الرقص الشعبي في اليمن

الرقص الشعبي في اليمن

الرقص والموسيقى فنان لا يمكن الفصل بينهما، فهما متلازمان، فحيثما وجدت الموسيقى وجد الرقص وحيث وجد الرقص وجدت الموسيقى. 
عرف الإنسان اليمني الموسيقى والرقص منذ أقدم العصور، ونجد ذلك جليًا من خلال النقوش والتماثيل.

 

عثر في مدينة الجوف اليمنية على تمثال برونزي (الراقصة)، وهو لامرأة في وضعية رقصة تعبيرية باسطة يدها منحنية بجسدها ترتكز على قاعدة مستطيلة منحوت عليها خط المسند، كما وجد على شواهد القبور السبئية - الحجرية والرخامية والجيرية - نحوت لنساء يعزفن على آلات وترية وإيقاعية (عود، هارب، طبلة)، مثل الشاهد الذي يظهر فيه شخوص نسائية متعددة الأوضاع، إحداهن تمسك بآلة الهارب، وأخرى ممسكة بآلة إيقاعية (طبل)، وقد كتب على الشاهد بخط المسند (صورة غلالة بنت مفدت وليقمع عثتر من يتلفه). وقد أشار الهمداني في كتابه «الإكليل» عند حديثه عن مغارة متقادمة عادية فيها قبر ؤدعة بنت عاد ومسك ابن نعيم خازن عاد وبها تمثالان عظيمان، وهما في صورة قينتين في حجر إحداهما «عرطبة» أي طنبورة، وهو نوع من أنواع العود ذي الرقبة الطويلة، وفي اليد اليسرى مزمار ممسوخ.

الآلات الموسيقية المستخدمة في الرقص الشعبي
استخدم الإنسان اليمني منذ القدم جذوع الأشجار وأواني المطبخ كآلات موسيقية ورقص على أنغامها، مثل الصحن النحاسي والملعقة، الذي يعمل كآلة إيقاعية في بعض الرقصات الشعبية، مثل رقصة المزمار ورقصة الشعوبية، كما استخدم جذوع الأشجار كأدوات نقر في رقصة البرع الشهيرة، وجذوع النباتات كأدوات نفخ في عدة رقصات شعبية، كذلك استخدم التصفيق باليد وضرب القارض بالقدم كإيقاع في بعض رقصات محافظة حضرموت، وهذه الآلات البدائية المستخدمة في الرقصات الشعبية اليمنية مازالت إلى الآن تستخدم، بل إنها شرط أساسي للقيام بالرقصات الشعبية.

دلالات الرقص الشعبي
- مع تطور حياة الإنسان تطورت وتغيرت الوظيفة الاجتماعية للرقص، وأصبح أغلبه يمارس في الأفراح والمواسم والاحتفالات، وأصبح مدلولًا ثقافيًا معبرًا عن المجتمعات نستطيع من خلاله معرفة طبيعة أي مجتمع أو أي شعب من الشعوب من خلال دراسة وتحليل فنونها.
- وبشكل عام يمكن تحديد مجموعة من الدلالات الاجتماعية لبعض الرقصات الشعبية:
1 - الرقص كدلالة للمعتقدات الدينية: مورس الرقص كطقس ديني منذ قديم الأزل في المعابد للتضرع إلى الإله وتقديم القرابين، استمر هذا الطقس إلى الآن، مع تغير نمط الرقص وتطوير مفاهيمه في العصر الحالي، مثل الرقصات الصوفية التي تكون عادة مصاحبة بالدفوف أو تلك الرقصات التي تتم في زيارات الأضرحة والأولياء: 
- الزيارة السنوية لضريح ابن علوان في مدينة تعز بمنطقة يفرس، التي تكون في أول جمعة من شهر رجب، ويجتمع المئات من مريديه يتقدمهم الفقهاء على دقات الدفوف ويتم عمل الموالد الدينية، ويقوم مجاذيب بن علوان بالاستعراضات والشعوذة. 
- زيارة ضريح العيدروس في مدينة عدن بمنطقة كريتر، وهي زيارة سنوية في أول جمعة من شهر ربيع الآخر، حيث يتجمع المئات من مناطق مختلفة مصاحبين الدفوف والطبول ويقيمون الشعائر والطقوس الاحتفالية ويرقصون رقصة (المزف) على إيقاع الطبول والدفوف.
2 - الرقص كدلالة حربية: كانت رقصات الحروب وإبراز القوة وإرهاب الأعداء إحدى أهم الوظائف الاجتماعية للرقص، إذ ظل هذا الطقس يمارس إلى الوقت الحالي مع تغير وظيفته الاجتماعية، حيث أصبح رقصًا شعبيًا جماهيريًا بعيدًا عن أجواء الحروب، كرقصة (الجل) التهامية في اليمن، والجل تعني الرمال، وهي رقصة حربية عبارة عن صراع درامي بين حامل السيف وبين ضارب المرفع (الطبل)، بالاعتماد على مهارات تحريك السيوف، وإيقاعات الطبول الراقصة. وهذه الرقصة تحتاج إلى مهارة وليونة كبيرتين، والإلمام بحركات السيوف، إذ يمسك الراقص بيديه سيفين، يلوح بهما في الهواء، ويمررهما بين فخذيه ويديه بحركات ومهارات عالية، غاية في الدقة والإتقان.
3 - الرقص كمقاوم لقوى الشر: كانت الشعوب البدائية تعتقد أن وراء الأوبئة والأمراض قوة سحرية خفية، فكانت تقوم بطقوس راقصة لطرد هذه القوة الشريرة. استمرت وظيفة الرقص كطقس يمارس لمحاربة قوى الشر إلى وقتنا الحاضر، فنجد ذلك مثلًا في طقوس (الزار العمراني) السنوي الذي يقام في قرية عمران الساحلية في مدينة عدن بآخر أسبوع من شهر شعبان، وتقام في أجواء معينة، حيث يتم دق الطبول بإيقاعات وسرعات مختلفة، ويقوم الشخص بالرقص والميلان لساعات طويلة وتتغير الإيقاعات بين البطء والسرعة، وتستمر حتى يقع الراقص على الأرض مغشيًا عليه، وإذا توقفت الموسيقى قبل أن يسقط على الأرض فإنه يصاب بحالة تشنج عصبي ولا يفيق منها إلا بعودة الموسيقى.

ترابط اجتماعي
4 - الرقص كمعزز للترابط الاجتماعي: إن ممارسة الرقص في جماعات ومجموعات تعكس حالة الترابط الوجداني بين أفراد المجتمع الواحد، وتدل على  ارتباط الفرد بالجماعة في نطاق مجتمعه وأنه فرد له وجوده وتأثيره في المجتمع. ويقوم عادة صغار السن بتعلم الرقص الشعبي من خلال المشاركة في الرقص مع أفراد المجتمع، ممن هم أكبر سنًا، مما يشكل ترابطًا حميميًا بين الأجيال -  فمثلاً - رقصة البرع في اليمن والتي كانت تعتبر رقصة حربية تقام في المناسبات الاجتماعية وترقص على إيقاع الطبول، ويرتدي الراقصون الملابس الشعبية التقليدية متقلدين السلاح الأبيض (الجنبية) ملوحين به في الهواء، وتمارس من قبل رجال القبائل اليمنية وتؤدى بشكل جماعي ويسمح فيها للأطفال بالمشاركة في الرقصة، ويكون هناك قائد في الرقصة، وعادة يكون الأمهر أو الأكثر وجاهة. ويقوم بقية الراقصين (المبترعين) بتتبع خطواته في دلالة على التركيبة الاجتماعية للقبيلة في اليمن، كما أن رقصة البرع هي وسيلة لتعليم أبناء القبيلة أن يعملوا كمجموعة مترابطة في ظروف صعبة.

طقوس حميرية
5 - الرقص الاستعراضي: من الألعاب الشعبية في وادي بنا محافظة إب والذي تقول المصادر الشعبية إنها طقوس حميرية مستمرة إلى الآن، تمارس حاليًا في أيام عيد الأضحى، حيث يقوم أحدهم بلبس ملابس نسائية ويسمى «حلاوة العيد»، يمشي بمواكبة شخص يسمى «معجب»، يلبس جلد الماعز وفي وجهه قناع ويمسك بيده ذيل بقرة يقوم بضرب الناس به ليبعد المتحرشين، ويتنقلون من قرية إلى قرية وهم يرقصون رقصة البرع، ويقوم المعجب بالصراخ والحديث بصوت غريب وعالٍ ليرعب الناس ويقوم أهالي القرية بإعطائهم الهبات عند المرور بجانبهم، فيقوم المعجب بكسر أو نثر أي شيء يجده أمام الأبواب سواء أقداح بر أو دلو الماء وغيرها ولا يقوم أحد بانتقاده، لهذا ما أن يصل إحدى القرى حتى تسرع النساء بجمع أي أشياء من باب البيت وإدخالها إلى المنزل.
6 - الرقص في مقاومة الطبيعة: ما زالت مستمرة إلى الآن بعض الرقصات المرتبطة بمناجاة الطبيعة للتخفيف من أخطارها، مثل رقصات البحارة في مدينة الحديدة، فعندما تشد العاصفة وتتمايل الأمواج يرقصون وهم يرددون (وا زيب قر)، حيث يناشد الرياح أن تهدأ وتستقر، وكذلك في أغاني صيادي حضرموت عند عودة الصيادين خائبين في حال لم تمتلئ شباكهم بالأسماك، فإنهم يرقصون متضرعين لآلهة البحر (سوبان).
7 - الرقص كدلالة للتمايز الطبقي: يذكر هنري فارمر أن القبائل العربية الأصيلة عدت احتراف ممارسة الموسيقى غير لائق بوضعهم كمحاربين، وتعتبر بعض القبائل من الطبقات العليا في التصنيف الطبقي للمجتمع اليمني أن الرقص لا يليق إلا بأصحاب المهن والحرفيين والطبقات الدنيا الذين يستخدمون الرقص للترفيه والتسلية، لهذا نجد اعتراض القبائل اليمنية على تسمية «البرع» برقصة، ويصرون على التسمية «برع» فقط، كما أنهم يسمون بعض الرقصات باللعبة لتجنيبها صفة الرقص، ومن هذه الرقصات:
- رقصة «الشرح الريض»: وهي رقصة الصفوة وتتميز بالرقص الهادئ والمتزن وتؤدى على إيقاعات الهاجر والمروس.  
رقصة «الريسي»: وهي رقصة تؤديها الطبقات الاجتماعية الدنيا بمشاركة الريسا «المزين والأخدام»، وتؤدى على إيقاع الطبول والدفوف ولا تستخدم فيها السيوف والخناجر أو العصي.

تنوع ثقافي
8 - الرقص كدلالة على التثاقف: يتميز اليمن بتنوع ثقافي كبير، يعود ذلك إلى عدة أسباب، منها أنه ملتقى حضارتي آسيا وإفريقيا، وممر قديم لطريق البخور واللبان مما جعله يتأثر ويؤثر بالتلاقح الثقافي للشعوب المختلفة، فدخلت في الثقافة اليمنية بعض الرقصات من بلدان مختلفة وأصبحت جزءًا من الثقافة الشعبية اليمنية، منها:
رقصة الليوه: أصلها من مومباسا الكينية، وهي الآن إحدى الرقصات الشعبية الشهيرة في مدينة عدن، والتي ترقص في الحفلات والمناسبات، حيث يلتف الراقصون حول العريس ويقومون بأداء الرقصة على إيقاع الطبل والمرواس، وتستمر الرقصة إلى ساعات متأخرة من الليل.
رقصة الكاسر: تعود أصولها إلى بلاد الشام، وهي رقصة لصيادي الأسماك، حيث يقومون بأدائها عند عودتهم من البحر إلى الشاطئ، أو عندما تواجههم في البحر سمكة العنبر. 
9 - الرقصة كدلالة على المحاكاة: وهي رقصات يتم فيها تقليد بعض الحيوانات: 
- رقصة نعش البقارة في حضرموت، وهي رقصة مستوحاة من حركة الأبقار أثناء الزرع في الحقول، حيث يقوم الفلاحون بإطالة شعورهم ودهن رقابهم بالزيت، استعدادًا للرقصة ويقومون بتحريك رقابهم شمالًا ويمينًا على إيقاع الطبول، مقلدين حركات البقر وسط المزارع.
- رقصة النسر في صعدة، وهي رقصة مستوحاة من حركات صيد النسور من ترقب للفريسة حتى الانقضاض عليها، ويلبس الراقصون ملابس بيضاء ذات أكمام طويلة وواسعة ويبدأون الرقص بشكل جماعي مع رفع أيديهم لتبدو الأكمام وكأنها أجنحة النسر، ويتقدمون إلى الأمام مع ضرب الأرض بأقدامهم، ومن ثم العودة إلى الخلف على إيقاعات الطبل والمزمار ■