قاصٌّ صامت للتاريخ.. متحف الفن الإسلامي بالقاهرة

بين الماضي والحاضر والمستقبل، يقف في وقار وثبات وصمت، فهو ينقل الماضي بجذوره إلى الحاضر. والحاضر يتأمل من خلال عين وعقل متوثبين إلى المستقبل. في ميدان باب الخلق، بمدينة القاهرة، يقف (متحف الفن الإسلامي). فمتى نشأ؟ وما مكوناته؟.

عند نهاية القرن التاسع عشر، بدت مدينة القاهرة، ومعظم المدن المصرية، وقراها، والقبور الملحقة بها، وعمائرها من مساجد ودور وتكايا ومدارس وأسبلة وأسواق ووكالات وخانات، المسكون منها والمهجور، والآيل للسقوط والمتهدم، وكلها تشترك في صفة واحدة وهي أنها (تراث إسلامي لم يتم حصره). فتراث الفترات التي سبقت الإسلام في مصر قد تم التعرف على معظمه وحصره وتسجيله.

ومع تكاثر القطع الفنية المتخلفة من هذه العمائر، أصبحت هناك ضرورة للتحفظ على هذا التراث الذي يمثل عدة عصور إسلامية مختلفة. وصار أمراً ملحا أن يتم جمع كل هذا التراث في مكان واحد، والتحفظ عليه وحصره.

وبدأت الحكومة المصرية أولى محاولاتها في عام (1297 ه)، (1880 م)، إذ تم جمع كل القطع الفنية من المباني الإسلامية القديمة والمهجورة والآيلة للسقوط وغيرها من المصادر المختلفة.

وتكونت لها مجموعة فنية إسلامية متعددة المصادر، مختلفة العصور، متنوعة المجالات والميادين الفنية، وتمّ التحفظ عليها في الإيوان الشرقي لجامع الحاكم بأمر الله الفاطمي.

ومع نمو عدد التحف بدئ في تنظيمها وتصنيفها وعرضها في متحف صغير، أقيم لها ، على وجه الخصوص، في صحن هذا الجامع العريق الذي يلاصق سور القاهرة، في المسافة الواقعة بين باب النصر وباب الفتوح، وهما من أشهر أبواب مدينة القاهرة المعزية.

والقطع الفنية التي تم جمعها وقتئذ تمثل العصور الإسلامية المتعاقبة على مصر، وعواصمها الإسلامية الأربع التي كانت القاهرة آخرها، فقد سبقتها عواصم إسلامية ثلاث هي الفسطاط، والعسكر ثم القطائع. ومتحف الفن الإسلامي يعد معهدا علميا يدرس من خلاله تاريخ الدول التي تعاقبت على حكم مصر، فيما نقرؤه من نصوص مكتوبة أو منقوشة على مقتنياته التي جُلِبَ مُعظمها من هذه العواصم الأربع، كل حسب دورها في تاريخ مصر الإسلامية.

دار الآثار العربية

استمر المتحف مقاما في صحن جامع الحاكم. وفي عام (1313 ه)، (1895 م). أصدر (هرتس بك) دليلا للمتحف، وقد ضمنه تعليقا فنيا وتاريخيا لمقتنيات المتحف.

أما المبنى الحالي للمتحف الذي يقع في ميدان (باب الخلق) بمدينة القاهرة، على ناصية شارعي بورسعيد والقلعة، ويمكن التعرف عليه من خلال عمارته الإسلامية المميزة، فقد استوعب كل التحف التي سبق جمعها، إضافة إلى ما تم جمعه بعد ذلك.

وقد نقلت إليه التحف يوم 9 شوال عام (1321 ه)، (28 ديسمبر 1903 م)، إلا أن الانطلاقة الحقيقية للمتحف في مبناه الحالي، كانت مع بداية عام 1904 إذ أصبح يشكل واحدا من أكبر التجمعات الفنية الإسلامية في العالم أجمع، بما يحتويه من مجموعات فنية نادرة، وقد أطلق عليه وقتئذ اسم (دار الآثار العربية).

ويقع هذا المبنى في ميدان (باب الخلق) في موقع، يعد (نظريا) خارج سور القاهرة القديم - أزيل من هذه المنطقة - بأمتار قليلة. وكان اسم المنطقة في الأصل (باب الخرق)، وهو الاسم الذي كان يطلقه العرب على كل فضاء تخرقه الريح، ثم تحولت الراء في لام في القرن التاسع عشر، فصار الاسم (باب الخلق)، بسبب أن كلمة الخرق نفسها مستهجنة عند العرب، ووقعها ثقيل على الأذن واللسان.

لماذا الفن الإسلامي؟

في عام 1952 تغير الاسم فأصبح (متحف الفن الإسلامي)، وقد تم اختيار هذا الاسم لأنه يدل على حقيقة معروضاته من التحف الفنية الإسلامية، إذ إنها في مجموعها عبارة عن مصنوعات الأقطار العربية والإسلامية، وتؤلف في الوقت نفسه ثبتا مجيدا للفن في عالم الإسلام. ويؤرخ لحضارة عظيمة امتد تأثيرها من حدود الصين شرقا إلى شواطئ المحيط الأطلسي في الغرب، ومن جبال البرانس شمالا إلى بحر العرب في الجنوب. وهي رقعة واسعة، تضم شعوبا مختلفة، تدين غالبيتها بالإسلام، وكان ذلك أحد أهم أسباب تسميته (الفن الإسلامي). وكما يقول الدكتور عبد الرحيم إبراهيم في كتابه (تاريخ الفن في العصور الإسلامية ج 1): (إن كل المسميات ليست جامعة، وإنما أصح المسميات جميعا هو تسمية ذلك بالفن الإسلامي، وذلك لأن الإسلام هو حلقة الوصل التي ربطت بين بلدان العالم الإسلامي، وهو الذي جمع شتاتها وجعلها وحدة واحدة، على الرغم من تباين بيئاتها، واختلاف أصولها).

ويضم المتحف واحدة من أنفس مجموعات التحف الإسلامية وأكبرها، وكل مقتنياته ومجموعاته تعطي للرائي مذاقا ذا نكهة خاصة، يتناسب مع تنوع المدارس الفنية التي تمثلها. كما أن الرائي سيلاحظ تطور هذه الفنون في البلاد الإسلامية المختلفة التي تشترك في فلسفة فنية واحدة، إذ إنها تشترك جميعها في كونها تعبرّ عن فن أرستقراطي غير شخصي (الصانع مجهول في الغالب)، وهو فن يخشى الفراغ ويفزع منه، كما أنه ليس فن المنحوتات أو التماثيل، علاوة على أنه ابتكاري أصيل.

مجموعات نادرة

والقطع الفنية التي تعرض في المتحف اقتنيت عن طريق عدة مصادر، منها ما هو بالشراء أو بالإهداء أو ما هو نتيجة حفريات مختلفة أجريت في عدة مناطق أثرية، ومنها أيضا ما تم الحصول عليه من العمائر المتبقية أو المتهدمة. وهذه المجموعات نمت نموا هائلا وسريعا، ومن بينها مجموعات الأحجار ذات الكتابات بنقوش غائرة أو بارزة، وكذلك مجموعات النسيج والأخشاب ونوافذ القلل والخزف والمشكاوات. وتعد المجموعات الفنية - كما يقول دليل المتحف - من أغنى المجموعات الفنية، ومنها مجموعة الخزف الإيراني والتركي، ومجموعة التحف المعدنية - بعد شراء مجموعة رالف هراري (عام 1945م) - ، ومجموعة السجاجيد بعد اقتناء جانب كبير من مجموعة الدكتور علي إبراهيم عام 1949.

وعدد التحف التي يقْتنيها المتحف في نمو دائم استمرار الحفريات الأثرية، فعدد التحف عام 1903 كان 7028 تحفة، وعددها الآن يتجاوز 82 ألف تحفة (تقريبا).

وقد روعي عند عرض التحف في العديد من القاعات أن تكون حسب الطرز الفنية: أموي - عباسي - فاطمي - أيوبي - تركي- إيراني، وحسب المادة بتدرج تاريخي: خشب - معادن - أسلحة - خزف - نسيج - حجر - رخام - فنون الكتاب - زجاج. وتم عرض مجموعة السجاجيد على الجدران، في أماكن مختلفة من المتحف.

ولقد أشرف المتحف على العديد من الحفريات الأثرية التي أجريت في مناطق مختلفة، وكان لنتائجها شأن كبير في مسار علوم الآثار الإسلامية، والتأريخ لفترات التاريخ الإسلامي المختلفة. وقد حققت بعض هذه الحفريات كشف جزء من مدينة الفسطاط - بعض الدور والشوارع والطرقات والمنتجات الفنية - وكانت المدينة قد تعرضت لحريق مدمر مدبر، أتى عليها بكاملها تقريبا في أواخر العصر الفاطمي.

ومن بين نتائج الحفريات التي قام بها المتحف كان اكتشاف إحدى الدور الأثرية التي بنيت في العصر الطولوني، والتي تضم بعض الزخارف الجصية النادرة، إلى جانب كشف حمام فاطمي، تحتوي جدرانه على بعض الرسوم والصور بالألوان المائية، ومازالت هي الوحيدة من نوعها في الفنون الإسلامية.

نشاطات أخرى

للمتحف نشاطات كثيرة وجهود متعددة في تطوير عرض مقتنياته وزيادتها من مختلف المصادر، وتصنيفها. وفي إصدار دراساته، ومتابعة أنشطة المتاحف الأخرى في العالم.

فللمتحف جهد علمي بارز، يتمثل في عدة إصدارات علمية حول الفنون الإسلامية، مثل الكتاب الأول (صدر عام 1953) عن مجموعة سجاجيد الصلاة التركية، والكتاب الثاني (صدر عام 1957) عن صنج السكة في فجر الإسلام، والثالث (1959) عن معدات التجميل بالمتحف، والرابع (1965) عن فجر السكة العربية. وغير ذلك من المؤلفات العلمية المتخصصة.

وتعد مكتبة المتحف واحدة من أعظم المكتبات المصرية وأوفاها في الفنون الإسلامية، وهي مكتبة خاصة، يستعين بها باحثوا المتحف في أبحاثهم وأعمالهم الفنية، كما أن للبحاثة من الخارج مكانا فيها للدراسة والاطلاع.

ويوجد بالمتحف قسم خاص، يضم مجموعة من المصاحف النادرة، وقاعة للروائع، تضم قطعا فريدة من الفن الإسلامي، وأقدم لوحة أثرية، وأكبر مصحف مكتوب بالخط الكوفي، وأبوابا مطعمة بالفضة.

بالإضافة إلى قاعة متخصصة لدراسة أنواع حرف المصريين، وأدوات صناعتها وما فيها من عناصر زخرفية، ومدى تطور هذه العناصر في الطرز المختلفة. ولذلك فقد عرض المتحف مجموعة كبيرة من الحرف، مرتبة حسب أنواعها أولا، ثم حسب عناصرها الزخرفية.

وبالمتحف قسم للتصوير جاهز باستمرار لإمداد البحاثة ورجال الإعلام بما يطلبونه من صور للمقتنيات الفنية بالمتحف، علاوة على أن هذا القسم يحتفظ بعدد هائل من الصور منذ زمن بعيد، تعرض لتطور التحف وحالتها قبل ترميمها، إن حدث لها ترميم، وبعده.

وفيه قسم مجهز لترميم التحف بالإضافة إلى المتخصصين في فحص التحف، لإثبات أصالتها من عدمها الذين وصل العديد منهم إلى مستوى راق من التقدم والخبرة. والمتحف يباهي بخبرائه في هذا المجال متاحف العالم.

وقاعة المبيعات لها دور كبير في إمداد الهواة والبحاثة ببعض المواد المتنوعة والصور والأفلام التسجيلية والسياحية الفنية لمقتنيات المتحف وشرائط الفيديو والمطبوعات المتخصصة.

ولقد تم توسيع المتحف بإلغاء طريق قصير مواز للضلع الشمالي لمبنى المتحف، وإضافته إلى مساحة مجاورة، كانت تشغلها محطة للمحروقات، وتم تحويل ذلك كله إلى حديقة أثرية، ترتفع فوق خضرتها عناصر معمارية إسلامية، مثل الأعمدة والعقود الأثرية، من حول نافورة إسلامية الطراز، يحيط بها دائر رخامي مزخرف بخطوط عريضة من الجرانيت الأحمر القاني.

وكذلك تم في الفترة الأخيرة تجديد المتحف بتبديل شبكته الكهربائية، وتبديل أرضياته بأرضية رخامية بيضاء من طراز الأرابيسكو. هذا بالإضافة إلى ضم جزء من دار الكتب المجاورة لإنشاء أكبر قاعة للنسيج، وإنشاء قاعة جديدة للعملات، وتغيير نظام مسار الزيارة المتحفية.

تم عزل المتحف ونوافذه وأبوابه بالكامل عن الخارج لحماية المعروضات من التلوث والضوضاء، وهي عناصر قد تشكل خطورة على الآثار، وتحرم الزوار من التركيز على استجلاء مواطن الجمال والإبداع فيها.

إن هذا التراث الرائع القابع في ذلك الحيز يحتاج إلى نظرة جديدة وأسلوب جديد. لقد كان المتحف بشكله الحالي فيما مضى أسطورة المتاحف، ولكنه بوضعه لا يتماشى مع التقنيات المعاصرة. ولسنا نقلل من قيمة المعروض في المتحف، أو من جهد الرجال الذين يشرفون عليه، ولكن احترام الإبداع الفني الإسلامي الذي تجسده مقتنياته تفرض ضرورة تطوير هذا المتحف الفني العظيم، حتى يستمر في أداء مهمته بالفخامة والبهاء اللذين ميزاه منذ بداية نشأته، وليس من السهل علينا تحديد وسيلة معينة لذلك، لأن القائمين على إدارته يملكون القدرة على إنجاز هذه المهمة. ولكن القضية الأساس الآن: من يستطيع تدبير المال اللازم لذلك؟