الترجمة والثقافة من الذات إلى الآخر

الترجمة والثقافة من الذات إلى الآخر

تعد مسألة الاختلاف الثقافي أو الحضاري التي تعترض المترجم عقبة من العقبات التي تواجهه في عمله الترجمي، بمعنى اختلاف دلالات الأشياء في العالم العربي مقارنة بالعالم الغربي بكل لغاته وثقافاته. فالمترجم في حاجة إلى التقريب بين المعاني الخاصة بالكلمات، وغالبًا ما ينجح في ذلك وكثيرًا ما يفشل أيضًا. ففي مواجهة المجردات مثلًا تواجهه مشكلة «العادة» أو «الاتفاق»؛ وهذا الأمر يمثل أول مشكلة لديه، إذ يستقر في ذهن أغلب المترجمين المبتدئين ذلك التقابل بين كلمات بعينها، بحيث لا يمكن الفصل بينها في ارتباطها الأبديّ؛ وهو بعد ذلك (أي المترجم) لن يجهد ذاته في محاولة إيجاد بدائل للكلمات العربية التي درج عليها ترجمة لهذه المدرجات، بل سيقنع بها، وربما أضفى عليها «الكلمة الإنجليزية» المعنى الذي توحي به الكلمة العربية وقصرها عليه بالكثير من الاقتصاد في الجهد «محمد عناني، فن الترجمة، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، القاهرة، ط. 5، 2000، ص 11-12».

 

وتبقى عقبة الاختلاف الثقافي أو الحضاري فيما يختص بالمجردات اللغوية والثقافية والمفاهيمية، كما يرى محمد عناني، هي «أن الكلمات التي نستخدمها لتدلَّ على مفاهيم عامة وأساسية في أنماط تفكيرنا مستمدة من تاريخ مُحدَّد يرتبط بتطور فكري محدد. فالمجردات العربية وراءها فلاسفة العرب، وكتابهم وشعراؤهم الذين يمتد تاريخهم إلى أكثر من خمسة عشر قرنًا، وهم الذين أرسوا المفاهيم التي مازلنا ندرج عليها، ولا نستطيع أن نكسر طوقها؛ لأنها جزء من تكويننا الثقافي، وهي راسخة في وجداننا لا في عقولنا فحسب. وإزاء هذه المفاهيم توجد مفاهيم أخرى في العالم الحديث ليس لها مقابل لدينا، وحدسها في كلمات محددة منذ الصغر يضرُّ بها وبنا» (محمد عناني، فن الترجمة، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، القاهرة، ط. 5، 2000، ص. 12).
فالمشكلة الخاصة التي تواجه المترجم هي كيفية اختيار المعنى الذي يمكن أن يكون أقرب إلى المعانيفي الكلمة الواردة في السياق اللغوي والنصي والخطابي الواردة فيه؛ وفي هذا الإطار يرى محمد عناني أيضًا أن هذه المشكلة تتمثل في تقديم نص خاص، حيث يتطلب من المترجم أن يقرر في بداية عمله الترجمي إذا كان ينبغي عليه «أن ينقل المعنى المجرد فحسب أيًّا كانت الألفاظ المستخدمة أم أن عليه إيجاد حالة ثقافية بين النص المترجَم والقارئ تشبه الحالة الثقافية القائمة في النص الأصلي؟ ولغة القرآن لغة فريدة، ومن ينشأ عليها مثلما نشأتْ يجد في نفسه معانيَ كثيرة لكل كلمة، بعضها ظاهر وبعضها خفي، كما يجد أن دلالات ألفاظ الكتاب الكريم كثيرًا ما تختلط بالمشاعر التي تدق بين جوانحه منذ الطفولة، ولا بديل لها بالإنجليزية ولا بالعربية، وإيجاد الحالة الثقافية يتطلب تحديدًا لنوع القارئ» (محمد عناني، فن الترجمة، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، القاهرة، ط. 5، 2000، ص. 18). فبعض المجردات التي يمكن الحديث عنها لا تزال قائمة في التراث الديني الذي يكمن خلف تفكير الكل رغم اختلاف درجة ثقافتهم ومستوى تفكيرهم بقدر ما يؤمنون به من أفكار وأيديولوجيات وقيم تقليدية محددة.
إن الحديث عن المجردات الحديثة والجديدة في اللغة العربية يرتبط ارتباطًا بينًا بمجردات حديثة في أغلب لغات العالم، بحيث إنها لا تتمتع بنفس العمق التاريخي الذي يمنحها الثراء في المعنى، وذلك ما يجعل من التقابل بينها يسيرًا وممكنًا. وغالبًا ما حاول المترجمون اللجوء إلى استحداث كلمات لها من خلال عمليات النحت أو التوليد أو التعريب فأضفوا على المقابلات العربية المعنى الأجنبي المحدد، فثبتَ ذلك المعنى ولم يعرف أي اختلاف أو خلاف حوله، ووصل إلى مستوى الانتشار في الثقافة العربية التي تقبلته ولم ترفضه، نظرًا لقدرتها على احتضان المصطلح الأجنبي ومعناه ودلالته.
إن النهوض بأي حضارة ثقافية وعلمية يمرُّ عبر الترجمة؛ وليس من السهل النهوض بأي حضارة دون الاعتماد عليها وتقديرها وإعطائها الأهمية اللائقة بها؛ فهي تمكِّن كل أهل العلم والمعرفة من بناء الحضارة لأنها محفز ودافع لذلك البناء الخاص، وكل هذا نابع من الوقائع التاريخية وليس مجرد كلام عام وفارغ. فالترجمة ساعدت مثلًا في النهوض الحضاري عند العرب والمسلمين وخاصة في أواخر الدولة الأموية وخلال الفترة العباسية والأندلسية. وحينما تمكنت أوربا من تجاوز عصرها البربري والمتخلف اعتمدت على ما ترجمه العرب من علوم وآداب وفنون من أجل النهوض بحضارة جديدة قوية ساهمت في جعل الحضارة الأوربية تعمر لقرون عدة.

جسر للتواصل
وتعدُّ الترجمة جسرًا للتواصل بين اللغات المختلفة والثقافات المتنوعة والحضارات المتمايزة، بل إنها من الوسائل التي تعتمدها كل المجتمعات للتعريف بنمط عيشها وآدابها وتقاليدها وعاداتها وفنونها... ومن هنا فقد أصبحت الترجمة من أهم الوسائل المستخدمة قديمًا وحديثًا في خلق التلاقح الثقافي والحضاري بين الأمم والشعوب من حيث الأخذ والعطاء والتبادل، الاقتباس والإبداع، الاستيعاب والإنتاج... لكل تلك المظاهر الفكرية والثقافية والعلمية التي تعكس بلا شك تصورات مختلفة ورؤى للعالم متباينة عند المتكلمين بها والممارسين لها. وبذلك أصبح التفاعل بين الثقافات والحضارات المتنوعة يعتمد على عملية الترجمة باعتبارها ضرورة إنسانية فرضتها شروط الاختلاف والتعدد القائمة بين الأمم المختلفة. وعليه فإن وجود الترجمة واستمراريتها في الزمن مقرونة بهذا التعدد على مستوى اللغات والثقافات والحضارات. فهي لا تهدف فقط، إلى مطابقة الأصل ومحاكاته وتماثله، وإنما تكريس ثقافة الاختلاف لكي تصبح استراتيجية لتوليد الفوارق المختلفة... فهي في منظور عبدالسلام بنعبدالعالي تكون علامة على انفتاح وغليان وتلاقح ثقافي وإنساني وحياة حية ومتجددة (المصطفى عمراني، «الترجمة بين المثاقفة والعولمة»، عن موقع مجلة ديوان العرب، بتاريخ: 26 نوفمبر 2006).
ويخلص الباحث المصطفى عمراني في مقاله «الترجمة بين المثاقفة والعولمة» إلى أن الترجمة، ضمن هذا المنظور، صارت رديفة المثاقفة Acculturation، لأن كلتيهما بحثت وسعت نحو ارتياد آفاق مغايرة لأشكال الثقافة المختلفة وأسئلة الوجود المتعددة... في ظل التعايش الحضاري والتنوع الثقافي. كما تختزلان (الترجمة والمثاقفة) واقع تعايش الحضارات المختلفة في لحظة من لحظات الإبداع التي يتمخض عنها تجدد الحضارات ونماؤها. في هذا السياق يمكن اعتبار الترجمة مثاقفة كما حددها الباحث الاجتماعي الفرنسي ميشال دوكستر باعتبارها «مجموع التفاعلات التي تحدث نتيجة شكل من أشكال الاتصال بين الثقافات المختلفة كالتأثير والتأثر والاستيراد والحوار والرفض والتمثل وغير ذلك مما يؤدي إلى ظهور عناصر جديدة في طريقة التفكير وأسلوب معالجة القضايا وتحليل الإشكاليات، مما يعني أن التركيبة الثقافية والمفاهيمية لا يمكن أن تبقى أو تعود بحال من الأحوال إلى ما كانت عليه قبل هذه العملية» (المصطفى عمراني، «الترجمة بين المثاقفة والعولمة»، عن موقع مجلة ديوان العرب، بتاريخ: 26 نوفمبر 2006).
إن الحديث عن الاختلاف الثقافي بين الشعوب وكونها غير متطابقة ثقافيًّا وحضاريًّا، لا يمكن له أن يكون هذا الاختلاف والتمايز امتيازًا بحيث يتمُّ إلغاء وجود علاقات إنسانية مشتركة فيما بينها سواء من حيث المشترك القيمي أم من حيث المشترك الإنساني المرتبط أساسًا بأنماط التفكير المشتركة وأشكال التعبير المحددة للعلاقات القائمة بينها. فالترجمة كانت ومازالت عملية تدشين لسلسلة من الحوارات الحضارية عبر آلية المثاقفة، ورغم أن دورها اليوم قد بدأ يتقلص تدريجيًّا مع تقلص نفوذ وحضور لغات وثقافات متعددة في المشهد العالمي بفعل موجة العولمة التي تصادر حقوق التعايش والتواصل الإنساني وحق الاختلاف والتنوع والتعدد، فإنها (الترجمة) ما فتئت تخلف ثقافة المثاقفة من جديد لخلق التعددية، ضدًّا على العولمة التي تريد تقليص هذه التعددية لصالح الثقافة الأحادية والواحدية؛ وبذلك فإن الوقت كفيل بإظهار حقيقة دور الترجمة في تكريس التنوع الثقافي والتفاعل الحضاري (المصطفى عمراني، «الترجمة بين المثاقفة والعولمة»، عن موقع مجلة ديوان العرب، بتاريخ: 26 نوفمبر 2006).

المستوى الحضاري للترجمة
تتجلى حقيقة الترجمة في مستواها الحضاري الإيجابي في كيفية مساهمتها في تحديث اللغة العربية وإدخالها في التفاعل الحضاري الحديث وفي الحوار مع الآخر والتفاعل معه في إطار من الندية الإيجابية والمنافسة الشريفة. ولا يمكن أن نصل إلى هذا المستوى إلا بتوفير الوسائل التي تتيح تفاعلًا وتواصلًا ثقافيًّا بين الذات العربية وبين الآخر حتى في حالة الحرب والصراع العسكري والثقافي والاجتماعي. فهذا التواصل، بل إن هذا التفاعل يساهم بقوة في «كسر حدة الثنائيات النمطية وجمودها الأيديولوجي، ويساعد في كشف لحظة من لحظات فعل الذات العربية أو ردة فعلها، إذ فوجئت، بل صُدمت، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بضرورة إثبات مقوماتها الوجودية والثقافية» (علي نجيب إبراهيم، أثر الترجمة في تطور اللغة العربية، مجلة تبين، المجلد 2، العدد 6، الدوحة، قطر، خريف 2013، ص 26).
توفر الترجمة في تفاعلها وتطورها نحو المتميز من الإبداع الترجمي، الأرضيةَ الصلبة للانطلاق والإقلاع الحضاري، من خلال تأسيس الأرضية المعرفية وتحديد المتاح من المعارف الثقافية والعلمية، التي لا يمكن الوصول من خلالها إلى مستويات الجهل والاستهتار المعرفي. إن الأمم لا تبدأ من فراغ، بل تنطلق في بناء حضارتها وقيمها الثقافية وأشكال تعبيراتها بدءًا من الاستفادة من المترجمات التي ليست شيئًا آخر غير تجارب السابقين ومعارفهم وخبراتهم المحفوظة في المؤلفات المختلفة والترجمات المتعاقبة في الزمن والتي حافظت عليها الإنسانية بواسطة الترجمة وإعادة القراءة والتحليل. فقد ترجم اليونانيون كنوز العلم والفلك والفن والرياضيات والأدب عن حضارات قديمة جاورتهم كالحضارة الفارسية والمصرية القديمة، كما انتعشت الثقافة العربية الإسلامية بفضل الدماء الجديدة التي سُكبت في شرايينها من خلال ترجمة التراث الهندي والفارسي واليوناني القديم، كما انتفضت أوربا في القرن الخامس عشر مباشرة بعد ترجمة التراث الأندلسي الوافد من الغرب الإسلامي وكنوز المعرفة الوافدة من بيزنطة الآفلة، والترجمة هي الطريق نفسها التي مرّت منها اليابان، والتي بعثت أواخر القرن التاسع عشر ببعثات طلابية إلى أوربا واكبتها حركة ترجمة لنفائس الإنتاجات الفكرية والعلمية الأوربية التي مازلنا نستفيد منها في أبحاثنا وكتاباتنا المتعددة.
فدور الترجمة هو المساهمة في تحديد وإبداع الوسائل والأفكار التي تساهم في مناهضة ومواجهة التفوق الغربي دون البحث عن إفنائه أو تحييده ثقافيًّا وفكريًّا. فهذا الدور الكبير للترجمة لا يهدف إلى تدمير الغرب اقتصاديًّا واجتماعيًّا وعسكريًّا وحتى سياسيًّا، وإنما إلى مواجهة ثقافة التغريب، من أجل إيجاد منطقة آمنة للثقافة العربية في العالم، ومن أجل المشاركة والتعاون والتواصل الإنساني، وليس تكريس الأحادية الثقافية والقوة العسكرية والسياسية. وهذا لا يعني أننا ندعو إلى مواجهة هذا التغريب بخلق نوع من الوعي القومي القائم على العنصرية والتمييز والحقد تجاه الآخر، بقدر ما ندعو إلى خلق ثقافة تحترم الآخر وتتعلم منه ما يفيدها وما يساعدها على تجاوز الصعوبات وأنماط التخلف والرجعية على جميع المستويات.

الهوية والخصوصية الثقافية
إن الدفاع عن التقارب بين ثقافات الشعوب وحضاراتها، لا يعني مطلقًا أنها دعوة إلى تكريس «العولمة» التي تهدف إلى تحويل كل الثقافات الإنسانية إلى ثقافة واحدة، ثقافة الحضارة الغربية المهيمنة؛ بل إنها دعوة حقيقية تتأسس على الحفاظ على الهوية والخصوصية الثقافية التي تجد نفسها أمام «مضاد حيوي ثقافي» يهدف إلى تنمية روح الحوار بين الثقافات الإنسانية وتقوية الوعي بالانتماء لكوكب واحد وترقية الفكر والخطاب والسلوك الإنساني إلى مستوى الوعي بغنى الثقافات الإنسانية الكامن في اختلافاتها وتنوِّعها. فإذا كانت العولمة علامة مسجلة في الهيمنة اللا-محدودة على مقدرات الأرض المادية والرمزية تحت ضغط جشع الشركات الرأسمالية العملاقة، فإن المثاقفة تبقى علامة فارقة في الدفاع عن ضرورة التنمية وضرورة احترام الاختلافات بين الشعوب والأمم المتعايشة في العالم.
ومن هنا، نرى أن الآخر هو تلك الكينونة المختلفة المغايرة لكينونة الأنا المرتبطة بالهوية، وذلك في تمثلها في مكون أو أكثر من المكونات التي تنتج عنها الهويات الإنسانية وتتكامل، ومن بينها اللغة، والدين، والعرف، والوضعية الاجتماعية، والوضعية الجنسية، والأيديولوجيا، والوضعية الثقافية والحضارية. فتفاعل الذات مع الآخر من النواحي الثقافية والاقتصادية والمعرفية، ضرورة أساسية وحتمية لا يمكن تجاهلها، لأن ملامح هوية الأنا/ الذات، لا تظهر تجلياتها إلا من خلال الالتقاء والاحتكاك المستمر مع الآخر الذي يمنحها أبعادًا مركبة ومهمة، ويمنحها الموضوعية والرحابة في الرؤية والتفكير والانفتاح على العالم كله (محمد الشحات، «تمثلات الأنا والآخر في القصة العمانية المعاصرة»، مجلة نزوى، العدد 77، سلطنة عمان، يناير 2014، ص 84). لأن العالم لا يضم فقط الآخر أو حتى الذات، وإنما تتفاعل فيه كل المكونات البشرية وتتواصل رغمًا عنها تحت عناوين مختلفة مرتبطة أساسًا بالسياسة والاقتصاد والأمن، وبالتالي يصعب الحديث عن قطيعة بينهما أو صراع أبدي قد يقضي على الأخضر واليابس.
كانت الترجمة ومازالت جسرًا للتواصل بين الشعوب والحضارات على مرّ التاريخ، تعزّز التلاقي والتلاقح الثقافيين، وترعى التقارب الثقافي بين الشعوب، وتدحض الصراع البشري العشوائي، وتدعم الحوار والتبادل الثقافيين بين أمم الأرض، وتسهِّل التواصل بين الأمم المختلفة في العالم، وتفتح النوافذ على الثقافات الأخرى للشعوب المتنوعة، ما دامت معرفة الآخر تقود تدريجيًّا إلى معرفة الذات من طريق المقارنة والتواصل، كما كانت تغني اللغات وتجعلها حيّة على الدوام، وتوفّر الأرضية للبحث والإبداع ليقف عليها أهل البحث العلمي والإبداع قبل الشروع في أبحاثهم أو بناء نظرياتهم أو نشر أفكارهم وإنتاجاتهم الفكرية والعلمية والأدبية ■