التجربة التشكيلية لمحمد الشريفي شِعريةُ اللّون وتَوهُّج العلامَة

التجربة التشكيلية لمحمد الشريفي  شِعريةُ اللّون وتَوهُّج العلامَة

تنتمي أعمال الفنان المغربي محمد الشريفي إلى حقل التعبير التشكيلي التجريدي المعاصر، يحكُمها، وبشكل واضح، حضور قوي للعلامة والرمز، بما في ذلك الجسد كعلامة ملونة هائلة، ما زال تأثيرهما، ومنذ الرواد الأوائل من التشكيليين المغاربة أحمد الشرقاوي (1934-1967) والجيلالي الغرباوي (1930-1971)، حاضرًا في أغلب التجارب الفنية التجريدية للتشكيل المغربي.

 

تجربة «الشريفي» هي أيضًا تجربة تلوين مميزة وملفتة للنظر بقدر ما هي تجربة رسم. وذلك من حيث وجود بعض الفروقات والتمايزات الفنية والتقنية والأسلوبية في استعمال المادة والألوان والخطوط والأشكال، والتي يمكن التمييز من خلالها ــ وبشكل نوعي في الإبداع التشكيلي - بين عمل «الرسام Le peintre» وعمَل «المُلوِّن Le coloriste»، بحيث يمكن اعتبار كل رسام هو «مُلوِّن» بالضرورة: إذ يستعمل ــ بشكل أو بآخر ــ اللون في اشتغاله الفني، لكن ليس كل رسام قادرًا على أن يكون «ملوِّنًا coloriste» جيدًا. وتمايُز اشتغال «الشريفي» في مجمل تجربته التشكيلية، يكمن في قوة التعبير اللوني مع قوة وفرادة استعماله للأشكال والرموز والعلامات كذلك، إذ تكاد تكون قوة هذا التعبير اللوني في الأعمال الفنية من أهم المميزات الفنية والتعبيرية والجمالية لهذا الفنان. 
 من هنا، يصبح اللون في حد ذاته - عند «الشريفي» - أسلوبًا وتقنية في نفس الوقت، مجالًا ووسيلة للدهشة الجمالية. بطريقة، يسعى أو يهدف الفنان من خلالها إلى منح هذا اللون نوعًا من الشعرية وخصوصيات تعبيرية وجمالية عِدة ومدهشة، سواء بواسطة تقنية أو مادة «الأكواريل Aquarell» (الصباغة المائية)، أو بواسطة «الأكريليك Acrylique» (الصباغة الزيتية)، مما يؤدي إلى «شَعرنة Poétisation» العمل الفني التشكيلي (شعرية اللون)، وجعله قصيدة بصرية قائمة في آخر المطاف، ثم العمل على تجميل الوجه المتحرك، والمشوش أيضًا للعديد من المصائر والموضوعات في تجربته، سواء على ضفاف ملوّنة وممزقة، أو فوق مساحات مسطحة وشديدة الاضطراب، هي التي تعكس أو تشير - بدون لُبس - إلى أبعاد وحقائق أخرى تخص الأعماق. هكذا يوجّه «الشريفي» ربما قصده إلى إظهار الكمال والجمال الجارح لعالم منذور للكارثة؟
هل ثمة مِنْ معنى يَقطُن في عمق هذه الأعمال الفنية؟ وهل تحكي أعمال محمد الشريفي حكاية ما؟ حكاية تخص الفنان ذاته بالأخص، وكل الذين يرونها؟ ولو أن المعنى، لم يَعُدْ - بالضرورة أيضًا - ذلك الرهان أو الهدف المرتجى لإنجازات الفن المعاصر (وخصوصًا في أوجهه وصيَغه التجريدية)، إلا أن أعمال «الشريفي» تظل مسكونة بالكثير من الغنائية، ومأهولة بالعديد من الثيمات Thèmes أو الموضوعات. تحاول أن تقول حكاية اللون، وأن تنقله وتسافر به نحو معانيه ودلالاته الأقوى طاقة وتعبيرية وحيوية.
من هنا أيضًا، يظل اللون، في التجربة التشكيلية برمتها للشريفي رمزًا وتعبيرًا، ثم عنصرًا مهيمنًا بشكل أساس، إذ يصبح اللون دالًا ومدلولًا في نفس الوقت. مع إمكانية إثارة الملحوظة أو الخاصية التالية: أغلَب الذين يعرفون جيدًا المسار التشكيلي للشريفي، يكون بوسعهم أن يحددوا، من دون شك، لدى هذا الفنان، سواء من خلال تجربته الحالية أو ما سبَقها من أعمال، هذا العبور الواعي والمحترِف والمفكر فيه، والذي حققه «الشريفي» بامتياز من مرحلة التعبير بواسطة الشكل، إلى مرحلة التعبير بواسطة اللون: حتى ضمن الملمح الشكلي لهذا اللون ودرجات أو تدرجات إشراقه Nuances de brillance، وقتامته، وكثافته التي أصبحتْ مع الزمن وتطور التجربة - لدى الشريفي - أقل حرارة وأقل صراخًا وصَخبًا كذلك.
  ثم هناك هذا الاشتغال الخاص للشريفي على كثافة وتنويع العناصر والتقنيات في تجربته الصباغية، بما يجعل أعماله التشكيلية لا تنشغل أحيانًا بالمعنى، بقدر ما تراهن على اعتبار العلامة واللون مادة ومساحة تعبير أساسية. ومِنْ ثم، يتم الدفع بهذه العناصر إلى أقصى مستويات النضج والكثافة والنصاعة والاشتعال، حتى داخل كثافة الأسود نفسه الذي يبدو في جل أعماله جديرًا بالمديح، ومهيمنًا على الكثير من المساحات داخل اللوحات، إذ تتحول هذه الكثافة نفسها إلى نوع من تأكيد قيمة الأسود، وإبرازه وإضاءة ظلاله الشاهقة.

رؤية تشكيلية
هكذا يستطيع المتتبع للتجربة التشكيلية للشريفي، بالقليل من التأمل أيضًا، أن يلمس فيها تجميعًا لمراحل عدة تطبعها هواجس البحث والتجريب والإضافات التي تتقصّاها التجربة ضمن بعض مستويات تعميق الرؤية التشكيلية، وتخصيب العلامات، والألوان، ودفْعِها، بالتالي، إلى درجات معينة من التحقق والاشتغال الدلالي. 
إذ داخل تنوعها وتطورها، أو بالأحرى، تحولها المستمر، تأتي تجربته التشكيلية، موزعةـ، بشكل عام، على ثلاث مراحل أساسية، تميزها الرؤى والعناصر التشكيلية التالية: جاءت التجربة اللونية للشريفي في مرحلتها الأولى متأثرة أو مطبوعة - كما سبقت الإشارة إلى ذلك - كغيرها من تجارب التشكيل المغربي، بسيادة العلامة اللونية ورمز الجسد. كذلك اتسمت هذه الأعمال بنوع من التدوير الحركي التلقائي Gestualité spontanée، المطبوع بكثافة ملحوظة في استعمال المادة (الصباغة خصوصًا)، هو التدوير الذي قد يشير في مجموعة من أعماله الفنية إلى بعض عناصر ورموز الخصوبة (الخِصيتان والرّحم)، ثم إلى بعض التقنيات أو الإجراءات الجمالية الخاصة بزوبعة أو تدويم (من دوامة) الزمني والمكاني Tourbillonnement du temporel et du spatial في العمل الفني: خطوط ودوائر بمحيط متكرر، وحركة دوّارة مسحوبة أو منجذبة نحو المركز، على سطح أو مساحة أزرق كثيف يشبه الأعماق المائعة أو اللزجة والمصطخبة للأوقيانوس أو الرحم الأنثوي. وقد اتسمت هذه المرحلة - في مجملها - عند «الشريفي» بتلقائية الحركة، وكثافة المادة الصباغية واللونية والخطوط، وقتامة الألوان الزيتية داخل تدوير إشاري جارف، متكرر وغير مستقر.

اللون والمادة
بَعدَها، وانطلاقًا من نفس الملاحظة، يمكن أن نميز من خلال بعض الأعمال الفنية من تجربة الشريفي: بعض خصوصيات المرحلة الثانية: حيث استمر اشتغاله على اللون والمادة بنفس الكثافة والقتامة أيضًا. لكن بتمثيل وترميز علاماتي مغاير هذه المرة، والمتجلي أساسًا في ظهور شكل أو أيقونة «الفزاعة L’épouvantail» كرمز وكعلامة في نفس الوقت، مُفارِقة ومهيمنة على العديد من أعمال هذه المرحلة، بالرغم من أن هناك بعض الفروقات أو التمايُزات الممكنة بين «العلامة» و«الرمز». بحيث يمكن القول بأن «العـلامة تتضمن فكـرتين إحداهما فكرة الشيء الممثل، والأخرى فكرة الشيء الممثل له. وتقوم الأولى بإثارة الفكرة الثانية في الذهن، فيتم استحضار هذه الفكرة عن طريق التمثل الذهني». 
جَعَل الشريفي من هذه العلامة أو الرمز (الفزّاعة) «شخصية تشكيلية un personnage plastique» بامتياز، وبذلك منَحها الفنان - هنا - هويات متعددة: حضارية (حين ألبسها لباس الفراعنة)، أو قارية (الخاصية أو الملمح الأسود للزنوجة Négritude)، ثم وظائف ودلالات أخرى ثقافية (أنثروبولوجية) ومغايرة، غير دلالتها المعهودة، والمتمثلة أساسًا في وظيفة التمويه وحراسة الحقول من الطيور الجائعة التي تفسد المحاصيل. كذلك جعلها الشريفي تنبض بالحياة، وشاهدة على العديد من جراحات الإنسان وأشكال الدمار التي تلحق بالعالَم: تحتج وترفع ذراعيها وعقيرتها بالصراخ في وجه مآسي هذا العالَم، مشيرة إلى الكثير من بشاعاته وحرائقه الدائمة.

اللون الأسود
أما المرحلة الثالثة من التجربة الفنية للشريفي، فجاءت محكومة أو مطبوعة بمحورين أو «ثيمتين Thèmes» أو سياقين دلالين شاسعين: «أزمنة صدئة Temps rouillés»، و«مديح السواد éloge du noir»، وهما عنوانان كان الفنان قد وضعهما لمعرضَين سابقين له، ضمن تجربته التشكيلية، إذ تُعتبر هذه المرحلة الفنية كذلك بمنزلة تجميع لكل عناصر وخصائص المرحلتين السابقتين من تجربة محمد الشريفي الصباغية، وذلك من خلال الحفاظ على سيادة اللون الأسود في اللوحة، مجسدًا في لطخات عريضة، منحنية أو نصف دائرية، وبكثافة وقتامة ملحوظتين، تحكمهما نفس الحركة التلقائية المسيطرة على المرحلة الأولى. لكن ضمن رؤية تشكيلية ذات منحى صوفي - تأملي، مطبوع على مستوى الشكل والتقنية بنوع من القطع المفاجئ لهذه الحركة، بما يجعل هذا الإجراء التشكيلي يقترب نوعًا ما من البتر المباغت والسريع للزمن أو لإيقاع الحركة في اللوحة، مع إدماج أشكال «الفزّاعات»، وأشكال نباتية أخرى، وما يشبه الشقوق والأخاديد والتمزقات والحرائق كذلك، والعديد من الصور الظلية Silhouettes لأجساد بشرية مقطوعة أو مبتورة الأعضاء، ومُقمَّطة كمومياءات Momies (أغلبها أنثوي) في عمق اللوحة أو في خلفيتها. لكن بتقنية التشفيف والتركيب والكولاج والرشم أو الدّمغ Estampage، واستعمال الصباغة المائية أو «الأكريليك» هذه المرة، هي العناصر الطارئة والمضافة إلى أعمال الشريفي في هذه المرحلة.
في النهاية، بأي عين، ينبغي النظر إلى التجربة التشكيلية للفنان محمد الشريفي، أو إدراكها على وجه التحديد؟ هل بعين ناسخة، تعيد ترسيم أو - بالأحرى - إنتاج «الواقع» الشكلي والدلالي للون والخط والعلامة التشكيلية؟ أم بعين قاطعة، تعمل على إقصاء كل إمكانية تحيل إلى التعدد التعبيري والدلالي لهذه الأعمال الفنية، وتصنيفها مباشرة في خانة المألوف وما «سبقت رؤيته»؟ أم بعين ثالثة متعالية، تقلب الدلالة - رأسًا على عقب - وتتمكن، بكل غزارة، من تقدير أهمية هذه الغنائية المثيرة للانتباه، والحاضرة في اللون والشكل لهذه الأعمال الفنية، الموضوعة أيضًا تحت تأثير تأشير دلالي، أو ملمح، يعد الأكثر تعبيرًا وتأثيرًا أيضًا، بالنسبة للوحات فنية تأتي في شكل قصائد ملونة؟

النضج الفني
قَطْعًا، بين هذه العيون الثلاث، وبها كلها، تم إنجاز هذه التجربة التصويرية للفنان محمد الشريفي في آخر المطاف، بحيث يمكن اعتبار كل ذلك بمنزلة نوع من النضج الفني في الرؤية الفنية والتقنية والأسلوب لهذا الفنان أو - بالأحرى - بمثابة إجراء تشكيلي وجمالي وتعبيري من أجل تليين وتلطيف حرارة كل أشكال القسوة، وتصدعات عالَم مجزأ إلى أنقاض، عالم يطبعه الغليان. ومن هنا، يسعى التصوير الصباغي في هذه التجربة الفنية، كما شعرية اللون وقوته وكثافته، إلى إنقاذ المعنى الحقيقي للعالم وإعادة وضعه في مناطق آمنة، وذلك من خلال حمايته وحفظه في أعمال فنية نيزكية وسائلة ■