تقاعد سعيد

تقاعد سعيد

  لكي ننعم بتقاعد سعيد، يتجاوز بهجة «شهر العسل» المرتبطة بالتحرر من مسؤوليات العمل- كما هي الحال في الإجازات - والتي تتراوح ما بين بضعة أسابيع وبضعة أشهر، أو عامين في أحسن الأحوال، لابد من التخطيط مسبقًا، والاستفادة من تجارب الآخرين فيما يمكن أن يحدث بعد ترك العمل الذي استغرق جل سنوات العمر. وكلما كان التخطيط أبكر، وبصورة واقعية ومبدعة، كلما سهل أمر تجاوز المرحلة الانتقالية بنظرة إيجابية للمستقبل.

 

يرى الخبراء أن التخطيط للتقاعد يتضمن فهم معناه، وتأثيره على الحياة، وعلى أسلوب الحياة، وتقييم جوانب كالموارد المالية، والصحة، والمهارات، والاهتمامات، والقيم الأساسية، ونقاط القوة، وشبكة التواصل الاجتماعي؛ إلى جانب التفكير في ترتيبات المعيشة، وشغل وقت الفراغ، واستحداث أنشطة ودوائر اجتماعية، وغير ذلك كثير، مما يقترحه تقاعد اليوم الذي يمتلك فيه كثيرون طاقة للتعلم، والعمل، والسفر، والتطوع، وتغيير أساليب الحياة، واكتساب الخبرات حتى سنوات متقدمة.
في أحد فصول كتاب «تقاعد سعيد» يقدم لنا المؤلف - الدكتور كنيث شولتز - أفكارًا ونصائح مفيدة للسنوات الأولى من التقاعد التي تشكل أساسًا للتقاعد الذي نريد. فهو يرى أن أيام التقاعد الأولى مثيرة للتحدي. ولهذا يحذر من إنهاء الخدمة في منتصف الأسبوع، قبل أن يعتاد المتقاعد البقاء في المنزل في عطلة نهاية الأسبوع. فحتى لو لم يكن الموظف يحب عمله أو زملاءه، فهو يستفيد من الروتين في تنظيم حياته، وشعوره بوجود هدف يسعى كل يوم لتحقيقه.  وهكذا يكون التخطيط المسبق مهمًا، وفرصة للبحث عن مجموعات جديدة ينضم إليها ويتشارك معها بعض الأنشطة، كالجيران، وأعضاء النادي، لبناء روتين بديل لروتين العمل اليومي. ويمكن إعداد بيئة مناسبة لممارسة هواية أو العمل على مشروع إبداعي ما، وإن كان ذلك يتطلب قوة إرادة كافية للتخلص من أشياء لم تعد نافعة لتفريغ المكان وتهيئة الأجواء الملهمة. 

تقلب المزاج والقلق
لمواجهة تقلب المزاج، أو القلق المصاحب للتقاعد، ينصح د. شولتز بالبحث عن السعادة في جوانب خمسة: علاقات مثيرة للرضا، وصحة عقلية وجسدية، وأمان مالي، وروح شابة، إضافة إلى ممارسات طيبة لصالح الآخرين. والبداية تكون دائمًا في تحديد أهداف صغيرة قابلة للتحقيق. ويقترح أن يعد المتقاعد قائمة يدرج فيها خمس أولويات يمكن أن تجلب له شعورًا بالنجاح، كأن يكون والدًا محبًا، أو زوجًا متعاونًا، أو صديقًا جيدًا. وتفيد هذه الأهداف أو الأولويات في مواجهة حالة «الهبوط المعنوي» بالتأكيد على الإنجاز القائم، وتجنب إجهاد الأهداف الكبيرة التي يضعها المتقاعد بحماس غير واقعي.  
وللتغلب على أيام التأقلم الصعبة، يستحسن تعلم استثارة الحواس بروائح معينة، تذكر بمواقف ومشاعر إيجابية، وبموسيقى محفزة لإفراز هرمون السعادة -الدوبامين- والتعرض للضوء الطبيعي لإفراز هرمون آخر هو الميلاتونين المساعد على التحكم في الساعة البيولوجية، التي يفسدها التعرض المستمر لشاشات الهواتف والحواسيب، فيتعطل إيقاع الجسم الطبيعي وتضطرب أوقات النوم واليقظة. 

تخيل الحياة بعد التقاعد
 من تدابير الاستعداد للتقاعد التي يوصي بها د. شولتز، تخيل الحياة بعد التقاعد وتوصيفها بالتفصيل قبل عيشها بالفعل. وبهذا يمكن توقع المطلوب من الموارد المادية، وعدد ساعات النوم الكافية للاحتفاظ بصحة جيدة، وقدرة على التركيز، وكيفية مواجهة اضطراب النوم المتوقع. وكيفية السيطرة على مستوى القلق، إذا ارتفع بسبب الخوف المحتمل من المجهول في الحياة الجديدة. 
ويقترح طرح أسئلة، مثل: ما الذي يقلقني؟ وما مدى شعوري بالضغط النفسي؟ وهل أشعر بأن الوضع قد خرج عن سيطرتي؟ ثم محاولة الإجابة - بمساعدة استبيانات متوافرة على الإنترنت أو بعون شخص متخصص لتحديد نوع القلق - وممارسة التأمل الذي ثبتت فعاليته بصورة مدهشة بين المتقاعدين من حيث تحسين الوظيفة الإدراكية، ومستوى ضغط الدم، والصحة العقلية؛ مع تجنب تناول الكافيين، والإكثار من شرب الماء، وممارسة الرياضة لتحسين كل من حالة الدماغ والجسم. كما يفيد التواصل الجيد مع الناس، والتعبير عن المشاعر والأفكار. وهذا يعني ضرورة وجود مساندة بعد ترك مجتمع العمل، الذي يمكن أن يشكل صدمة حضارية تنتج عن غياب البيئة الاجتماعية وشبكة العلاقات المشبعة نفسيًا، وفقًا لعديد من الدراسات. 

الخوف من التحول إلى عبء 
يقول المؤلف: إذا كان مصدر المتقاعد العاطفي الأساسي أولاده، ربما يزعجه تغير الأدوار، فبعد أن كان الوالد هو الراعي، يحدث العكس. وهنا قد يكون من الناجع تطبيق مفهوم رأس المال الاجتماعي، والذي يقوم على استثمار دعم منتصف العمر للأولاد والأصدقاء الأصغر سنًا، والاستفادة منه، بعد أن أصبحوا مستقلين وقادرين على رد الجميل. وسيكونون سعداء بذلك في الغالب، على غير ما قد نتصور. وفي مقابل هذا الأخذ سيستمر دور الوالد المعطاء في تشجيع أولاده، والدعاء لهم، ومنحهم خلاصة حكمته وخبرته. وفي حالة عدم وجود أولاد، أو أولاد إخوة، أو دائرة أصدقاء، يكون البديل في دوائر اجتماعية صغيرة منتقاة بعناية. 
ولمقابلة حاجة المتقاعد للدعم النفسي، والصحبة الطيبة في أيام التقاعد الأولى، لا بأس من إعلان ذلك لمن حوله مبكرًا، لتخطي المرحلة الانتقالية؛ فالحاجة لدعم عاطفي، وشخص يرعاه ويستمع إليه؛ ومساعدة عملية ملموسة تقدم له؛ ودعم معلوماتي يوفر له ما يريد معرفته، من الأمور الضرورية. 

التوافق وحل القضايا 
يؤكد د. شولتز حاجة مرحلة التقاعد إلى توافق وحل قضايا متعلقة بتقويض الذات، وفقدان الهدف ومجتمع العمل، ومخاوف صحية، ومادية. ولهذا من الأفضل أن يضع المتقاعد خريطة توضح ما يشعر به، ويعد لمواجهة الجوانب السلبية بصور إيجابية مساوية في القوة، فيقابل فقدان المنصب والوضع الاجتماعي المرموق بتحقيق الاستقلالية. والنظر إلى فقدان مجتمع العمل بقضاء وقت أطول مع الأصدقاء والعائلة، واعتبار تراجع الدخل فرصة لاكتشاف قيم غير مادية لم تكن مقدرة من قبل، ويتحول فقدان الهدف إلى فرصة متاحة للبحث عن مشروعات جديدة، وحتى شعور الرفض يكون فرصة للهروب من الروتين وعبء مهمات العمل. 
ويفرق بين عقليتين: الأولى متحجرة ومليئة بالشكوك، والثانية بناءة، ونامية، ومنفتحة. وللتوضيح يضرب مثلًا بالفرق في سلوك بعض طلاب جامعة هونكونغ ممن حصلوا على فرصة لتحسين لغتهم الإنجليزية بالمجان، فقفز أصحاب العقلية المنفتحة إلى العرض واعتبروه فرصة لإعدادهم لسوق العمل، بينما رفضها أصحاب العقلية المتحجرة، ولم يجدوا لها معنى. وفي هذا الصدد لا يقدم كثير من المتقاعدين على الفرص خوفًا من الفشل، الذي يمكن أن يهز صورتهم في عيون الآخرين، بينما يرى المنفتحون منهم التجربة، مهما كانت، مجرد تقييم لقدراتهم وفرصة لتعلم أشياء جديدة وتغير الطريقة مرة تلو الأخرى. وعلى هذا لا يعني فشل خطط التقاعد نهاية المطاف، ولا بأس من مزيد من المرونة والتغيير. 
ويشير د. شولتز إلى الذين يعتقدون أن الوظيفة تحدد هويتهم، ويعانون عند التقاعد؛ وينصحهم بمحاولة فك الارتباط بينهم وبين المناصب التي شغلوها، لأنهم أهم من الوظيفة، ويحتاجون لتعريف أنفسهم من جديد في ضوء أدوارهم المستجدة. والبداية سؤال آخر: ما الأدوار الأخرى التي يمكن لعبها؟ والد، أو صديق، أو جار، أو ممارس لهواية؟ وما الذي كان يمنحه العمل بينما لا تتيحه هذه الأدوار؟ ويساعد العثور على دور - بنفس القوة، ونفس المميزات - على تخطي صعوبة الانفصال عن الوظيفة بسلاسة، أي يمكن أن تكون إعادة تعريف المتقاعد لنفسه بطريقته، جانب مشجع من حياة التقاعد. ويحتاج الأمر إلى بناء الثقة بالنفس بتعزيز مهارات توافق، تؤكد على إيمان المتقاعد بقوته وقدرته وكفاءته الذاتية ومعارفه الضرورية للتوافق. 
ومن الوصايا القيمة الأخرى التي قدمها الكتاب: الانفتاح على أناس جدد، ولعب دور الصديق، وممارسة الألعاب التنافسية، والإبداع، كمصادر للشعور بالقوة والنشاط، وتوليد الأفكار الجديدة، ولا يهم أن يكون الشخص فنانًا عظيمًا، مثلًا، لأن مجرد كونه موسيقيًا، أو رسامًا، أو نحاتًا هاويًا، كفيل بشعوره بالفخر. وعلى هذا، يتطلب من المتقاعد مواصلة التعلم مدى الحياة واقتحام مجالات جديدة من الخبرة والاهتمام ليفوز بشعور طازج بالذات.

تغيير البيت
 من ضمن التخطيط المسبق للتقاعد، التفكير في البيت: هل سيكون البيت نفسه مع ذكريات الأزمنة الجميلة؟ أم سيتغير؟ وإذا كان القرار التغيير، فلابد من وضع بعض الأمور في الحسبان، مثل: هل يناسب ذلك شريك الحياة؟ وهل من السهل الوصول لبقية أفراد العائلة والأصدقاء؟ حتى لا ينعزل المتقاعد معظم الوقت، ولا تصعب مهمة زيارته. وأسئلة أخرى عن حجم البيت- هل سيكون أصغر؟ أم أكبر؟ ومصير شبكة العلاقات في البيت القديم، وكيفية تخطي شعور المغادرة، وتكاليف النقل، وميزانية المعيشة الجديدة، والقرب من الخدمات، أي وضع سيناريو مستقبلي بكل ما فيه من إيجابيات، وسلبيات. وللتوافق مع المشكلات يشير المؤلف إلى عدة طرق يدير من خلالها المتقاعدون ضغوطهم النفسية: التركيز على حل المشكلة بتناول أسبابها الحقيقية؛ والانتباه للعواطف وإدارة المشاعر نحو المشكلة؛ والدعم الاجتماعي بطلب التعاطف والمساعدة؛ واللجوء إلى الله وطلب المعونة منه، وإعادة التأطير الإدراكي للمشكلة أو صنع معنى، ومحاولة رؤية الجانب الإيجابي لها، وإعادة تفسيرها لتصبح محتملة، كما يوصي بالبحث عن طرق للضحك لتغيير الحالة المزاجية. 

الإنترنت والسفر 
مع توافر وقت الفراغ  قد تتغير العلاقة مع الإنترنت، ولهذا، يؤكد د. شولتز على أهمية استخدامها بحكمة. ومن المفيد معرفة المطلوب على وجه التحديد: هل المطلوب التواصل مع الأصدقاء والأقارب؟ أو متابعة الأحداث وقراءة الصحف الإلكترونية؟ أو مشاهدة أفلام وفيديوهات؟ أو المشاركة في حملات أو مشروعات تنموية؟ أو التسوق على الخط؟ أو تعلم شيء جديد؟ أو غير ذلك، ويشجع على اختيار مواد إيجابية، والبعد عن السلبية. 
وفي معرض اقتراحه لأنشطة، أشار إلى دراسة أجريت قبل أعوام بمجلة خاصة بالحاسوب سألت كبار السن عن أوجه الاستفادة من الإنترنت، وتصدر ترتيب الرجال: التواصل في غرف الدردشة، وإرسال رسائل البريد الإلكتروني، ومتابعة الأخبار والأحداث، واللعب على الخط، بينما تصدر ترتيب النساء: مشاهدة فيديوهات، ومتابعة الأخبار والأحداث، والاستماع إلى الموسيقى، والراديو.
أما بالنسبة للتفكير في خوض المغامرات والسفر، ينصح د. شولتز، بمعرفة سبب السفر، هل لتوسيع الأفق والاستمتاع؟ أم لممارسة هواية؟ أم اقتناص فرصة تعلم؟ أم قضاء وقت مميز مع أعزاء؟ والبحث عن رفيق، أو مجموعة يمكن الانضمام إليها، واختيار الأجواء المناسبة، والسفر بذكاء في ضوء تخطيط واطلاع على أفضل العروض، والتأكد قبل الانطلاق من تحضير الأدوية، والمتعلقات الشخصية الضرورية لرحلة سعيدة ■