الكتابة للذّكرى والنّسيان والموقف «فاجعة الزّلزال في القصيدة العربيّة»

الكتابة للذّكرى والنّسيان والموقف «فاجعة الزّلزال في القصيدة العربيّة»

يواجه الإنسان على هذه الأرض التَّهديد المستمرّ بمفاجآت الطَّبيعة بشكلٍ دائمٍ، فيسعى إلى الفرار من محنة السّقوط في شباك الاستسلام للهلاك عبر محاولته تطويقَ الأسباب الَّتي تُضاعف من نتائج الكارثة والفاجعة. وإذا كانت الزّلازل المدمّرة من أقسى أنواع الفاجعة الَّتي تحمل للإنسان التَّهديد الفادح بالموت والخراب، فإنّها تسلبه عنصرَي الاستقرار والدّفء الذّاتيّين على مستوى العائلة والبيت والممتلكات، وتجعل النّاجين مشروعًا مرهونًا لألم الصّدمة وشريط الذكريات. تُزلزَل الأرضُ، تتهاوى المباني، تخمد أنفاسٌ مستغيثةٌ تحت الرّدم، تُشَقّ عتمةُ الجدران عن ناجين، تُنتشَل جثثٌ... ولكن يبقى السّؤال وحدَهُ النّاجيَ الأكبرَ الّذي يتعاظم فوق أرضٍ متحرّكةٍ رجراجةٍ: هل علل الطَّبيعة وحدها تتحكَّم بإيقاع الأرض وزلزلتها بمعزلٍ عن القصديّات الغيبيَّة الإيمانيَّة والأخلاقيّة أو أنَّ تلك الزّلزلة آية غيبيَّة يُبتلى بها الإنسان عسى أن يعود إلى رشاده؟

 

ثمّة الكثير من الأسئلة والمعاني والمشاعر الَّتي حملتها القصيدة العربيّة المتمحورة حول مركزيَّة فاجعة الزّلزال قديمًا وحديثًا: أسئلة كشفيّة معرفيّة تتّصل بالوجود والموت والمعنى، ومعانٍ حملت بعدًا معرفيًّا توثيقيًا، إلى جانب التَّعبير عن معاني التَّفجّع والأسى. وهنا يطرح سؤال لماذا نكتب: أَلِنَنْسى أم لنحتفل بموتنا ونمجّد ضعفنا منقادين إلى كشف حقيقتنا؟ أم لِنُثْبِتَ البعد الإنسانيّ في دواخلنا؟ أم لنتغلّب على الصّمت وموت الفجأة والخراب؟ ربَّما نكتب لكلّ ذلك.
لقد أعاد الزّلزال المدمّر الأخير في سورية وتركيا نبش دواوين الشّعراء، والبحث في مضامينها عمّا يتَّصل بمحنته المأساويّة. وفي هذا المجال، نتطرّق إلى ثلاثة عناوين على النّحو الآتي:

-1 شعريَّة تصوير هويان المباني المشيدة:
في هذا السّياق، نجد ابن دانيال الموصليّ، في العصر المملوكيّ، يجهد في تظهير صورة الزّلزال الّذي أصاب مصر سنة 702هـ، فيشبّهه بزلزلة يوم القيامة وإخراج الأرض أثقالها لتقريب تلك الصّورة المهولة الّتي عايشها من باغتتهم الأرضُ باضطراباتها في لحظة تخلّيها عن استقرارها وأمانها، لتسقط المباني المشيدة، وتروّع الأنفس ذعرًا من هول الكارثة:
يا قَـــوْمُ أَرْضُكُــمُ الكَريمَـةُ هَـذِهِ 
قَدْ زُلْزِلَتْ عِنْدَ الضُّحى زِلْزالَها
وَلَقَدْ خَرَجْنا هارِبينَ مَعَ الرَّدى 
أَوْ قيـــلَ عَنّا أَخْــرَجَتْ أَثْقالَهـا
أَهْـــوى لَهـــا بُنْيـــانُ كُــلِّ مُشَيَّدٍ 
وَارْتاعَ ذُعْرًا مَــنْ رَأى أَهْوالَهـا

ويُطالعنا، في العصر نفسه، الشّاعرُ ابن الورديّ في تصويره آثارَ زلزالٍ ضرب بلاد الشّام في منتصف شعبان سنة 744هـ، فيقول:
طـــــارَتْ لِقَلْـــــعِ القِــــلاعِ زَلْزَلَــةٌ 
مـــا خَشِيَـــتْ راميًا وَلا صائِــدْ
إِذا دَرى الحُصْنُ مَنْ رَماهُ بِها 
خَــرَّ لَهُ فــــي أَساسِهِ ساجِــدْ
إِنْ هَـــرَبوا أُدْرِكــــوا وَإِنْ وَقَفـــوا 
خَشوا ذَهابَ الطَّريفِ وَالتّالِدْ

فهو يُصوّر هول الكارثة، وشدّة عصف الزّلزال الّذي أطاح بالبروج والقلاع الحصينة، فخرَّت على أساسها محطَّمة مدمَّرة مصحوبةً بذهول النّاس المذعورين المرتبكين الحائرين لا يلوون على فكرةٍ تُنجيهم: فإلى أين يفرّون؟ 
وهذا شاعر آخر لا تذكر المصادر اسمه يبرع في تجسيد أهوال زلزلةٍ سبقت تفجّر بركانٍ مخيفٍ في المدينة المنوّرة سنة 654هـ، زلزلةٍ لشدّتها لم تقوَ الأبنية المنيعة إلّا على الخشوع لها. إنّها زلزلة عظيمة مصحوبةٌ بحمم البركان صدّعت اليابسة وأهوت بروجها إلى الأرض، حتّى تبدّلت المعالم وتهدّمت الأطواد الشّاهقة تلتهمها النّيران، فيقول:
زَلازِلٌ تَخْشَعُ الصُّمُّ الصّلابُ لَها 
وَكَيْفَ يَقْوى عَلى الزِّلْزالِ شَمّاءُ
وَقَـــدْ أَحـــاطَ لَظـــاها بِالبُروجِ إِلى 
أَنْ كــادَ يُلْحِقُهـا بِالأَرْضِ إِهْـواءُ
 
-2  المشهديّة الرّثائيَّة في الاقتراب من ضحايا الزّلازل:
لئن كانت الزّلازل الّتي وقعت قديمًا قد نتلقّاها بفتورٍ شعوريّ، أو نعبرها كما نعبر أيّ حادثٍ تاريخيّ، فإنّ الصّور الَّتي بثّتها وسائل الإعلام حول الزّلزال الأخير كانت صادمة ومذهلة، تستثير الوجدان الإنسانيّ، وتصدع الضّمائر، وتُفطّر القلوب، وخاصَّةً حين تلقي الضّوء على الشّقّ الإنسانيّ الّذي خلّفته تلك المأساة من مشاهد الضّحايا أطفالًا ونساء وشيوخًا تحت الرّدم، أو منتشلين يتمسّكون بالحياة، أو مشرّدين عابرين على خطى الوجع والقلق الممضّين. ولكن بالعودة قليلًا إلى ديوان ابن الورديّ نتبيّن اهتمامه بالشّقّ الإنسانيّ في زلزالٍ ضرب مدينة منبج السّوريّة سنة 744هـ، إذ يركّز على تظهير صورة الضّحايا فيشبّه وجوههم النّيّرة تحت الثّرى بالسّيوف اللّامعة في أغمادها بعد أن نُبشت الأنقاض عنهم: 
هَلَكــــــوا هُـــمُ وَدِيــــارُهُمْ في لَحْظَـةٍ 
فَكَأَنَّهُـــمْ كانــوا عَلى ميعـادِ
نبشوا وَأَوْجُهُهُمْ تُضيْءُ مِنَ الثَّرى 
مِثْلَ السُّيوفِ مِنَ الأَغْمادِ
كما يصوّر تشرّد النّاس ممّن خسروا بيوتهم منبوذين في العراء، خائفين مقهورين لا يُظلّلهم غير الفضاء، ولا يرويهم غير قطر السّماء: 
 إِنّــــا نُبِـــــذْنا بِالعَــرا 
لِخَوْفِ زِلْزالٍ طَمــا
لا ما عَلَيْنا مِنَ الصَّـ 
حْرا سِوى قَـطْرِ السَّمــا 

أمّا القصائد المعاصرة الَّتي تفاعل أصحابها بأسًى مع ما أصاب المنكوبين في سورية وتركيا من محنة الزّلزال والخسارات الفادحة في السّادس من فبراير الماضي، فقد أولت الاهتمام بالجانب الإنسانيّ كثيرًا، وتحديدًا بمشاهد الأطفال والشّيوخ العالقين تحت الأبنية المتهاوية. وهنا نشير إلى أنَّها جميعًا قصائد مأخوذة من مدوّنات الفيسبوك لأصحابها الَّذين كتبوها على مسافة زمنيَّة قصيرة جدًّا من فجيعة الزّلزال. 
فهذا الشّاعر الأردنيّ من أصل فلسطينيّ صلاح لاوي يأخذه مشهد ولادة طفلين من رحم الموت، فيصوّر تلك الولادة على الرّغم من قضاء أمّيهما نحبَهما تحت الأنقاض، كما يُعبّر عن موقف إدانةٍ تجاه العالم المادّيّ المتوحّش الّذي تمادى في سقوطه في اختبار الإنسانيَّة والطّفولة البريئة سقوطًا سافرًا، والَّذي غفل عن القيم الخلقيَّة والفطريَّة الَّتي أودعها الله في بني البشر:
«طِفْلانِ يَبْتَسِمانِ تَحْتَ الرَّدْمِ/ هَذا العالَمُ المَجْنونُ/ يَسْقُطُ في اخْتِبارِ بَراءَةِ الأَطْفالِ/ يَسْقُطُ/ إِذْ يَظُنُّ اللهَ غابَ إِلى الأَبَدْ».
ويتابع موقفه المتألّم، فيرى أنَّ ولادة هذين الطّفلين تُشكّل فضحًا لميزان العدالة الإنسانيَّة المكسور، وسهمًا أصاب عين الحضارة والتّقدم الزّائغة الّتي لا ترى جميع أطفال العالم إلّا بمنظورٍ متقلّبٍ متبدّلٍ حسب مصلحة شعوب المركز الحضاريّ؛ ففيما كان الموت ينتشر، تفتَّحت وردة هذين الطّفلين في كفن الغياب:
«طِفْلانِ يَنْبَثِقانِ مِنْ رَمْلِ الرُّكامِ/ كَوَرْدَتَيْنِ/ وَيُطْلِقانِ فَراشَتَيْنِ لِعامِلِ الإِنْقاذِ/ كَيْ يَأْتي المَدَدْ/ طِفْلانِ أَمْ سَهْمانِ/ في عَيْنِ الحَضارَةِ وَالتَّحَضُّرِ وَالزَّمَنْ/ طِفْلانِ مِنْ رَحمِ الفَجيعَةِ يُولَدانِ عَلى كَفَنْ».
وهذا الشّاعر السّوريّ مردوك الشاميّ يُطلّ على جغرافيا النَّكبة بفعل الزّلزلة من مكان إقامته في لبنان مشاركًا أبناءَ وطنه تحمّل الخسارات، والإحساس بخذلان الأرض لأبنائها الغافين في أحضان رعايتها وأمانها، فيُناجي الموت الغدّار معاتبًا إيّاه، على لسان الأم السّوريّة المفجوعة، لدفنه المنكوبينَ أحياء وأمواتًا، أطفالًا وشيوخًا ونساءً، تحت ثقل الرّكام تلسعهم سياط الجليد والبرد:
«أَيُّها المَوْتُ انْتَظِرْ/ هَذا صَغيري/ شَقَّ رَغْمَ العَتْمِ وَالبَرْدِ الرُّكاما/ كَيْفَ لَمْ تَسْأَلْ عَنِ الفُقْدانِ/ أُمًّا/ أَرْضَعَتْكَ الخَيْرَ، لَمْ تَبْلغْ فِطاما!/ كَيْفَ تَحْتَ الرَّدْمِ/ قَدْ وارَيْتَ شَيْخًا/ طُفْلَةً تَحْبو، رَضيعاتٍ، غُلاما؟!».
أمّا الشّاعر الأردنيّ الآخر عبدالكريم أبو الشّيح، فكأنَّه يكتب ليتخفَّف من عظم هول المأساة الَّتي حلّت بالسّوريّين ولينسى بعض صورها الّتي تُزاحم يوميّاته بتفاصيلها؛ إذ يتَّخذ رجلًا معمّرًا كدَّ جسمه التَّعب رمزًا يعبر به إلى معاينة الجرح السّوريّ النّازف بفعل الحرب منذ أكثر من عشر سنوات، ثمّ بفعل فاجعة الزّلزال الّتي أتت لتهدّم البيوت تهديمًا؛ فقد دارت الأرض بجنونٍ لافظةً أثقالَها ردمًا فوق أجساد السّوريّين، حتّى لم يبقَ لهذا المعمّر غير حجرٍ يُلقي عليه أتعابه وجسمه المتداعي ألمًا:
«كَما لَوْ أَنَّهُ حُلمُ/ يَقولُ مُعَمَّرٌ لِظِلالِهِ في شارِعٍ مَهْجورْ/ كَأَنَّ الأَرْضَ ما زالَتْ تَدورْ/ وَتُخْرِجُ فَوْقَنا أَثْقالَها رَدْمًا/ وَخَلْفَ الرَّدْمِ تَنّورٌ يَفورْ؟/ كَأَنَّ الأَرْضَ؟؟... إِنَّ الأَرْضَ مُذْ كانَتْ تَدورْ/ يَقولُ بِسِرِّهِ ظِلٌّ/ وَيُلْقي جِسْمَهُ المَكْدودَ مِنْ سَفَرٍ/ عَلى حَجَرٍ».
ولئن كان الشّاعر الجاهليّ تميم بن مقبل تمنّى قديمًا لو كان حجرًا لعلَّه يستعير منه بعض صلابته وقوّته وسط بيئةٍ تُحاصره بالأفول والعدم، فإنَّ «أبو الشّيح» هنا يستعير تلك الأمنية على لسان هذا المعمّر السّوريّ المنهك للتَّعبير عن رغبته في التَّحجّر وفقدان الإحساس بسيولة النّدم أو وهم الآتي أو غربة السّفر:
«يُتَمْتِمُ: لَيْتَني حَجَرٌ/ فَلا أَوْهامَ تُغْريني/ وَلا نَدَمٌ يُساوِرُني/ وَلا سَفَرُ».
كما يستحضر أيضًا شخصيّاتٍ سوريّةً أخرى إلى فضاء قصيدته، فيتركها تُشهر إفلاس رصيدها من القدرة على احتمال الوجع والتَّعب من كلّ شيء، حتّى من الرّهان على الآمال والأحلام الَّتي لا بدّ في سبيلها من دفع ضرائب ألمٍ إضافيَّة:
«وَيَهْمِسُ آخَرٌ في أًذْنِ صاحِبِهِ/ مَتى النُّذُرُ/ وَيُعْلِنُ ثالِثٌ: إِنّا تَعِبْنا/ تَعِبْنا مِنْ أَسامينا/ تَعِبْنا مِنْ أَمانينا/ تَعِبْنا مِنْ.../ وَنَنْتَظِرُ». 
أمّا الشّاعرة اللّبنانيَّة خديجة قاووق، فتكتب من مسافة ليست ببعيدةٍ من جغرافيا الزّلزال الأخير، فتُفرد قصيدتها على مساحة الوجع السّوريّ راصدةً حالَ المشرّدين بالعراء، الممسكين بأوجاعهم رغبةً في نومٍ أخيرٍ، يجمّعون آلامهم وسائدَ لا ليغفوا بل ليُحاولوا إيقاف نزف الخسارات، فكأنَّهم ينامون ولا ينامون. كما ترصد لهفة الأمّهات على رغيفٍ يكون بديًلًا من قلبها تُطعمه أطفالها، فتقول متحسّرةً:
هُنا مَـــنْ يُفْرِدُ الأَوْجــاعَ لَيْلًا 
يُجَمِّعُهـا... وَيَجْعَلُهـــا وَسائِـــــدْ
وَأُمُّ لا رَغيـــــفٌ فــــي يَدَيْــــها 
تُـــوَزِّعُ قَلْبَهـــا فَـــــوْقَ المَوائِـــدْ
أَيا ضَحكاتِها السَّمْراءَ غَنّي 
لَعَلَّ الأَرْضَ تَحْنو في الشَّدائِدْ
وفي مقابل سطوة النّشيد الرّثائيّ الطّويل، تنحاز الشّاعرة اللّبنانيّة باسلة زعيتر إلى التَّمسّك بخيط الأمل الرّفيع تنتشله وسط غبار الدّمار لتنفض الحزن عن وجه الشّام المبلَّل بالدّمع والملطَّخ بالدّماء، وتُطلق رهان التَّحدّي وتعلن، على لسان الشّام/ الوطن، عن إرادة الحياة العصيَّة على النّسيان قائلةً:
فَبي رِجـــالٌ إِذا مــالَ الزَّمانُ بِهِمْ 
أَوْ أَوْمَـــــأَ المَــــوْتُ مِـــنْ أَشْلائِهِ قاموا
وَبي نِساءٌ يُراقِصْنَ الحَياة هَوًى 
كَيْ يَنْبُتَ الفَجْرُ في أَحْداقِ مَنْ ناموا
أَنا العَصِيَّةُ دَرْبَ الجُرْحِ أَعْبُرُهــا 
أَنـا العَتِيَّــةُ فــي عَلْيـائِها هامــوا

-3 هل موت بالزّلازل مجّانيّ أو غائيّ؟
بالعودة إلى نصوص الشّعراء قديمًا وحديثًا، تنجلي أمامنا حيرة السّؤال حول الموت المباغت الَّذي ينشب مخالبه في صدر الضّحايا فوق الأرض الرّجراجة بفعل الزّلزال، إذ حاول عددٌ من الشّعراء مقاربة بعض الأسئلة من قبيل: ما علّة حدوث الزّلزال؟ أهي إلهيَّة مباشرة عقابًا للبشر على ذنوبهم وخطيئاتهم أم طبيعيَّة تخضع لنظام العلّة والسّببيَّة؟ وهل الموت الّذي يخطف الضّحايا أطفالًا وشيوخًا من غير تفرقةٍ ذي مقاصد غيبيَّة إيمانيَّة أو أنَّه موت مبتور عن النّزعة الإرشاديَّة؟
يرى ابن الورديّ أنَّ العلَّة في حدوث فاجعة الزّلزال تعود إلى ذنوب بني البشر وانحرافهم عن خطّ الاستقامة والهداية؛ وتاليًا فالزّلزال يشكّل عقوبةً إلهيَّة لمن غرقوا في لجَّة المعاصي، غير أنَّ الموت لا يطوّق العاصين فحسب، بل يفترس حياة كثيرين ممّن لا يستحقّون العقوبة وخاصّةً الأطفال؛ ولذلك يحسب أنَّ في موت هؤلاء رحمةً لهم وإحسانًا إليهم ولو كانا مستترين عن أعيننا، فيقول:
نَعــــــوذُ بِالرَّحْمَــــنِ مِـــنْ مِثْلِهــــا 
زَلْـــزَلَــــــةٌ أَسْهَـــــرَتِ الأَعْيُنـــا
قَدْ واثَبَتْ بِالهجْمِ مَنْ لا عَصى 
وَعاقَبَـــتْ بِالرَّجْمِ مَنْ لا زَنى
حُكْـــمُ عَــــــــزيزٍ قـــــــادِرٍ قــــاهِــــرٍ 
في كُلِّ حالٍ لَمْ يَزَلْ مُحْسِنا
ويشدّد على هذا المعنى في قصيدة أخرى قائلًا:
وَلَيْسَ وَفـــاتُهُمْ بِالرَّدْمِ نَقْــصًا 
لِقَدْرِهُمُ فَفي الشُّهَداءِ صاروا
وَما في سَطْوَةِ الخَلّاقِ عَيْبٌ 
وَلا فـــي ذِلَّــــةِ المَخْلوقِ عـارُ 
إذ استعمل أسلوب النَّفي لينفي صفة الظّلم أو العيب عن الخالق الجبّار، ولينفي صفة النَّقص والعار عمّن قضوا تحت الرّكام من الضّحايا الأبرياء؛ إذ رفعهم موتُهم إلى مرتبة الشّهداء فنالوا أعلى أوسمة الرّحمة الرّبّانيّة، أمّا العاصون فقد استحقّوا العقاب. وبناءً على هذه المقاربة الدّينيَّة في فهم ظاهرة الزّلزال وتفسير حدوثها، يرفض ابن الورديّ مقاربة من يشتغلون في علم الفلك والنّجوم، ويُنكر تفسيرهم معلنًا كفره بنظريّاتهم، ومؤّكّدًا إيمانه بفعل الله، فيقول:
إِنّـي بِفِعْــــلِ اللهِ أَوَّلُ مُؤْمِــــنٍ 
وَبِمــــا قَضــــاهُ النَّجْـــمُ أَوَّلُ كافِــرِ
كَذَبَ الحَكيمُ فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ 
وَذَوو النُّجومِ فَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِ
وعلى المنوال نفسه، يُقارب أحد الشّعراء علّة حدوث الزّلزال الّذي ضرب المدينة المنوّرة، فيردّ السّبب إلى جرائم النّاس وموبقاتهم ومعاصيهم، ولكنَّه يناجي الله ليصفح عن خطاياهم ويرفع البلاء عنهم حتّى وإن كانوا له مستحقّين، لأنَّ احتمال بلائه فوق طاقاتهم، فيقول:
يا كاشِفَ الضُّرِّ صَفْحًا عَنْ جَرائِمِنا
 لَقَدْ أَحاطَتْ بِنا يا رَبُّ بَأْساءُ
نَشْكو إِلَيْكَ خُطـوبًا لا نُطيقُ لَها 
حِمْـلًا وَنَحْنُ بِهـا حَقًّا أَحِقّاءُ
ولا تغرب عن ذلك مقاربة الشّاعر اللّبنانيّ أيمن القادري في تفسير حدوث ظاهرة الزّلزال الأخير في سورية وتركيا، فيرى منشأ حدوثه عائدًا إلى القدر الإلهيّ الَّذي يخضع له الكون بكلّ ذرّاته، ويسجد مؤتمرًا لمشيته؛ وعليه، فما تهاوي ناطحات السّحاب والمباني الشّاهقة إلّا استجابة لأمرٍ غيبيّ عظيم، وهو ما يدعونا إلى طلب اللّطف من الله في تدبيره شؤون خلقه، واستنزال الصّبر على المنكوبين النّاجين، ورجاء الرّحمة والنّور للأموات والمفقودين، فيقول:
يُقَـــــدِّرُ اللهُ وَالأَقْـــــــلامُ قَـــــــدْ رُفِعَــتْ 
فَاسْأَلْـــــهُ فــي جَــوْفِ لَيْلٍ لُطْفَ تَدْبيرِ
الكَــــوْنُ يَسْجُــــدُ إِيْمــــــانًا بِقُـــــدْرَتِهِ 
وَالضّارِيــــــاتُ وَأَفْــــــــراخُ العَصـــــافيــــــرِ
وَناطِحــــاتُ السَّحـــابِ الشُّمُّ جاثِيَةٌ 
إِنْ قالَ رَبّي لَها: صيري سُدًى صيري
زِلْـــــزالُ مَـــــوْتٍ رَمــــى أَكْبـــادَ أُمَّتِنا
بِصاعِـــقــــاتٍ أَطَلَّــــــــــتْ دوْنَ تَحْــذيـــــرِ
يا رَبِّ أَفْرِغْ غُيوثَ الصَّبْرِ سابِغَةً 
وَارْحَــمْ... وَمُــنَّ عَلــى الأَمْــواتِ بِالنّورِ
أمّا مردوك الشّامي، فيفتح جرح الزّلزال السّوريّ الأخير على جرح الحرب النّازف، ويناجي الموت ليُسائله عن الرّبح الَّذي ينتظر تحقيقه من هلاك مَنْ تجرّعوا القهر في يوميّاتهم، ومن تحطيم وطنٍ محطَّمٍ أصلًا بفعل آلة الحرب منذ ما يزيد عن عشر سنوات؛ إذ جاوز هذا الموتُ حدودَ الاحتمال، وحان الوقت ليسترخي قليلًا لأنَّه عبثيّ قد محا فجر البلاد إلى أمدٍ طويلٍ:
«هُمْ حَصادُ القَهْرِ/ قَدْ عاشوا حُطامًا/ أَيُّ فَوْزٍ حينَ حَطَّمْتَ الحُطاما؟/ أَرْمَلاتُ الشّامِ/ لا تَبْكي الضَّحايا/ جَفَّ دَمْعُ العَيْنِ حينَ الحَقُّ ناما.../ أَيُّها المَوْتُ اسْتَرْخِ/ مُتْنا كَثيرًا/ بَعْدَنا لا فَجْر قَدْ يَمْحو الظَّلاما».
ختامًا، وتأسيسًا على ما تقدَّم، يمكننا القول إنَّ قصيدتنا العربيَّة تبقى الحارس الأقوى للمأساة، فكيف إذا كانت مأساةً كبرى ولدت من رحم زلزالٍ عظيمٍ؟ ويمكن القول أيضًا إنّ القصائد المرتبطة بنكبة الزّلازل لم تكن مدوّنات وجدانيَّة أو شريط ذكريات تأريخيَّة فحسب، ولكنَّها مدوّنات ثقافيَّة تستبطن نسقًا فكريًّا وموقفًا وجوديًّا من الحياة والموت، ومن الكوارث الطَّبيعيّة، وتكشف عن جزءٍ من بنية العقل العربيّ في تعاطيه مع الطَّبيعة تعاطيًا يتمايز من نظرة العقل العلميّ المحض الَّذي يراها أشبه بآلةٍ تُسيّرها منظومة عللٍ قائمةٌ بذاتها، كما تكشف أيضًا عن موقف الشّعراء المتأتّي من علم الكلام الإسلاميّ تجاه قضيَّة العدل الإلهيّ، وتحديدًا ما يتعلَّق بشمول العقوبة لغير المستحقّين لها من أطفالٍ وغيرهم ■