الخوف من الذكاء الاصطناعي

الخوف من الذكاء الاصطناعي

شغل الإنسانُ نفسه منذ القدم باختراعاتٍ واكتشافاتٍ تُريحه في حياته، وتعمل مكانه، وتحلُّ محلَّه، وتبدِّلُ خوفَه أمنًا، فينعم هو بالهدوء والراحة والسكينة والاستقرار، ظنًّا منه أنه بذلك يجلب لنفسه أسباب السعادة الأبدية، حتى وصل إلى الدرجة التي يخشى على نفسه من هذه الاختراعات والاكتشافات، فبات في وسواسٍ منها، وشكٍّ فيها، وبدأ يفكر في المثل القائل «الذي يحضِّر العفريت يستطيع أن يصرفه»، ولكن هل ينطبق هذا المثل على ما توصل إليه العقلُ البشريُّ إزاء ما يسمى بالعقلِ الإلكترونيِّ أو الذكاءِ الاصطناعيّ؟

إننا عندما نتأمل هذا الظاهرة المسماة بالذكاء الاصطناعي سنجد أنه ليس هناك جديد سوى المخترعات المُذهلة التي تظهر لنا بشكل متلاحق وآخرها التطبيقات التي تُرسم نيابةً عن الفنان أو تُكتب بدلًا من المؤلف الذي يعطيها مجموعةً من أفكاره. إذًا ما هو الجديد؟ 
الجديد هو تنامي الخوف من مستقبل البشر مع العقل الإلكتروني الذي يفكر بطريقة أسرع والنزعة المتزايدة لأن يكتسب شخصية مستقلة. فهل سيستطيع الإنسان صرف هذا العفريت العلمي ذي الشخصية المستقلة، بعد أن تمكَّن في الأرض، وتسلطن على التفكير البشري؟ وأصبح هذا العقل الإلكتروني هو الذي يخاف من أن يَقضي الإنسانُ عليه، فبدأ يفكر في طرق أخرى كي يضمن بقاءه وتناميه.
البشر يخشون من مستقبل عرفوه من الأفلام السينمائية التي رسمت شكل المستقبل للآلة التي ستهيمن فيه، وأشهرها «تيرمينيتر» التي وجدت أن البشر خطر عليها. وفي فيلم «المصفوفة أو ذا ماتريكس» استعملت الآلاتُ الذكية البشرَ كبطاريات بعد أن حاولوا قتلها بحجب أشعة الشمس عن الكرة الأرضية. وفي هذا الفيلم أيضًا طرحت فكرة إمكانية نسخ الذكريات والمهارات باستخدام الحاسوب. وربما لن نحتاج - مستقبلًا - إلى وجود مؤرخين وكتابة روايات تاريخية لأن التاريخ نفسه سيكون موجودًا أو حاضرًا بيننا بكل تفاصيله الإنسانية والدرامية.
هذا المستقبل المُخيف بات الشعور فيه يتزايد مع بروز أخبار مرعبة مثل الشاب البلجيكي الذي انتحر، حيث أقدم بلجيكي على الانتحار بعد قضائه شهرًا ونصف الشهر في التحاور مع برنامج دردشة الذكاء الاصطناعي (إليزا) في حادثة قد تُعد فريدة من نوعها. ونقلت صحيفة ليبرا البلجيكية وقائع الحادث على لسان زوجته، مانحةً للرجل اسمًا مستعارًا هو (بيير)، والذي كان يعيش حياةً هادئةً برفقة زوجته كلير وطفليه، إلى أن استبدَّ به القلق وانشغل فكره تمامًا بقضايا البيئة والمناخ قبل عامين، لتصبح همَّه الأول.
ووفق الصحيفة، اعتقد بيير أن الحديث مع تطبيق ذكاء اصطناعي قد يعينه على إيجاد إجاباتٍ شافية لأسئلته، حيث فقد الأمل في قدرة الإنسان على حلِّ مشاكل البيئة والمناخ، وعوّل على الذكاء الصناعي لحلها.
وتقول الزوجة إن بيير لجأ إلى برنامج «إليزا» وشاركه جميع هواجسه وتساؤلاته المؤرقة، وقضى وقتًا طويلًا في الحديث معه. وأوضحت كلير أن «إليزا» أجابت عن جميع أسئلة زوجها، وأصبحت كاتمةَ أسراره، وأنها كانت مثل المخدرات التي اعتاد عليها في الصباح والمساء، ولا يستطيع العيش دونها.
وإذا استمر تطور الذكاء الاصطناعي على هذا النحو فإن الكثير من الوظائف البشرية ستختفي، علمًا بأن التطور التكنولوجي - وبمعزل عن ذلك الذكاء - ابتلع سلفًا الكثير من الوظائف والأجهزة والمهام، مثل الهواتف التي تحوَّلت لآلة تصوير لكل شيء ومرجع لأحوال الطقس ومنبه استيقاظ ومترجم فوري... إلخ.
وقبل أن نمضي قدمًا لا بد من تحديد المقصود بالذكاء الاصطناعي! 


مهام مُعقدة
لقد أصبح الذكاء الاصطناعي مصطلحًا شاملًا للتطبيقات التي تؤدي مهامَّ مُعقدة كانت تتطلب في الماضي إدخالات بشرية، مثل التواصل مع العملاء عبر الإنترنت أو ممارسة لعبة الشطرنج. ويُستخدم هذا المصطلح غالبًا بالتبادل مع مجالاته الفرعية، والتي تشمل التعلم الآلي (ML) والتعلم العميق. ومع ذلك، هناك اختلافات... على سبيل المثال، يُركز التعلم الآلي على إنشاء أنظمة تتعلم أو تحسّن من أدائها استنادًا إلى البيانات التي تستهلكها. ومن المهم أن نلاحظ أنه على الرغم من أن كل سُبل التعلم الآلي ما هي إلّا ذكاء اصطناعي، فإنه ليس كل ذكاء اصطناعي يُعد تعلمًا آليًا.
ويستخدم المطورون - أو المستقبليون - الذكاء الاصطناعي لأداء المهام التي يتم تنفيذها يدويًا بكفاءة أكبر، والتواصل مع العملاء، وتحديد الأنماط، وحل المشكلات. وللبدء في استخدام الذكاء الاصطناعي، يجب أن يكون للمطورين خلفية في الرياضيات ويشعرون بالراحة مع الخوارزميات.
والمبدأ الرئيسي للذكاء الاصطناعي هو أن يحاكي ويتخطى الطريقة التي يستوعب ويتفاعل بها البشر مع العالم من حولنا، الأمر الذي أصبح سريعًا الركيزة الأساسية لتحقيق الابتكار، ‏‫بعد أن أصبح الذكاء الاصطناعي مزودًا بأشكال عدة من التعلم الآلي التي تتعرف على أنماط البيانات بما يُمكّن من عمل التنبؤات، ويمكن للذكاء الاصطناعي إضافة قيمة إلى أعمالك من خلال توفير فهم أكثر شمولية لفيض البيانات المتوفرة.‬
إن الذكاء الاصطناعي الجاهز للاستخدام يمكن أن يكون أي شيء بدءًا من قواعد البيانات الذاتية، التي يتم إصلاحها ذاتيًا باستخدام التعلم الآلي، ووصولاً إلى النماذج مسبقة الإنشاء التي يمكن تطبيقها على مجموعة متنوعة من مجموعات البيانات لحل التحديات، مثل التعرف على الصور وتحليل النصوص. 
وقد اعترف طلاب جامعيون بكتابة مقالات بمساعدة برنامج الذكاء الاصطناعي ChatGPT. وقال طلاب من جامعة كارديف إنهم حصلوا على تقييمات عالية للمقالات المكتوبة باستخدام برنامج الدردشة الآلي المدعوم بالذكاء الاصطناعي. ويعتبر برنامج ChatGPT أحد برامج الذكاء الاصطناعي، وهو قادر على إنتاج ردود شبيهة بالردود البشرية وإنتاج أعمال أكاديمية.
ولكن هل سنستطيع عن طريق الذكاء الاصطناعي الوصول إلى برامج نقدية تنقد النصوص الأدبية بموضوعية علمية، تقول لنا إن هذه القصيدة عظيمة بسبب إنسانيتها أو تقنياتها أو لغتها، وإن هذه الرواية عظيمة بسبب أجوائها وشخوصها وأحداثها... إلخ ؟
إنه نقد أدبي يقوم على استثمار الإمكانات المعرفية الهائلة، وأنهار المعلومات والوثائق الأدبية والسياسية والاجتماعية... إلخ، التي تتيحها على نطاق واسع أجهزة الحاسبات الشخصية، وبخاصة إذا كان الناقد البشري المعاصر مشتركًا في شبكة عالمية مثل شبكة الإنترنت التي توفر له جميع المراجع الأدبية والنقدية والوثائق والنصوص التي يحتاج إليها، بمجرد ضربة على أحد أزرار لوحة المفاتيح.

أعظم القوى
من خلال هذا الاستعراض ندرك أن العقل البشري لا يزال أحد أعظم القوى في العالم، وأكثرها غموضًا، فهل سيأتي اليوم الذي يتنازل فيه هذا العقل البشري إلى عقل آخر، أو يتنازل فيه الذكاء البشري إلى ذكاء آخر هو مَن صَنَعه، وأسماه «الذكاء الاصطناعي»؟
في عام 2011 فعل حاسوب من شركة IBM يدعى «واطسن» ما ظن العديد من النقاد أنه مستحيل: هزم منافسين في برنامج مسابقات تلفزيوني يُدعى «الخطر». تسمَّر ملايين المشاهدين أمام الشاشة بينما قضى «واطسن» منهجيًا على منافسيه، مُجيبًا عن أسئلة أعجزت المنافسين، واستحق الحصول على جائزة قدرها مليون دولار.
ولعل هذه الحادثة كانت بدايةً، فقد ذلَّلت شركة IBM العقبات كلها لتركيب آلة بها كمية هائلة من القدرة الحاسوبية يستطيع «واطسن» - عن طريقها - معالجة بيانات بمعدلات مذهلة تصل إلى 500 غيغابايت في الثانية (أو ما يعادل مليون كتاب في الثانية)، وكان لديه أيضًا إمكانية الوصول إلى 200 مليون صفحة من المادة في ذاكرته، وتحليل هذا الكم الهائل من المعلومات بصورة حية على التلفاز. إنه يذكرنا بالحجر زمرد في رواية «الحجر العاشق» لأحمد فضل شبلول، حيث أصبح الحجر الكريم «زمرد» على درجة عالية من الوعي، فاقت درجة وعي صاحبته عالمة الفيزياء الدكتورة منال عثمان التي تحمل فص الزمرد في خاتمها، وتمد الحجر الكريم بالكثير من الوعي والطاقة الحيوية التي تعادل القدرة الحاسوبية عند «واطسن». 
لقد امتلك «زمرد» شبكة دماغية تفوق شبكة الإنسان نفسه، تستوعب كل ما في شبكة الإنترنت من تفاصيل ودقائق، واستطاع العلماء أن يقوموا بعمل عدة نسخ من دماغه ويحمِّلوها على عقل قرد وعقل إنسان آلي (إنسالي) وعقل مريض عقلي، وعقل إنسان سوي.

قانون مور
إننا يجب التفكير في كيفية التعامل مع وعي الإنسان الآلي أو الروبوت الذي سيقرر مستقبل الجنس البشري، على الرغم من أنه من صُنْع هذا الجنس البشري.
وقد يكون من الصعب التنبؤ بمصير الذكاء الاصطناعي على ضوء التجارب الماضية لأنه مرَّ بمراحل ازدهار وانحسار منذ بداية الخمسينيات في القرن الماضي. غير أننا عندما نقيس – زمنيًا - تطور الذكاء الطبيعي للإنسان منذ أن خلقه الله سبحانه وتعالى، وحتى الآن، وما وصل إليه الذكاء الاصطناعي في غضون عقود قليلة من السنوات، خاصة في ظل تطبيق قانون مور الذي يقول إن قدرة الحاسوب تتضاعف مرة كل عامين. والشاهد – كما يقول العلماء – إن هاتفك الخلوي اليوم يمتلك قدرة حاسوبية أكبر من قدرة مؤسسة ناسا كلها عندما وضعت رجلين على سطح القمر عام 1969. إن حاسبات اليوم تمتلك من القوة بما يكفي لتسجيل الإشارات الكهربائية التي تصدر من الدماغ، وفك شفرتها جزئيا إلى لغة رقمية شائعة، وهو ما قد يمكِّن الدماغ أن يتصل مباشرة بحاسبات للتحكم في أي جسم حوله.
ولعلنا نتساءل عن دور العواطف والأحاسيس والمشاعر في هذا الخضم العلمي؟ يبدو - من الوهلة الأولى - أنه لن يكون لها مكان، فكلما زادت الأتمتة قلت المشاعر وخفتت العواطف وانعدمت الأحاسيس، لذا يأتي خوف الإنسان مع تزايد الاعتماد على العقل الإلكتروني، أو الذكاء الاصطناعي ■