رحلة لابورد ولينان دو بلفون إلى سيناء في بدايات القرن 91

رحلة لابورد ولينان دو بلفون إلى سيناء في بدايات القرن 91

تزخر المكتبة الغربية بكنوز علمية وفنية ووثائقية لم يكن من السهل إماطة اللثام عنها في العقود الماضية، بسبب عدم إتاحة الإمكانيات التكنولوجية الحالية التي وفرتها ثورة الاتصالات والإنترنت. وكان لتلك الوسائل التكنولوجية العامل المباشر في الكشف عن وثائق ولوحات تتعلق بالشرق الأوسط في المكتبات الغربية الجامعية والخاصة، لم يتناولها الباحثون العرب في القرن الماضي. ومما أتاحته لي شبكة الإنترنت أثناء تنقيبي عن المواد الفنية والأدبية عن سيناء في القرن التاسع عشر أن عثرت على عمل فرنسي فريد في المكتبة الوطنية بباريس يندرج تحت فئة «أدب الرحلات والوصف المصور»، وهو كتاب «رحلة إلى العربية البتراء»، الذي يتناول رحلة قام بها المستشرق الفرنسي ليون دو لابورد، والمهندس الشهير لينان دو بلفون - الذي عمل في خدمة محمد علي باشا وساهم في بناء القناطر الخيرية - عام 1828 إلى شبه جزيرة سيناء ومدينة البتراء بالأردن.

 

ولد ليون دو لابورد في يونيو عام 1807 بباريس، من عائلة عملت لأجيال في السلك الدبلوماسي والحكومي الفرنسي منذ عهد لويس الخامس عشر، وكان والده الكونت ألكسندر دو لابورد محافظًا لمنطقة السين بفرنسا. في عام 1824 قام ألكسندر دو لابورد وابنه ليون بالسفر عبر أنحاء الشرق الأوسط من دمشق إلى القاهرة. وفي القاهرة تعرف ليون بالمهندس الفرنسي لينان دو بلفون (1798 – 1883م) - الذي كان كبير مهندسي الأشغال العمومية في مصر بين عامي 1831 و1869 -  حيث اتفقا على القيام برحلة استكشافية لجنوب سيناء ومنها إلى مدينة البتراء التي كان قد اكتشفها الرحالة السويسري بوركهارت، وذلك بنيَّة رسم لوحات لتلك المناطق وآثارها ومعالمها لتعريف القارئ الغربي بها. 
انطلق لابورد ولينان في رحلتهما من القاهرة يوم 23 فبراير عام 1828، مرتدييْن ملابس البدو، ووصلا السويس ومنها إلى مناطق وسط وجنوب سيناء، وحاولا أن يظلا في سيناء لمدة أطول مما كان مقررًا، إلا أن أدلّاءهما السيناويِّين قد أخبروهما بتفشي وباء الطاعون في وادي موسى، وأصرّا على أن يغادرا سيناء على الفور، فأكملا رحلتيهما من العقبة حتى وصلا إلى البتراء بالأردن يوم 12 مارس. قام لابورد ولينان بتسجيل ملاحظاتهما ويومياتهما في تلك الرحلة، ودعّما عملهما باللوحات التي وثّقا بها المعالم والآثار والمباني والجبال والمناظر الطبيعية البرية والبحرية لذلك القسم من الشرق الأوسط، وذلك بالإضافة إلى العديد من الخرائط والمقاطع الهندسية للمباني الأثرية، كما قاما بوصف الحياة السيناوية وطرق الحج في سيناء ودروب القوافل. كانت محصلة رسومهما 69 لوحة منقوشة على الخشب تصور الأراضي والآثار والقبائل والحياة النباتية والحيوانية في سيناء، بالإضافة إلى لوحة واحدة ملوّنة لحيوان الوبَر الذي يستوطن سيناء وصحراء مصر الشرقية. وقد قام لينان دو بلفون برسم 13 لوحة من تلك اللوحات. وكانت تلك اللوحات المرجع الرئيسي المتاح لشبه جزيرة سيناء والبتراء في العالم الغربي في تلك الآونة، حتى زارها الرسام والمستشرق الإنجليزي الشهير ديفيد روبرتس بعد ذلك بعشرة أعوام، ونشر لوحاته الرائعة الملونة عن تلك المناطق، بلندن عام 1849. وبذلك تعد رحلة لابورد ودو بلفون أول وأقيَم وأشهر الرحلات الأوربية الاستكشافية إلى سيناء والبتراء في أوائل القرن التاسع عشر.
بعد رجوعهما إلى القاهرة اتفق لابورد ولينان أن ينشرا عمليهما عن هذه الرحلة، كلًا على حدة، بحيث ينشر لابورد كتابه في باريس، وينشر لينان كتابه في لندن. وقام لابورد بنشر كتابه مسلسلًا في مجلة ليفريزون الفرنسية، في 12 عددًا، بدءًا من 23 يناير 1830 حتى 30 نوفمبر 1833. إلا أن لينان دو بلفون لم يستطع نشر كتابه في لندن لانشغاله بأداء المهام الهندسية التي طلبها منه محمد علي باشا، خاصة مشروعه لربط البحر الأبيض بالبحر الأحمر، فما كان منه إلا أن نشر الكتاب بالاشتراك مع لابورد، عام 1830.
ولا يزال يُطبع كتابهما «رحلة إلى البتراء» في فرنسا حتى ذلك اليوم. وتُباع النسخة الأصلية من كتابهما بحوالي 37 ألف دولار أمريكي. توفي لابورد عام 1869 بعد تقلّده منصب أمين قسم الآثار بمتحف اللوفر عام 1847، ومن بعده نال عضوية مجلس الشيوخ الفرنسي عام 1868. كما توفي لينان دو بلفون بالقاهرة عام 1883، ولا تزال العديد من رسومه وخرائطه وكتبه غير معروفة إلى اليوم، والتي حُفظ بعضها في المكتبة الوطنية الفرنسية بباريس. كما لا تزال الجهود سارية حتى الآن للبحث في المكتبات الخاصة حول العالم عن أطلسه الشهير عن البحر الأحمر وقبائله المنتشرة على طول ساحله الإفريقي، والذي رسمه في مصر، وطُبع طبعة محدودة جدًّا جعلت العثور عليه ضربًا من الخيال.
وها هي لوحاتهما وخرائطهما، تشهد على عزم المستكشفين الأوربيين، وتوضح ما كانت عليه سيناء الفطرية في ذلك العهد، وتبين معالم ومواقع أثرية دُرس بعضها وصار الآن أطلالًا، والآخر يكافح في سبيل بقائه على وضعه القديم، نسوقها لقارئ «العربي»، عسى أن نجد من بينهم مترجمًا قديرًا يخرجها من الفرنسية إلى نور العربية، لتضيء للباحثين والدارسين العرب نورًا مما جهلناه عن سيناء في ذلك الزمن ■