بداية استخدام الآلات الغربية في الموسيقى العربية

بداية استخدام الآلات الغربية في الموسيقى العربية

دخلتِ الآلاتُ الغربية الموسيقية في الاستخدام، في الموسيقى العربية. وكان بعضُ هذه الآلات سيئًا وبعضُها الآخرُ جيدًا. وكان بعض أساليبِ الاستخدام مفيدًا وبعضُه الآخرُ ضارًا. متى وكيف ولماذا دخلتِ الآلاتُ الموسيقية الغربيةُ في موسيقانا؟

 

بين سنتي 1824 و1834م، أنشأ محمد علي الألباني، حاكمُ مصر، خمسَ مدارسَ للموسيقى العسكرية، أحضرَ لها مدرّسين موسيقيين من فرنسا. وعلى الرغم من عدم توافر ما يفيد الكثيرَ عن هذه المدارس، إلا أننا يمكن أن نطمئن إلى صحةِ القولِ إنها استندت على الأخص، إلى آلات النفخ النحاسية في التعليم والعزف، على غرار ما في فرق الموسيقى العسكرية الغربية المعروفة. 
في ذلك الزمن، كان غيّوم أندريه فيّوتو (Guillaume André Villoteau)، المؤرخُ الموسيقيُ الفرنسيُ الذي رافقَ غزوةَ نابليون بونابرت لمصر وفلسطين، قد وضع مجلداتِه الثلاثة في موسوعةِ وصفِ مصر (La Description de l’Égypte) ، عن حال الموسيقى هناك. وجاء فيها أن المصريين قبلَ الغزوةِ كانوا يعرفون نوعين من الكمان، هما الكمنجة العجوزُ والكمنجة الرومي، وهما تختلفانِ عن الكمان الغربي الذي نعرفُهُ اليوم. لكن المبدأ فيهما هو نفسُه: أوتارٌ مشدودةٌ على صندوقٍ من خشب، يُعزَفُ عليها بقوس. زد على ذلك أن الكمنجة الرومي تشبه الفيولا الغربيةَ ولا تختلف عنها إلا في شد الأوتار. 
لا شك في أن مدارسَ الموسيقى العسكريةِ التي أنشأها محمد علي، علّمت العساكر المصريين الموسيقيين العزف على الأبواق، موسيقى المشية العسكرية الغربية: المارش، بالمقامات الغربية: الماجور والمينور وما يُشتَق منهما. فالبوق آلة موسيقيةٌ معدلةُ السُّلَّم، أي أن الدرجاتِ الموسيقيةَ التي تعزفها، متساويةُ الأبعادِ، متباعدةٌ نصفَ طنينٍ، مثلما نسمع من البيانو. ومن أثر هذا، أن العربَ درجوا، فيما بعدُ على أن تكون أناشيدُهم المعتمِدةُ على المشية العسكرية، من مقامي الماجور والمينور فقط، بل إن نشيدين وطنيين، هما: المصري، بلادي بلادي، واللبناني كلنا للوطن، كانا أصلًا على مقام الراست، واقتضى عزفهُما بالأبواق أن يُحَوّلا، وفي قولٍ آخرَ أن يُشَوَّها، على مقام الماجور. 
أول ما رصدناه من استخدام الكمانِ الغربيِ في الموسيقى العربيةِ، وكذلك الكمانُ الأكبرُ المسمّى بالفرنسيةِ Viole d'Amour، أي كمانَ الحب، هو استخدامُ أنطون الشوّا الكبير، هاتين الآلتين، في بلاد الشام، قبل سنةِ 1840، إذ كان أمير الكمان سامي الشوا يعزفُ سنة 1933م، على كمانٍ صُنع في تورينو، ورثه من والد جده أنطون، وقال إن أنطون الكبيرَ هذا عزف عليه في حلب أمام إبراهيم باشا، والمعروف أن إبراهيم باشا، جلا عن بلاد الشام قبل سنة 1840م. 
أما أولُ ما رصدناهُ من استخدام البيانو في الموسيقى العربيةِ، فكان عزفَ قسطندي منسّى دور كادني الهوى، لمحمد عثمان سنة 1888م، على ما ذكر قسطندي رزق، في كتابه: «الموسيقى الشرقية والغناء العربي». ولم نسمع البيانو بعدئذ، إلا في أغنيات سجلها الشيخ السيد درويش، بين سنتي 1917 و1923م، في مسرحياته الغنائية. ولم يكن هذا الاستخدام موفقًا، إذ يغني الشيخ سيد وحياة صبري مثلًا أغنية: البحر بيضحك والله، على مقام البياتي، ويصاحبهما بيانو غيرُ قادرٍ على أداء ربع الصوتِ في هذا المقام.
كذلك نلاحظ عدم ائتلاف البيانو مع اللحن العربي في محاورة: «آدي ست الكل زي الفل»، وفي أغنية: «والله تستاهل يا قلبي»، وغيرِهما للشيخ سيد أيضًا. 
لم يستخدم السيد درويش البيانو لا في الأدوار ولا في الطقاطيق ولا الموشحات. وحصر استخدامه في الألحان المسرحية، لسببين محتملين: الحاجة إلى آلةٍ ذاتِ صوتٍ جهور، في المسرح، قبلَ انتشار الميكروفون. والسبب المحتملُ الثاني، هو اقتناعُ الشيخ السيد، بضرورة تجربة البيانو، للعثور على الصيغةِ السليمة لاستخدامه.
في كتاب محمود أحمد الحفني: «سيد درويش... حياتُه وآثارُ عبقريته»، صورة عقدٍ وقع عليه الموسيقار العربي قبل وفاته بشهر ونصفَ شهرٍ، اتفق فيه مع إميل العريان، مبتكر ما سُمِّي البيانو الشرقي، على تلحين أغنيات الشعب، التي تُعزَف عليه، على شرط أن يكون أداء اليد اليسرى، مخالفًا لأداء اليد اليمنى، «حسبَ أصولِ الأرموني الإفرنكية».

الآلات المعربة
وقد صنع جورج سمان ووديع صبرة وعبدالله شاهين وغيرُهم، بيانو مماثلًا فيما بعد، لا يحتوي على كل الأرباع، لأن الأصابع لم تزد في كل ديوان على اثنتي عشرةَ إصبعًا، ثم صنعت السورية وجيهة عبدالحق بيانو بأربعة وعشرين إصبعًا، تحتوي على كل الأرباع، لكن معدلة، أي متساويةَ الأبعادِ. إلا أن كل هذه الآلات المعرّبة، لم تستعرب في الواقع، لأن الدرجاتِ فيها معدلة، أي متساويةُ الأبعاد، فيما السلمُ الموسيقي العربيُ غيرُ معدّلٍ، أي أن الفواصلَ بين درجاته غير متساوية. ولذا فلا يمكن للبيانو في يوم من الأيامِ أن يؤديَ المقامَ العربي.
كيفَ تطورت هذه القضيةُ فيما بعد حتى استخدم محمد عبدالوهاب البيانو استخدامًا مدهشًا، في أغنيته الممتازة: «الصبا والجمال»، سنةَ 1939م؟
في سنة 1932، جاء وديع صبرة، الموسيقي اللبناني إلى مؤتمر الموسيقى العربيةِ الأول، ومعه بيانو معدلُ السلّم. وعرضه على لجنة الآلات الموسيقية لاعتماده. وقالت مجلة «الصباح» القاهريةُ إن رئيس المؤتمر مصطفى بك رضا، صلّح أوتارَ قانونه على سيكا البيانو، ثم طلب من «المطربةِ المعروفةِ الآنسة أم كلثوم، والأستاذ محمد عبدالوهاب» أن يغنّيا بمصاحبة هذا القانون، وفق تصليحه المعدل، فلم يتمكنا من الغناء بجميعِ السبل التي أرادا اتخاذها، وأجمعت لجنة الآلات الموسيقية على رفض بيانو صبرة، الذي غضب بشدة. 
وسألت «الصباحُ» عبدالوهاب آنذاك، عن رأيه في إدراج الآلات الغربيةِ في الموسيقى العربية، فقال بالحرف: «كلُ الآلاتِ غيرِ الوتريةِ تحتاج لبحث دقيق، ولا يتسنى لإنسان أن يبديَ رأيَه فيها بسرعة، أما الآلات الوتريةُ بسائر أنواعها، فنستطيعُ القولَ بصلاحها للموسيقى العربية». 

الآلات الوترية
ولم يتأخر الموسيقارُ العربيُ الأكبرُ عن قرن القول بالفعل، ففي السنةِ ذاتها، استخدم اثنتين من الآلات الوترية الغربية، هما الكمان الجهير (الفيولونسيل، أو التشيلو) والكنترباص، في أغنيته الخالدة: «في الليل لما خلي».
وكان الاستخدام مفيدًا وضروريًا لتكثيف التعبير الدرامي في الأغنية. ويتضح أن مقام البياتي في عزف الآلتين سليم تمامًا، من دون هُجنةٍ ولا لكنةٍ أجنبية. ذلك أن الآلتين غيرُ معدلتين، أي أن العازف يستطيعُ أن يضع إصبع يده اليسرى على أي موضعٍ يريده من الوتر، ليؤدي المقام المعدل وغير المعدل بالدقة ذاتها.
وبعدَ سبعِ سنواتٍ خرج علينا محمد عبدالوهّاب، في فيلم «يوم سعيد»، سنة 1939م، بأغنيته الرائعة: «الصبا والجمال»، فبدأها بالعزف على البيانو الغربي. فهل كان بذلك يناقض قوله لمجلة «الصباح»؟ نحن نرى أن الأغنية كانت استكمالًا لهذا القول وتوضيحًا عمليًا ممتازًا له، لا نقيضًا. فمقام الأغنية هو الكورد الخالي من أرباع الصوت. وحتى لو كان المقام شرقيًا، فإن عبدالوهاب لحّن الأغنية فيما يبدو لنا، على البيانو، فخرج اللحن على المقام المعدل، ولم يحاول تطويع مقامٍ عربيٍ للآلة الغربية. كان عبدالوهاب يقول في هذه الأغنية ثلاثةَ أمورٍ على الأقل:
- أن المقام هو المهم، وأن الآلةَ التي تستطيعُ أداءَه تُعتَمَد، وتلك التي لا تستطيعُ تُستَبعد.
- أن الآلة الغربية يمكن أن تدخل في الموسيقى العربية للإضافة، لا لإلغاء الآلات العربية. 
- أن للآلة الغربية موضعًا في الأغنية العربية، لا يجوز أن تفيضَ عنه، فتلزمُهُ ما دامت مناسبةً للحن.
يتضح هذا تمامًا حين نلاحظ أن البيانو في هذه الأغنية منفرد، لا ترافقه آلات غير معدلة، وأن اللحن يسير بصوت آلات أخرى، حين ينتهي دور البيانو.
في سنة 1932، سنة التئام مؤتمر الموسيقى، كان عبدالوهّاب يستخدم في مونولوج مريت على بيت الحبايب، آلة الأكورديون، أول مرة نعرفها في الموسيقى العربية. هذه الآلةُ أيضًا معدلة، وهذا المقام أيضًا خالٍ من الأرباع: شدّ عربان، وهو من فروع الحجاز كار. 
وفي الأغنية ذاتها، استخدم آلة الكاستانييت، الإيقاعيةَ الإسبانيةَ حفيدةَ الكاستين، اللتين كان بياع الشرابِ يحملهما في الأندلس فيما مضى، ولا نزال نراه يحملهما اليوم في مدننا. 
وقد أعاد استخدامَ الكاستانييت في أغنيته الجميلة: «ردي علي»، في فيلم ممنوع الحب، سنة 1942م.
وكان محمد عبدالوهّاب، وهو شئنا أم أبينا، المجرِّب الأول في الموسيقى العربية المعاصرة، استخدم في فيلم دموع الحب، سنة 1935م، آلة البوق الغربية المستخدمة في الموسيقى العسكرية على الخصوص، في نشيد: «أيها الخفاق».
ولم تمضِ سنتانِ حتى كان رياض السنباطي، الكبير الآخرُ في موسيقانا العربية، يستخدم البوق في أغنية متأثرة تمامًا بنشيد العلم: أغنية أم كلثوم: نشيد الجامعة، في فيلم: نشيد الأمل، سنة 1937، فالنشيدان على مقام العجم، وهو الراجح في الأناشيد. 
وفي كلا النشيدين توزيع هرموني رفيع الذوق، لا غرض استعراضيًا له. ويتسم هذا التوزيع بالرقي والجمال الفائقين.
وفي كلا النشيدين تحوّلٌ إلى مقام عربي، يتوقف عنده عزفُ البوق، وتتولى العزف الآلات غيرُ المعدلة: الراست عند قولِ عبدالوهاب: خُضرةٌ تبعث في النفس الأمل، والبياتي عند قول أم كلثوم: مصرُ ترجو عزَّها في نصركم. لكن عبدالوهاب لم يستخدم أية آلة إيقاع في كل الأغنية، فيما استخدم السنباطي، مع مقام البياتي، الطبلة لضرب الإيقاع.
وفيما بعد عاود عبدالوهاب استخدام البوق استخدامًا جميلاً في أغنيات منها: «أحبك وانت فاكرني». 

الآلات الغربية الكلاسيكية
لقد ابتكر الموسيقي اللبناني نسيم المعلوف في باريس في أواخر القرن الماضي، بوقًا يستطيع عزفَ أرباع الصوت، وكان المعلوف عازف بوق سمفونيا. ولدى تلفزيون لبنان تسجيلٌ للنشيد الوطني: كلنا للوطن، على مقام الراست الأصلي، يَعزف فيه نسيم على بوقِه الشرقي هذا. لكن مشكلةَ هذا البوق فيما أظن، مثلُ مشكلة بيانو وديع صبرة، الذي جاء ذكره في مقالتنا السابقة، فهو معدّلُ السُّلَّم، إلا إذا كانت قوةُ النفخ قادرةً على تبديل الدرجة بعض الشيء لأداء الدرجة المطلوبة.
ومع إقدام محمد عبدالوهّاب ونزوعِه إلى التجدد والتجديد، استخدم عددا من الآلات الغربية الكلاسيكية، مثل الأوبوا والكلارينيت والبوق والكورنو والفلوت، في أوبريت قيس وليلى، في فيلم «يوم سعيد» سنة 1939م.
وقال في حديث إلى سهير عبدالفتاح، سنة 1992، إنه بدأ بعدئذ استخدام الآلات الغربية في الأغنيات الخفيفة، فكان يجرب في كل مرة آلة. 
وفي إحدى أغنياته الدسمة آنذاك، الحبيب المجهول، استخدم الأوبوا استخدامًا جميلًا، في المهمة المناسبة والمقام الصحيح، وضمن حدود معلومة. 
في: لأ مش أنا اللي أبكي، جاء دور الأورغ.
ثم طوّع الأكورديون لربع الطنين في أغنية هان الود، وهي على مقام البياتي، سنة 1962.
ولما سألته سهير عبدالفتاح عن المخاطرة التي خاضها بهذا التطعيم، أجاب بأن البداية كانت دومًا صعبة، لكن الأذن العربية استساغت هذه الآلات، ففي سنة 1944 دخل الغيتار في أغنية «إنسى الدنيا وريح بالك».
وفي أغنية: مريت على بيت الحبايب، يصمت الأكورديون حين يتحوّل اللحن إلى مقام البياتي عند قوله: «وأشتكي له ينكر هواي». ولا يعود إلى النطق، إلا عند عودة اللحن إلى مقام النهاوند، في قوله: «وإن منع عني خياله» ■