التفكير العلمي

التفكير العلمي

احتفاء بصدور 500 عدد من سلسلة عالم المعرفة التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت شهريًا منذ العام 1978، تنشر السلسلة طبعة جديدة منقحة من كتاب «التفكير العلمي» الذي نشرته سابقًا قبل 45 عامًا لأحد مؤسسيها فؤاد زكريا، والكتاب ما زال محتفظًا بجِدته كما أشار د. محمد الرميحي في كلمته، لأن موضوعه التفكير العلمي، بمعناه الواسع، وهو ليس تفكير العلماء وحدهم، ولكن لا بد من الاطلاع على أسلوب تفكيرهم.

 

سمات التفكير العلمي
1- التراكمية: تسير في الاتجاهين: التعمق في بحث الظواهر نفسها، والتوسع إلى بحث ظواهر جديدة.
2- التنظيم: وسيلة العلم لتحقيق النظام في ظواهر الطبيعة المتشابكة والمعقدة والمفتقرة بذاتها إلى التنظيم واتباع منهج أي طريق محدد يعتمد على خطة واعية.
3- البحث عن الأسباب: له هدفان: إرضاء نزوعنا النظري إلى فهم حقائق الأشياء، وتحوير الظواهر وتغيير طبيعتها على النحو الذي يضمن تسخيرها لخدمة أهدافنا العملية.
4- الشمولية واليقين: المعرفة العلمية شاملة تسري على جميع أمثلة الظاهرة التي يبحثها العلم، ولا شأن لها بالظواهر في صورتها الفردية. كما أنها قابلة لأن تنقل إلى كل الناس الذين لديهم القدرة العقلية على فهمها والاقتناع بها.
5- الدقة والتجريد: وسيلة العلم في تحقيق الدقة هي استخدام لغة الرياضيات، وهي علم مجرد لا يتحدث عن أشياء ملموسة.

عقبات في طريق التفكير العلمي
1- الأسطورة والخرافة: يقوم التفكير الأسطوري على صبغ الظواهر الطبيعية غير الحية بصبغة الحياة، أما التفكير الخرافي فيقوم على إنكار العلم ورفض مناهجه، أو يلجأ في عصر العلم إلى أساليب سابقة لهذا العصر. 
2- الخضوع إلى السلطة: وأهم عناصرها: 
أ- القِدم: يرتكز على الاعتقاد بأن المعرفة تعود إلى القدماء، وغالبًا ما يزداد الميل إلى الأخذ بسلطة القدماء في عصور الركود كما كان الوضع في العصور الوسطى.
ب- الانتشار: يكتسب الرأي سلطة أكبر إذا كان شائعًا، وتحدي سلطته ينبغي ألا يتم إلا على أيدي الذين يملكون الدليل على بطلانه، والبديل عنه.
ج- الشهرة: يكتسب الرأي سلطة إذا صدر عن شخص اشتهر بالخبرة والدراية في ميدانه، علمًا بأن هذا النجم قد لا يكون أكثر الناس خبرة في ميدانه، وقد تكون شهرته مصطنعة.
د- الرغبة أو التمني: يميل الناس إلى تصديق ما يرغبون فيه، أو ما يتمنون أن يحدث. ويحاربون ما يصدم رغباتهم أو يحبط أمانيهم.
3- إنكار قدرة العقل: يبدأ خصوم العقل من مقدمة صحيحة أن العقل ما زال عاجزًا عن كشف كثير من أسرار الكون، وأن هناك مشكلات كثيرة يعجز العقل عن حلها، ثم يستنتجون منها نتيجة باطلة مفادها أن العقل بطبيعته عاجز، وسيظل إلى الأبد قوة محدودة قاصرة.
4- التعصب: اعتقاد المرء برأي الجماعة التي ينتمي إليها، وإعلائه هذا الرأي فوق آراء أي جماعة أخرى. وهكذا يعفي نفسه من التفكير الحر والتساؤل، وتشيع قيم الخضوع والطاعة. 
5- الإعلام المضلل: تسير عملية تزييف الإعلام في طريقين: تجاري هدفه ترويج السلع بين الناس حتى لو لم يكونوا في حاجة ماسة إليها، وسياسي إذ تستعين نظم الحكم المختلفة بأجهزة الإعلام من أجل دعم مركزها بين شعبها أو بين الشعوب الأخرى. وهكذا يبتعد الإعلام عن الموضوعية والنزاهة اللازمتين لكل تفكير علمي.

المعالم الكبرى في طريق العلم
يعرض هذا الفصل لنقاط التحول خلال تاريخ العلم بشكل يتيح كيف تشكل معنى العلم بالتدريج، وكيف تخلص من المفاهيم غير الدقيقة التي كانت عائقاً في وجه تقدمه.

العالم القديم
في الحضارات الشرقية القديمة تراكمت حصيلة ضخمة من المعارف ساعدت على تحقيق إنجازات كبرى ولكن هذه المعارف لم تكن سوى خبرات مورثة، ولم تتوصل إلى النظريات الكامنة وراءها. أما الحضارة التي توصلت إلى هذه المعرفة النظرية فهي الحضارة اليونانية. فلقد كان لدى اليونانيين قدرة هائلة على التعميم جعلتهم لا يهتمون بالأمثلة الجزئية وإنما يركزون على أعم جوانبها، كما تفوقوا في التجريد، ولذلك كانت أعظم إنجازاتهم العقلية في ميدان الفلسفة والرياضيات، وبحثهم عن البراهين والأدلة لكي يقتنع العقل نظريا جعل الهندسة تصبح عندهم علمًا. ولكن ظل تصورهم للعلم مشوبًا بعيوب أساسية تعود إلى تطرفه، فلم يكتفوا بتأكيدهم على النظرية، بل تمسكوا بالتأكيد المضاد، وهو أن العلم لا علاقة له بمجال التطبيق، وهكذا تركت الحضارة اليونانية والرومانية العالم من دون أن يتغير كثيرًا عما كان عليه في الحضارات السابقة من حيث الإنجازات العملية.

العصور الوسطى
هبط فيها العلم الأوربي إلى الحضيض، إذ احتفظ بأسوأ عناصر المفهوم اليوناني للعلم وعمل على تجميدها وتحويلها إلى ما يشبه العقيدة، ففي مجال المنهج العلمي كان أسلوب الخضوع للسلطة هو الشائع، وحدث تحالف وثيق بين معتقدات الكنيسة المسيحية وتعاليم أرسطو الفلسفية، أما أسلوب التفكير فكان هو الجدل اللفظي العقيم ومن حيث المضمون توجهت أعظم الجهود إلى علم اللاهوت.
أما العلم الإسلامي فقد وصل إلى قمته خلالها وبدايته كانت التفتح الفكري لنقل علوم القدماء وفلسفاتهم في ترجمات أمينة، واستخدامها من أجل تلبية حاجات المجتمع الإسلامي. وهكذا تم استخدام العلم من أجل كشف أسرار العالم الطبيعي وتمكين الإنسان من السيطرة عليه، وارتكز على دعائم قوية من المنهج التجريبي ومن الحقائق الرياضية الدقيقة.

العصر الحديث
تضافرت عوامل متعددة أدت إلى الانتقال بأوربا إلى أسلوب التفكير العلمي الحديث، داخلية وخارجية، كالتأثير الإيجابي الذي مارسته الحضارة الإسلامية بعد أن راحت المؤلفات العربية الكبرى تترجم على نطاق واسع إلى اللغة اللاتينية. ولقد أسهم الفلاسفة إضافة إلى العلماء في تشكيل المفهوم الحديث للعلم، فالفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون دعا إلى الاعتماد على ملاحظة الظواهر ومشاهدتها تجريبيًا، وإلى عدم التسرع بالتعميم، كما قال بقابلية كل علم للتطبيق. والفيلسوف الفرنسي ديكارت أكد أهمية الجانب الرياضي العقلي للعمل العلمي. وقد جمع العلماء في ذلك العصر بطريقة تلقائية بين نتائج تفكير هذين الفيلسوفين كما أضافوا الطابع الجماعي للعلم.

العلم المعاصر وأبعاده الاجتماعية
كان العلم الأوربي عند مطلع العصر الحديث علمًا ميكانيكيًا، وكذلك كان نموذج المعرفة هو النموذج الآلي، ولعل أعم عامل داعم له هو إمكاناته التطبيقية الهائلة التي بلغت قمة نجاحها بظهور الآلة البخارية، وقد أدى ظهور نظرية داروين إلى إعطاء هذا الاتجاه الآلي دفعة قوية، وظل في صعود حتى أواخر القرن التاسع عشر مع اختراع الهاتف والسيارة والطائرة.
وفي القرن العشرين حدثت ثورة كمية وكيفية هائلة في المجال العلمي: تسارع معدل نمو العلم، وازداد عدد العلماء، ومن أهم الإنجازات: كشف إمكانات الطاقة الذرية، واختراع الذاكرة الصناعية التي يسميها المؤلف العقول الإلكترونية، وغزو الفضاء.
إن الكشوف العلمية المستقرة في أي عصر هي حصيلة التفاعل بين عاملين: بيئة اجتماعية مهيئة لها، وعبقرية فردية تظهر في الوقت المناسب. والعلم المعاصر له طابع مصيري لأنه سيحدد مصير الإنسان سلبًا أو إيجابًا. وفي هذا الفصل يناقش المؤلف أهم المشكلات الحياتية التي سيتوقف حلها إلى حد بعيد على الطريقة التي يوجه بها الإنسان أبحاثه العلمية:
1- مشكلة الغذاء والسكان: لدى العلم قدرات هائلة كالبحث في وسائل استزراع المناطق الصحراوية الشاسعة، وإسقاط المطر الصناعي.
2- مشكلة البيئة: التلوث واختلال التوازن الطبيعي. يرتبط حلها بتغيير أساسي في نوع القيم الاجتماعية والاقتصادية السائدة بحيث لا تعود مرتكزة على التنافس بل على التعاون والتعايش، وهذا الحل لن يكون إلا على مستوى عالمي شامل.
3- مشكلة الموارد الطبيعية: مصادر الطاقة التقليدية، وخصوصًا البترول، محدودة، لذلك لم يتوقف البحث عن مصادر بديلة: الطاقة الذرية والشمسية، طاقة حرارة جوف الأرض، وطاقة المد والجزر. ولكن هذه الطاقات البديلة لم تصبح بعد اقتصادية. ولذلك لا بد من الحد من الاتجاه الاستهلاكي الذي تسير فيه المجتمعات.
4- مشكلة الوراثة والتحكم في صفات الإنسان: يرى المؤلف أن احتمال توصل الإنسان إلى نوع من التنظيم الاجتماعي الذي يجعله أهلاً لمواجهة عصر التحكم في القدرات البشرية، يبدو أضعف من احتمال وصول العلم إلى هذا العصر.
5- مشكلة التسلح: هي الأخطر لأن من طبيعة الأسلحة المعاصرة أنها قادرة على إفناء العالم كله، ولطالما كان الارتباط وثيقًا بين العلم وتطوير الأسلحة، ومع ذلك فإنه خاضع لتحكم قوى خارجة عنه هي التي تخطط له وتحدد اتجاهاته، وتمول أبحاثه وتوظف المشتغلين فيه، وهي قوى سياسية واقتصادية تتحكم في اتجاهاتها الأطماع والمصالح ■