«لوحات» علي جواد بلاغة الموقف والحنين تطغى على برودة التَّشكيل الفنّيّ

«لوحات» علي جواد  بلاغة الموقف والحنين تطغى  على برودة التَّشكيل الفنّيّ

إنَّ نشر المنتج الأدبيّ الأوّل لَهُوَ مغامرةٌ مفتوحةٌ على عدّة احتمالاتٍ دائمًا: مغامرةٌ للكاتب تتأرجح بين حدَّي إقبال الجمهور على استقباله أو إعراضه عنه، ومغامرةٌ للقارئ الّذي يتلقّى النّصَّ وجهًا لوجهٍ معزولًا عن أيّ أحكامٍ مسبّقةٍ أو انطباعاتٍ أو تعميماتٍ شائعةٍ قد تكون مخاتلةً أحيانًا؛ فوحده الكتاب هو محكّ الحكم النّقديّ، والقادر على تقديم نفسه إلى المتلقّي بمعزلٍ عن مغريات شهرة الكاتب.

 

في هذا السّياق، نتلقّى كتاب «لوحات» الصّادر حديثًا من دار البيان العربيّ في بيروت للكاتب اللّبنانيّ المُغترِب في أمريكا علي جواد. يضمّ الكتاب ثلاثين نصًّا يبدو أنَّها كُتبت في أوقاتٍ متباينةٍ نسبيًّا نظرًا إلى التّفاوت في بنيتها الدّلاليّة واللّغويّة والرّمزيّة. ولا يتردّد العنوان في السَّفر بنا إلى عوالم دلاليّةٍ ترتبط موضوعاتها بتجارب الكاتب الحياتيّة ممّا يتّصل بالغربة، والوطن، والمرأة أو الحبّ، ومصير أمّته الّتي ينتمي إلى نبضها وتطلّعاتها، لتجيء تلك الاختبارات الذّاتيّة أشبه بلوحاتٍ تصويريّةٍ تعبيريّةٍ غير تجريديّةٍ تختزن طاقاتٍ حارّةً من الوجدان الصّادق. 
لا يؤطّر علي جواد كتابه ضمن نوعٍ أدبيّ بعينه، بل يُطلقه نصوصًا حرّةً تتّكئ، في إخراجها الشّكليّ، على علقة قرابةٍ مع القصيدة الحديثة لناحية اعتماد الأسطر الشّعريّة المتفاوتة من حيث الطّول والقصر، ولكنَّه، مع ذلك، يُحرّر نسيجه النّصّيّ من شروط أيّ بنية إيقاعيّة، فيكتب نصوصه راقصةً في مساحة الضّوء والبياض من غير وقفاتٍ إلزاميَّةٍ تفرضها موسيقى الرّويّ والقافية. ونلحظ أنَّ جوادًا يكتب بانسيابيَّةٍ تامّةٍ مدفوعًا بنبض الفؤاد وحرارة المشاعر، فينساق عفويًّا صادقًا في عباراته من غير برودةٍ يمكن أن تتأتّى من مطاردة هندسة الجماليّات التّركيبيّة، أو الانشغال بالبنية النّصّيّة وتقنيّاتها الماثلة في نحتّ كلّ جملةٍ أو عبارةٍ شعريَّة. فالمقام الأوّل، في هذه اللّوحات، هو لبلاغة الموقف، وإن أتى ذلك، أحيانًا، على حساب الاشتغال بقماشة النّصّ الفنّيّة التّركيبيّة والموسيقيَّة.  

السّطوة الأولى
فالتزام المواقف الذّاتيّة له في هذه اللّوحات الّتي تُرينا الإنسانَ الكامن داخل الكاتب بأبهى صور حضوره وسطوعه. ومتى ذكرنا الإنسان، تراءت لنا الحرّيّة بُعْدًا، بل أهمّ بُعْدٍ في تشكيل الهويّة الإنسانيّة الّتي يبحث عنها الكاتب ويقرنها بالفرح ومهمّة حضوره في العالم: «أبحث عن حرّيتي ووردتي/ أبحث في مملكة النّور/ لا لأرقص مع خيوط الضّوء/ بل لأستكينَ إلى نفسي/ وأستعير وجه الفرح». وليست الحرّيّة هبةً تُمنَح أو منَّةً تُعطى؛ إنّها فطريّة الوجود أصيلة في الإنسان، بل إنّها تعادل الوجود ولا تقبل الانتصاف والاجتزاء، ولذلك ينحاز الكاتب إلى الانتصار للحرّيّة بالكامل، حتّى يكاد هذا الموقف الصّريح يوقعه في فخّ الأسلوب النَّثريّ بهدف المحاججة: «لأنَّ الحريّة فطريّةُ الولادة/ إنّها وجودٌ/ فإمّا أن تكونَ وإمّا لا تكونَ». إذ يكاد يُبارح الخطابَ المجازيَّ لحساب التزام قوّة الموقف في مساندة حقّ الإنسان بالحرّيّة؛ لأنَّ المجاز احتمالٌ مفتوحٌ على الحضور بقدر ما هو مفتوحٌ على الغياب، ولكنّ الكاتب يرفض إلّا أن يُشرّع باب ذاته على ضوء الحرّيّة كاملًا من غير أيّ مواربةٍ.
ولا تتّخذ الحرّيّة معناها في سياق الذّات المفردة، بل تنفتح على سياق اجتماعيّ وسياسيّ عامٍ مشترك؛ لذلك فهي قيمة حقوقيّة عامّة ومعنًى تقاطبيّ يدخل في صلب العلاقة بالآخر، ويتعيّن بالارتكاز على تأسيس بنية الوطن، وتكوين هويّته السّياسيّة والحضاريّة؛ ومن ثمَّ فهي نقيض الخوف والقمع والزّيف وسلب الحقوق: «أنتزعُ خنجر القمع/ المغروس في صدري/ لأتحرَّر من دهاليز الوعود». إذ يتجاوز ضمير المتكلّم، هنا، الدّلالة على ذات الكاتب المفردة ليستغرق أبناءَ وطنه الرّاغبين بوطنٍ يليق بالإنسان وكرامته. وفي هذه المسافة ما بين الأنا المفردة والأنا الجماعيّة يكتب جواد تمرّده، ويعلن رفضه الاستسلام للمتسلّطين القابضين على روح بيروت، لأولئك اللّصوص المقامرين بمصير وطنٍ بأكمله الَّذين روّضوا فئات الشّعب كظلّ لهم: «كلّ ما في الأمر أنَّ اللّصوص روّضوا ظلّهم ليقلّدوا طيران/ الحمام، يا بيروتُ»، ويقول أيضًا مستنكرًا: «مَنْ أعطاهم بلادًا، واسمًا، وحكمًا؟/ إنَّهم جالسونَ مسكونينَ بالوهم والعبث/ سجّانون مسجونون/ محتكرونَ العروشَ/ عبيدٌ يعبدون طغاتهم، والطّغاةُ يعبدون ورقةً». إذ يرى أنَّ الطمَّع والجشع يحرّكان حكام بلاده ليقمعوا الشّعب ويطغوا حبًّا بالمال وعبادته، ولكنّهم يبقون عبيدًا لطغاة العالم الأقوى والأكبر، فيما الشّعب أمسى جائعًا يُطارد رغيف الخبر: «بلد كيسُ الخبز فيه مطارَدٌ». 

الفكرة والموقف
وبعد ذلك، يعمد إلى تشريح عوامل سقوط وطنه بيد اللّصوص، فيشير إلى أربعة عوامل رئيسة ضمن خطابٍ يكاد يطغى فيه الفكرة والموقف على حساب التَّشكيل الجماليّ، ممّا يُقرّب العبارة من الخطاب الثوريّ المباشر النّابض بالتّحريض على التَّغيير والثّورة. وهذه العوامل هي:
- التَّعصّب الّذي صادر العقول وحرّيّة التَّعبير: «والمتاريس أكبر من العقول».
- استغلال الدّين والارتهان للماضي: «صار السّلاحُ كلماتِنا/ أضحت أديانُنا أسيرةَ الأيديولوجيا»، «الماضي يتجوَّل في الحاضر/ ويصقله على مرائي مشاهدين يناقشون الصَّواب/ والخطيئةَ/ ومعاني السّماوات البعيدة».
- انتشار الجهل الَّذي يتمدّد كأخطبوط: «وقبل أن يستعمرنا الآخرُ/ صرنا المستعمَرينَ من أخطبوط (الجهل)».
- انصراف الشَّعب إلى النّسيان بدلًا من الثّورة والمطالبة بالحقوق: «في وطنٍ متوتّر الظّروف/ حيثُ الإنسانُ امتلك مهارة النّسيان/ يمشي في الشّارع المحطَّم/ فكلّ يومٍ يسقط عشرات المرّات/ ولا يصرخُ ليُطالبَ بالنّور المسروق». 

باب المغامرة
ولأنَّ الحياة في الوطن «لا تشبه الحياة إلّا في اسمها»، وفق ما يقول جواد، فإنَّ باب المغامرة على السّفر والغربة يبقى مشرّعًا من غير إيصاد: «لأنَّ بيوتي كثيرةٌ خارج ذاك الوطن/ سافرْتُ على الرّغم من حبّي.../ والمسافر غالبًا لا يعودُ». يفرد الكاتب المغترب حيّزًا واسعًا من صفحات كتابه للتَّعبير عن ألم البعد والنأي ولا سيّما حين تنتابه نوبات الحنين، وتستبدّ به ذكريات الطّفولة، فيناجي نفسه للاعتراف بتشظّيها وانشطارها بين عالمين: «فلتعترفْ أنَّكَ لا تشبه البلاد الّتي ولدَتْكَ بين أشجار/ التّين والزّيتونِ/ واعترفْ أنَّكَ المتشظّي بين لغتينِ وسفرينِ». وكلّما كثرت الخيبات في وطنه، وخذلته رهانات التَّغيير المأمولة، تمسَّك بالسّفر بديلًا وحيدًا عن الاغتراب الوجوديّ الّذي يُمكن أن يحياه في وطنه: «من رحلةٍ إلى رحلةٍ في سفرُ لا بديل لي/ لا بديلَ عنكَ/ فاخترْ لون الحياة الّذي تشاءُ/ وسمِّ الأرضَ بأيّ اسمٍ تشاءُ».
ولذلك يرى أن لا سبيل له إلى مداواة آلام الشّوق إلّا بعقد نوعٍ من المصالحة مع الغربة، ومحاولة النّبش في جسدها بحثًا عمّا يُضيء له درب جلجلته؛ إذ ينعم هناك في بلاد المنافي بما سلبه إيّاه بلدُهُ من نعمة الحرّيّة والإفصاح عن الحقيقة من دون وجلٍ، وهو ما يُهدّئ من روعه، ويُخفّف من صقيع تشرّده: «وأنا أحبّ الأغنيات الَّتي تغيّر صفات الصَّقيع/ في منافٍ طردَتْ أحلامَ الرّقص من جسدي/... فهي تقول الحقيقةَ دائمًا، وليست أغمدةً وخناجر/ على شكل أفواهٍ وألسنةٍ في حضرة الفكر الحرّ الجميل». 
وإزاء ثنائيّة الغربة والوطن، وإزاء إحساسه المزمن بالغربة، يتمسّك بالحبّ والأنثى ملاذًا وخلاصًا أخيرين لردم تشقّقات الرّوح في زمنٍ موحشٍ يُحاصره بالاختناق والسّقوط؛ إنّ الحبيبة هي البلاد والميلاد لعلَّها تنتشله من رداءة زمنه الرّاهن: «أحبّك وليت لي بلادًا/ كوني لي البلاد والميلاد»، «أنتِ الأمانُ الوحيدُ من ظلال السّلطانِ/ من البنادق، من الخنادق/ ومن وطنٍ مقفرٍ ضيَّع الميناءَ/ يُسافرُ ولا يُسافر». والغوص في نصوص الكتاب الَّتي يطغى فيها حضور الأنثى يُحيلنا إلى ملاحظة تلازم معجمين تلازمًا يكاد يكون ثابتًا؛ الأوَّل يختصّ بالمرأة والحبّ، والثّاني يرتبط بالطَّبيعة: «محيّاكِ زهرةُ اللّوتس الأنيقة/ وعلى أنفِكِ الصَّغيرِ القمرُ فضّيٌّ»، «وجهُكِ سماءُ أرضٍ تُبدّل زينتها/ وفي كلّ أحوالها تبقى رائعةً»، «الأشجار اكتسَتْ رشاقةَ الإحساس منكِ...». ولذلك يمكن القول: إنَّه على الرّغم من بعض الإشارات النَّصّيَّة في كلمات جواد الّتي تجعلنا نتلمَّس ملامح جسدٍ أنثويٍّ، فإنَّ صورة المرأة الحسّيّة تبقى مبهمة الملامح ومشوَّشة التَّفاصيل؛ إذ لا تُقدّم غير صورٍ حسّيَّةٍ مُعمَّمةٍ تلامس جسد كلّ النّساء، ولا تُفلح في تعيين امرأةٍ مُحدَّدةٍ من لحمٍ ودمٍ أو ذات هُويَّةٍ مفردةٍ معيَّنةٍ؛ لأنّ المرأة في نصوصه هي كلّ النّساء في امرأةٍ واحدةٍ، تُستلهَم من الحلم والخيال أكثر من التَّجربة الحسّيّة الذَّاتيَّة الَّتي خبرها في الواقع الحقيقيّ. كما أنَّه يحتفي بالأنوثة ضمن نسقٍ سيميائيٍّ رمزيٍّ مشبعٍ بمُناخاتٍ أسطوريَّةٍ عميقةٍ غائرةٍ، وذلك بالاتّكاء على مضامين دلاليَّةٍ تستلهم بنية بعض أساطير الخصب القديمة الَّتي تحتفي بالحبّ عرسًا كونيًّا، وبالمرأة طقس خصوبةٍ ومهرجانًا تكوينيًّا لتأنيث الطَّبيعة: «ويستوقفني نبضُكِ/ حين يختصر الأرصفةَ البعيدةَ/ ويُؤنّث وجهَ القمر القديم»، «وتحبّ تأمّل تلك المرأة تسحب الأرضَ بكعبها العالي/ تؤنّث كلّ شيءٍ من حيث لا تدري». إذ نقرأ، في أساطير الخصب القديمة، ذلك التَّلازم الجدليّ بين المرأة والطَّبيعة وبين الشَّبق وتجدُّد دورة الفصولِ الطَّبيعيَّة في كلّ سنةٍ؛ وإذَّاك تتشابك شيفرات فضاء المرأة والجسد والحبّ بشيفرات الطَّبيعة والأرض، وهو ما يتجلّى في عددٍ من الشّواهد: «أراقبك من بعيدٍ تسرق خطواتك جاذبيّة الأرض»، «يُخيّل لي إذا ما نظرْتُ إليكِ أنَّك نافذةٌ تطلّ على/ المعجزات»، «امرأة تنثر خطاها مروجًا توقظ الأرض».
ولذلك يلفتنا، في نصوصه، احتفاؤه بامرأة الحلم والحبّ الرّوحيّ الورديّ المتسامي الَّذي يلاقي، في بعض وجوهه، الشّعر العذريّ العفيف الَّذي خلَّد، في الموروث الشّعريّ، ثنائيَّاتٍ من العاشقين على مرّ الأزمنة؛ فحبّه طاهرٌ بريءٌ من شوائب الإسفاف والابتذال الجسديّ، وهو ما احتفظ به من تربيته المشرقيّة المحافظة، ويشير إلى ذلك بقوله: «علّمه مخاضُ الأمّ أن يُقدّس الأنثى/ لا شيء في خافقه إلّا البراءةُ والحبُّ».

المرأة والحب  
وفي العموم، يكتب جواد عن المرأة والحبّ بلغةٍ تُمدّه بها الحواسّ، ولا سيّما العين، ولذلك جاءت لغته تصويريَّة حسّيّةً من غير الوقوع في فخّ الوصف التّقريريّ أو التّصوير الجسديّ المتهافت المعاني؛ لأنَّها لغةٌ مليئةٌ بالحمولات النَّفسيَّة والوجدانيَّة الّتي تنزاح عن التّصوير الموضوعيّ، ولكنَّها لا تنحرف عن القيم الخلقيّة المحافظة. ومن ثمَّ نجد أنَّ الأنا تطغى في نصوصه، ويتمدَّد صوتها الطّافح بالحبّ والوفاء والحنين حتّى يكاد يكون وحيدًا، بينما يغيب توظيف تقنيّات القناع الَّذي ينفتح على الأبعاد الدّراميَّة وتعدّديّة الأصوات. 
ويمكننا تسجيل ملاحظة أخيرة مفادها أنَّ سؤال الـ«إلى من» أو الـ«إلامَ» هو الطّاغي في لوحات جواد المتّصلة بتشكيل هويّته الذّاتيَّة، وذلك لأنَّ ثمّة شرخًا أو صدعًا في الذّات بسبب الغياب والاغتراب، يُحاول رتقه بالحنين والكتابة؛ فيكتب تحت أثر مفعول الشّوق والحنين والفقد أكثر من مفعول أثر القلق الوجوديّ وتحوّلات الذّات وتقلّباتها المعرفيَّة، فهو يكتب بإملاء جرح الغياب والمسافات بعيدًا من الوطن ومراتع الطّفولة والشّوق إلى الحبيبة والأهل. وتاليًا يكاد سؤال الهويّة الذّاتيّة يتراجع، فليس ثمّة صراع مزمن داخل الذّات ولا رغبة في هدم صورة الذّات داخل وعيها الباطنيّ، بل ثمّة حنين ووجع، ورغبة في الالتئام. فما يفتقده جواد يتحيَّز خارج ذاته، وليس داخلها. ولئن كانت الحداثة تبدأ من السّؤال والشّكّ في نهائيّة الجواب، وكانت حركتها الجوهريَّة تتأسَّس على الصّراع والتّجاوز، فإنَّها مفتوحة على الهدم، وتخطّي مركزيّات العالم القديم؛ إنّها ثورة التّساؤل، ثورة الابن على معطيات الأب اليقينيّة بالمعنى الرّمزيّ الواسع للكلمة. ولذلك حرص شعراء حركة الحداثة على توظيف رمزيَّة قتل الأب بوصفه دالًّا سيمائيًّا على تجاوز سلطة الماضي. ولكنَّ جوادًا في تشكيل هويّته الذاتيَّة لم يتعمَّدا الانزياح عن الخطّ المحافظ في ثقافته ونظرته إلى الإيمان بالغيب والمرأة والجسد، فظلّ مخلصًا لتعاليم عائلته وتربيته الَّتي أنشأته على العفَّة والبراءة والحبّ.  
ولكن، في مقابل التزامه نهجًا محافظًا بشكلٍ عامٍ، فإنَّ تمرَّده بدا قويًّا على كلّ ما يُكبّل وطنه، وما يخنق مصير أمّته الّتي يُسمّي أبناءها «أهل الحضارة النّائمة». لذا، نجده لا يتردّد في تسجيل اعتراضه على حكّام بلاده، وفي الثّورة على واقع أمّته الّتي خدَّرتها أمجاد السّلف؛ وعليه كان السّفر خياره للفرار من يباب أمّته ووطنه: «ليس غيرك في يباب هذه الأمّة النّائمة فوق أمجاد السّلف».
عمومًا، يمكننا القول: بينما يطغى القلق، في لوحات علي جواد، على مصير وطنه وأمّته، وبينما يتضخم لديه سؤال الـ«ما هو» بدلالاته السّياسيّة والوطنيّة والحضاريَّة باحثًا عن هويّة بلاده، يغلب الحنين في تشكيل هويّته الذّاتيّة؛ وبينما ترتجّ نهائيّة صورة العالم: الوطن، الأمّة، الموروث، في وعيه الباطنيّ، تبدو صورة ذاته في عين ذاته أقلّ ارتجاجًا، وأكثر ثباتًا واستقرارًا. ولذلك ظلَّ الكاتب مخلصًا لنفسه، صادقًا في كلماته، يُشبه ذاته في بيانه ودلالاته وأساليبه، لا يكتب إلّا لذاته الَّتي يراها عاريةً مستوحشةً من غير وطنٍ يحضنه أو عائلة تُحيطه بحنانها أو حبيبة تداوي لسعات الدّهر في صميم فؤاده.
ختامًا، نقول: إنَّ تجربة علي جواد الأولى تجربة لافتة وواعدة، وتستحقّ الإضاءة عليها لما تختزنه من رؤًى إنسانيَّةٍ ووطنيَّةٍ، ولغةٍ تحلّق تارةً بجناح الرَّمز والمجاز، وتارةً بجناح التزام الموقف الأدبيّ بصراحةٍ بارزةٍ وواضحةٍ ■