اللغة العربية صور من الجمال والبهاء والجلال

اللغة العربية صور من الجمال والبهاء والجلال

    «لا يدل على براعة سبّاح ماهر سوى هيجان بحر هادر»، لذا فليس للكلام النظري في اليوم العالمي للغة العربية عن عبقرية تلك اللغة وكفاءتها بمغنٍ شيئًا إذا لم يؤيده واقع، ويثبته حال؛ وإن اللغة العربية دائمًا في الموعد في كل محفل وكل نادٍ تثبت أنها لغة حياة، وُجدتْ لتبقى، بل لتقود لا لتقاد، وليس هذا الرأي صادرًا عن عصبية بقدر ما هو ناجم عن تذوق لجمالها، وعن فخر واعتزاز بالانتساب إليها. 

 

إننا في رحلة دعوتنا لقبول الآخر، نجد أن اللغة العربية قد سبقتنا إلى ذلك بمرونة استوعبت من خلالها غيرها من اللغات، وتقبلّت بصدر  رحب مفردات كثيرة جاءت على سبيل الضيافة من لغات أُخَر فإذا بها تصبح من صويحبات الديار، ولم تكن هذه المفردات من لغة واحدة بل من لغات متعددة؛ وكأن العربية تلعب دور الأخت الكبرى التي تحتوي غيرها؛ والأمثلة على ذلك تند عن الحصر، فمن التركية نجد مفردات أدخلتها العربية في بنيتها ولم تشعرك بأنها جسم غريب يجب لفظه، بل إنها رحبّت واستوعبت، ونحتت واشتقت، بل وهذّبتْ وروّضتْ؛ فمن منا يشعر بغرابة كلمات من مثل: شنطة وأسطى وأبله، وتمام، وطابور، وباشا، وهانم، وكفتة، وسفرجي، وقهوجي، وغيرها من تلك الكلمات التركية التي حلّت أهلًا على العربية ونزلت سهلًا؟! لقد أصبحت هذه الكلمات التركية جزءًا من نسيج لغة نتكلمها بل ونكتبها، ولم تقف العربية عند حد التأثر دون التأثير بل كان لها تأثيرها الملموس الذي بادلتَ به غيرها من اللغات فقد انتقلت مفرداتها للتركية؛ ليصبح التأثير والتأثر شاهدًا على قبول الآخر بشرط الندية وحفظ الحقوق؛ فليست العربية عالة على غيرها؛ لذا تجد من الكلمات العربية في التركية: Müşterek.  Maalesef.  Mağara.  Medeni.  ومعناها على التوالي: «مشترك - مع الأسف - مغارة - مدني...»، وغيرها كثير لمن أراد الاستقصاء.
ولم يقف الأمر عند التركية فحسب، بل تعداها إلى كل اللغات، فما من لغة حدث بينها وبين العربية تماس أو حتى مجرد لقاء عابر إلا وكان أثرها فيها ظاهرًا، إنْ تأثيرًا أو تأثرًا، وانظر - إن شئت - إلى كلمات: بنك، وفيلم، وكاش، وإيميل، وإنترنت وغيرها كثير، وهي مأخوذة من الإنجليزية، هل يستغني أحدنا عن استخدامها في مفردات حياته اليومية عن كلمات؟! وأهل الإنجليزية كذلك لا يستغنون عن مفردات من مثل: ( Lemon -  Fomalhaut - Cotton - • Jinn - Mirror - • Sugar - Tall - Earth – Camel)، وهي مأخوذة بأصواتها وجرس حروفها من العربية (ليمون - فم الحوت - قطن - جِنّ - مرآة - طويل - أرض - جَمل)، وإذا ما جئنا إلى اللغة الإسبانية فحدّث ولا حَرَج، خاصة وهي الوحيدة من بين اللغات اللاتينية التي يوجد بين حروفها الخاء، والثاء.. وتأثير العربية فيها أكبر من أن يُحصَر في المفردات والتراكيب التي ننتقي منها على سبيل المثال لا الحصر: Alcaide  بمعنى القائد أو الحاكم، Alferez  أي الفارس، ALamin  الأمين، ALbuhera أي البحيرة، ALberca أي البِركة... وأحيل القارئ الكريم إلى كتاب: «تأثيرات عربية في حكايات إسبانية لأستاذنا أبي همّام رحمه الله»، وفيه بيان لشيء كثير من ذلك التأثير... وهكذا الحال مع الفارسية والعبرية والفرنسية والبرتغالية... وغيرها من اللغات التي أثّرت فيها العربية أيّما تأثير!

لغة شجاعة
إنّ اللغة العربية ثرية ثراءً تحسدها عليه غيرها من اللغات، وهي مرنة إلى حدِّ أنها لا تقف عاجزة أمام أي جديد، وهي لغة شجاعة بكل ما تعني الكلمة من معانٍ، ومن صور شجاعتها ما نص عليه ابن جني صراحة تحت هذا الباب، فذكر من ذلك «الحذف، والزيادة، والتقديم، والتأخير، والحمل على المعنى، والتحريف»، بل إن أسلوب الالتفات الذي اختصت به العربية دون غيرها من اللغات ليُعدُّ صورة من صور تلك الشجاعة، فهو  ينتقل بك من صيغة إلى صيغة، كالانتقال من خطاب الحاضر إلى الغـائب، أو من خطاب الغائب إلى الحاضر، أو من فعل ماضٍ إلى مستقبل، أو العكس... وأمّا وجه الشجاعة فيها فإنه إذا كان الرجل الشجاع يُقبِل حين يُدبر سواه، ويَرِدُ الماء صَفوًا على حين يَرِد غيره كَدرًا وطينًا على حد تعبير عمرو بن كلثوم، فكذلك العربية اختصت بذلك الأسلوب دون غيرها من اللغات، ودخلت كل معترَك بلا رهبة، وتجشمت ركوب الصعاب فما هُزمت، ولا لانت لها قناة، ولو أن لأهلها الآن ما كان لأسلافهم من المنعة والقوة لرأيت حالها على غير ما تجده الآن! 
ودعنا ندلف الآن إلى شيء من التطبيق وضرب الأمثلة العملية التي وعدنا بها في مطلع مقالنا، فنسوق ما نسوق على سبيل المثال لا الحصر الذي يُعيي من طَلبَه، ويغلِب من رامه، فإذا ما أخذنا باب التقديم والتأخير شاهدًا على شجاعة العربية وثرائها فإننا نجد أنها أولته عنايتها، وبسطت له رداءها فلم تأت به لمجرد تغيير الأماكن والمواقع والرُّتَب دونما غاية بلاغية متوخاة، ونكَتٍ دلالية مبتغاة، وإنما يؤتى به وفق نسق فني مراد؛ ليتحقق من خلاله ما لا يمكن تحقيقه لو جاء الكلام على ترتيبه، وهو باب - كما قال عبدالقاهر الجرجاني-: «كثير الفوائد، جمُّ المحاسن، واسعُ التصرُّف، بعيدُ الغاية، لا يزال يفْتَرُّ لك عن بديعة، ويُفضي بك إلى لطيفة، ولا تزال ترى شعرًا يروقك مَسْمَعُه، ويَلطُفُ لديكَ موقِعُه، ثم تنظر فتجد سببَ أنْ راقَك ولَطُفَ عندَك، أنْ قُدِّم فيه شيء، وحوِّل اللفظ عن مكان إلى مكان»،  وانظر - رحمني الله وإياك - إلى الجملتين الآتيتين، كيف غيّر التقديم والتأخير معناهما إلى الضد: «ما رأيت خيـرًا منك»، «ما رأيت منك خيرًا»، فالجملة الأولى تقع - بتقديمها «خيرًا»- في أودية المدح؛ والمعنى: أنت أفضلهم جميعًا، فأنت أفضل من وقعت عليه عيني، على حين أن الجملة الثانية - بتقديمها الجار والمجرور وتأخيرها «خيرًا» - تقع في مسارب الهجاء والذم؛ والمعنى: إنني ما رأيت منك خيرًا قطُّ! أرأيت ما فعل تغيير الرُّتب في جملة واحدة، وفي إمكانة واحدة فما بالك مع الكلام الكثير؟! ومع إمكانات كثيرة كالحذف، والزيادة، والتعريف والتنكير، والنفي والاستفهام، والبناء للمعلوم، والبناء لما لم يُسَمَّ فاعلُه... إلى آخر تلك الإمكانات التي تملكها تلك اللغة العريقة الكريمة، وعلى ذلك قِس في أبوابها كلِّها، ومن ذلك في باب الاستفهام بالهمزة مثلًا قولك: «أَفَعَلْتَ هذا؟»، وقولك: «أأنت فعلتَ؟» تجد نفسك قد بدأتْ الجملة الأولى بالفعل؛ لأن الشكَّ في الفعل نفسه، وغرضك من الاستفهام ساعتها أن تعلم وجودَه، فتركيزك على الحدث بتقديمك إياه، على حين أنّك في جملة: «أأنت فعلتَ؟» قد بدأت بالاسم، وكان الشكَّ حينها في الفاعل: مَن هو؟! كي تجعله يُقرُّ بأنه هو مَن فعل هذا، وليس غيره... يؤكد ذلك ويعضده قولهم لإبراهيم عليه السلام: {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} (سورة الأنبياء - الآية: 62). إذ لم يكن غرضُهم السؤال عن الفعل أو الحدث وهو تكسير الأصنام، وإنما عن الفاعل، أو عمّن قام بعملية التكسير؛ إذ لو كان غرضهم السؤال عن الفعل، لأجابهم بالإثبات: نعم فعلت، أو بالنفي: لا، لم أفعل! أرأيتَ إبداع اللغة بمجرد تبديل المواقع؟! وانظر - إن شئت - إلى الفرق بين قولك: «لا خطأ في المقال»، وقولك: «لا في المقال خطأ» هل يستويان معنى ومرادًا ودلالة؟! إنك في الأولى إنما أردت نفي الخطأ عن المقال، وفي الثانية إنما قصدتَ أن المقال جيد صحيح، لم يلحقه خطأ يُشينه. 
وهذا لَعَمْرِي يحتاج لإعمال عقل، وتحريك ذهن، تدعمه ذائقة صافية، قد مُرّنتْ على فصيح القول، وبليغ الكلام، وتلقّت علوم العربية على شيوخٍ بِهم تُثنى الخناصر في البلاغة والبيان، مع تعويد على قراءة سمين الكتب لا غَثِّها، والصبر عليها؛ للكشف عن دُرر هذه اللغة الفريدة العجيبة! وصدق النبي الكريم : «إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا». 

وقفة مخصوصة
وإلى أهل اللغة الذين يحبونها ويجلونها أقول: جميلٌ أن يخصص يوم للاحتفاء بها، ولكن الأجمل أن تجري على ألسنتنا، وعلى صفحاتنا في كل ساعة وفي كل يوم، جميلٌ أن يكون لنا معها وقفة مخصوصة في يوم مخصوص، ولكن الأجمل ألا نكتفي بالاحتفاء بها فيما بيننا وننسى أن نعرض جمالها وبهاءها لغيرنا فيدركون أن مرتبتها ليست الخامسة بين اللغات بل الأولى عن جدارة واستحقاق، ولو أن لغة أخرى كانت في موقع لغتنا العربية اليوم، ما استطاعت أن تصمد، وما قدرت أن تحيا والسهام تنوشها من كل حدب وصوب... جميلٌ أن نُذكّرَ أنفسنا بحق هذه اللغة علينا في هذا اليوم، ولكن الأجمل أن نُدركَ أن هذا ليس مِنَّة منا عليها، بل إنها هي ذاتها مِنّة الله علينا... إنها بطاقة هُويّة، وعنوان أصالة، ورمز عزة وكرامة... فهل ندرك حقًا قَدرها؟! وهل نعرف صِدقًا فضلها فنضع على رؤوسنا حرفَها؟! 
حمى الله العربيةَ والذائدين عن حياضها، ورحم الله «حافظ إبراهيم» حين قال: 
سقَى اللهُ في بَطْنِ الجزِيرة ِأعظُمًا
        يَعِزُّ عليها أن تلينَ قَناتِي ■