإمّا حبٌّ لا يفنى وإمّا كره لا يفنى، وفي الرّواية عشق السّلطة والنّزاع للحصول على الحكم، وفيها القوّة والبطش والعزم، وفيها عالم من التّصوّف والعلاقة بين الأديان، فيها الوفاء والغدر، وفيها اكتساب المعرفة، هي رواية تعود بنا إلى التّاريخ، تنهل منه الكاتبة ريم بسيوني، تحاكي منه ما يحدث في واقعنا من دون أن تصرّح الكاتبة بذلك، فتترك الجهد على المتلقي أن يكون حاذقًا لفهم ما بين أحداث الرّواية.

 

الرّواية التّاريخيّة هي ضرب من الرّواية يمتزج فيه التّاريخ بالخيال، وتهدف إلى تصوير عهد من العهود أو حدث من الأحداث الضّخام بأسلوب روائيّ سائغ مبنيّ على معطيات التاريخ، ولكن من غير تقيد بها أو التزام لها في كثير من الأحيان. وعرّف البعض الرّواية التّاريخيّة بأنّها سرد نثريّ يرتكز على وقائع تاريخيّة تنسج حولها كتابات ذات بعد إيهاميّ معرفيّ. وهي نسيج لحياة الإنسان لعواطفه وانفعالاته في إطار تاريخيّ، وتقوم على عنصرين: الأوّل هو الميل إلى التّاريخ وتفهمّ روحه وحقائقه، والثّاني فهم الشّخصيّة الإنسانيّة وتقدير أهميتها في الحياة. 
وقد كان للتّاريخ حضورٌ متميزٌ في الأعمال الأدبيّة خصوصًا الرّواية، وهو يعدّ من أبرز العلوم والأشد ارتباطًا بها. والرّواية التّاريخيّة تكتسب أهميتها من أهمية الأحداث، وكلّ رواية هي درس من دروس التّاريخ، وهي دائرة من المعارف التّاريخيّة. وقد استطاعت الكاتبة ريم بسيوني أن تعود إلى هذا التّاريخ وتنهل منه، والملاحظ أنّها قدّمت لنا مرحلتين، فتنفتح الرّواية على زمن القاهرة في 1918، والشّخصية البارزة هي شخصية عادل الذي يحاول تأمين صلاة السّلطان فؤاد في جامع ابن طولون. وطبعًا في هذا إشارة إلى المرحلة الزّمنيّة التي بدأ فيها ظهور السّلطنة المصريّة تحت الحماية البريطانيّة، وانتهاء السّيادة الاسميّة للعثمانيين على مصر.
والزّمن الثّاني يعود إلى 868 ميلادي وفيه عودة تاريخيّة إلى زمن تأسيس الدّولة الطّلونيّة، وقد قسّمت الكاتبة روايتها إلى ثلاث حكايات، لكلّ حكاية رواتها وشخصياتها، في الأوّلى عرضت لقصّة ميسون، وفي الثّانيّة لحلم ابن طولون وفي الثّالثة العهد، وقبل ذلك كان «بين الأنقاض». 
وفي هذه المقدمة «بين الأنقاض» التي افتتحت بها الكاتبة روايتها، تقدّم لنا المفاتيح التي يمكن من خلالها أن ندخل عالم الرّواية الذي أرادته أن يكون إسقاطًا على واقعنا: 
المفتاح الأوّل هو الصّراع المستمر في تحديد هوية المنطقة وانتمائها، ومنها ما له علاقة بوجود الأقباط، وما يمكن أن يشير إلى الصّراع أو الاختلاف بين المسيحيين والمسلمين، فيكون مسجد ابن طولون هو رمز الصّراع على ذلك في زمن الخلافة العباسيّة التي كانت تحكم مصر بالاسم، بينما أحمد بن طولون هو من أسّس هذه الإمارة الإسلاميّة، ولتكون أوّل دويلة تنفصل سياسيًّا عن الدّولة العباسيّة، وقد قامت خلال زمن تعاظم التّرك وسيطرة الحرس التّركي على مقاليد الأمورـ وهو ما أسهم في نموّ النّزاعات الشّعوبيّة، وتغلّب نزعة الانفصال. ويبدو واضحًا هذا التّناغم بين اختيار 1918 و868 ميلادي. 
ومن خلال هذا المفتاح الأوّل تكون الإشارة إلى الخلافات، فرفض البعض صلاة السّلطان فؤاد في مسجد ابن طولون لأنّه «مسجد لا يصلح للصّلاة، هنا حرام... يقولون إنّه بناه بأموال مسروقة وشيّده قبطيّ؟ كيف لمسلم أن يصلي في مسجد أمواله مسروقة»، وفي الرّواية إشارة إلى واقع تاريخيّ عندما أراد محمد بن سليمان القضاء على حلم ابن طولون وهدم مسجده، فكان هذا التّسويغ هو الحجّة التي استند إليها في رغبته لهدم المسجد. ويبدو واضحًا أنّ من حمى أبناء طولون هو سعيد بن كاتب الفرغاني القبطيّ الذي أسهم في بناء القطائع. وقد نرى في ذلك إشارة إلى ما نلمسه في أيامنا هذه إلى الصّراع الذي نعيشه في زمننا. 

الأنقاض كنوز
المفتاح الثاني هو الكنوز التي نراها في هذا التّاريخ، فنجد هذا العالم البريطانيّ يصيح بالعربيّة «لا تقتربوا من الأنقاض، كلّها كنوز، اتركوها لنا». هذه الكنوز التي كانت إرث أحمد بن طولون، وفي البحث والمعرفة قد تكون هذه الكنوز إرثًا ماديًّا أو إرثًا معنويًا معرفيًّا، وفي عبارة العالم إشارة إلى أنّ الصّراع على الكنز قديما وحديثًا، للوصول إلى تحديد الهُوية.
المفتاح الثالث هو حكاية هذه المنطقة أو المدينة التي كان الهدف هو محوها، لكن في محو المدن نقمة ونعمة فالمدن الرّاحلة تبقى في الذّاكرة، وعلى هذه الأرض لا آثار تفنى ولا تاريخ يضيع كما ذكرت الكاتبة.
المفتاح الرابع حكايات المدينة التي في بنيانها التقاء بين العدو والحبيب، فكانت الرّواية عرضًا لأكثر من حكاية عشق وولهٍ: حكاية ميسون وأنس، وحكاية أسماء وأحمد بن طولون، وحكاية عائشة وعبدالرّحمن، وفي هذه الحكايات نرى أنّ عشق المرأة يكون دافعًا للصّراع والنّزاع، بل إنّ تأثير المرأة كبير في الصّراع والنزاع على السّلطة.
تحاول الرّواية الكشف عن العلاقة بين التملّك والزّهد، عن الحبّ والتّملّك، فمن هنا كانت الإشارات العديدة إلى التّصوّف وتأثيره، وأنّنا بالحبّ نفهم أكثر، وإلى ضرورة أن نبحث عن الحبّ الأسمى «ألم تقل رابعة العدويّة: وحبيبي دائمًا في حضرتي، لم أجد لي عن هواه عوضًا، وهواه في البرايا محنتي... يا حبيب القلب يا كلّ المنى جد بوصل منك يشفي مهجتي». أو ما رأيناه في حوار بين ابن طولون والأب أندونة الذي كانت له حكمة مهمة يقول: «هناك حكمة وسرّ في التّخلّي لا بد أن تتخلّى وأنت تشتهي وتطمع وليس بعد أن تيأس وتزهد... لا بد أن تترك الدّنيا وهي تفتح ذراعيها بالأماني وليس بعد أن تذوق مرّ صدقها وحقيقة توحشّها»، وقد تكرّرت الإشارة إلى هذه الحكمة في أكثر من موضع في الرّواية ما يدلّ على أهميتها، واستناد الصّراع إليها. 
إنّ الكاتبة تحاول في روايتها أن ترسم صورة المصريّ وهُويته، فلم تكن صورة أحاديّة الرّؤية، بل ربما يمكن أن تكون كما رأى عادل نفسه وإلى ما أراد أن يصل إليه وإلى الارتواء من خلال كشف الأسرار، فرأى نفسه كما تقول الكاتبة: «اليوم هو أحمد بعد أن اكتشف خيانة ابنه، اليوم هو عبدالرحمن والوساوس تمزّق أحشاءه، والعجز يذيب غروره، اليوم هو سعيد والخوف على ما شيّد يستقرّ ويتوغّل. اليوم هو الشّيخ الدّمياطي وهو يفتح اللفافة ليحافظ على الرّداء ونقوشه المعقدة، هو سعيد وهو أحمد وهو عبدالرّحمن وهو الشّيخ الدّمياطي، هو كلّ هؤلاء... كلّ من تملّكهم الحلم وتركوا ما سواه».

مصر للجميع
وتقول لنا الرّواية إنّ مصر هي للمسلم العربيّ وللقبطيّ ولكل من يأتي إليها فيشعر أنّه منها وينتمي إليها، وإلى نهر النّيل وإلى كلّ ما في مصر، فهذا ما أراده أحمد بن طولون من القطائع التي جمعت الجميع، واستطاع أن يسند إلى المصري ما ليس معتادًا عليه، فدخل الجيش. وأيضا نراه في عبد الرحمن العربي ابن القبيلة الذي ولد في مصر وانتمى إليها، أو في أنس الإسكندراني الصّياد والعاشق والوراق، وفي سعيد القبطي الذي عشق بحنس ساحرة الهرم.
في الرّواية البحث عن الحلم الذي سيعيد بناء الوطن، عن المجد والكنز المعرفيّ الذي نسير وراءه، وفي وسط هذه المعمعة لا بد أن نصادف الغدر والكره والمحبة والقتل وخلافه، وفي هذه العودة إلى التّاريخ نرى أنّنا بحاجة إلى حسن قراءته لمعرفة حاضرنا.
ويمكن القول إنّ الإبحار في هذه الرّواية يقودنا إلى معالجتها من زوايا عديدة، لكن أردنا في هذه المقالة أن نتطرّق ونعرض المفاتيح الأساسية التي تدخلنا إلى عالمها. وقد تميّزت الرّواية باللغة السّليمة والحوار الغنيّ، وقد أجادت الكاتبة بالتصدير الذي قدمت به كل باب فاستندت إلى اختيار أبيات من شعراء في العصر الجاهليّ والعباسيّ، وكان هذا التّصدير فاتحة لما سيرد في الباب ■