لماذا اخترت هذه القصص؟

لماذا اخترت هذه القصص؟

      ربما كانت القصة القصيرة هي الشكل الأحدث بين الأشكال الأدبية التي نعرفها، ليست بقدم الشعر أو الرواية أو حتى المسرح، لكنها مرتبطة أكثر بصعود الطبقة الوسطى وانتشار الصحف والمجلات التي اعتنت بنشرها، وبمرور الوقت أثبتت القصة القصيرة أنها يمكن أن تستوعب كل أغراض الكتابة، فليست لها قواعد مطلقة، وكل كاتب يمكن أن يشكلها وفق أغراضه، خاصة بعد أن شارك في كتابتها نخبة من الكتاب العظام، كل واحد منهم قدم نسخته المتميزة، قدم تشيكوف شخصياته الروسية الغريبة الأطوار، وقدم موبسان شهادته عن شوارع باريس، وصور يوسف إدريس الحياة في الريف المصري، وحددت ثرثرة همنجواي أسلوب القصة أن يكون دقيقًا ومحايدًا دون أي عواطف. ومنذ أن بدأت مجلة العربي في رعاية مشروع «قصص على الهواء» وقد وردت إليها المئات من القصص من كل أنحاء الوطن العربي، واهتمت بالقصة الأقصر، دون حواشي أو ثرثرة، ودأبت عرض هذه النصوص على العديد من الكتاب والنقاد العرب حتى يختاروا الأفضل منها، وأوضحت التجربة أننا أمام منجم غني وزاخر بالمواهب العربية، والقصص المختارة لهذا الشهر هي مجرد نماذج تم انتقاء ثلاثة منها حتى تحتضنها صفحات المجلة:

المرتبة الأولى: «المحطة الأخيرة» لإبراهيم ياسين/ لبنان:
تصور القصة بأسلوب مباشر وسلس لحظة إنسانية في مواجهة الشعور بالوحدة، جد عجوز يخرج على المعاش ثم تقوده ظروف العجز لأن يصبح نزيلًا في مأوى للعجائز، لا شيء ينقصه على المستوى المادي، ولكنه يتوق إلى أي رابط إنساني يوصله بالعالم الخارجي، يوصله بأبنائه الذين يبدو أنهم قد نسيوه، لا أحد يزوره منهم، ولكنه ذات يوم يلمح حفيدًا له قادمًا للزيارة، يتقافز من الفرحة ويحتضنه بكل ما يملك من شغف، ولكنه يتبين أنها مجرد زيارة قصيرة لا تخصه وحده، ولكنها في إطار رحلة مدرسية لبيت العجائز سريعًا ما تنتهي، وينصرف الحفيد تاركًا الجد في وحدته الشبيهة بالموت البطيء، قصة جميلة تصف لحظة مؤثرة كأنها اليقظة الأخيرة قبل الموت، الأسلوب جيد ومركز والإعداد لمفاجأة النهاية جيد، والمشاعر الإنسانية موصوفة بصدق، لذلك تستحق المرتبة الأولى.

المرتبة الثانية: «سعال» لعبدالرحمان زاهيد/ المغرب: 
قصة تعيد للذاكرة أجواء التوتر التي كانت موجودة إبان وباء «كورونا»، الشك الذي ينتاب الجميع عند ظهور أي عرض من المرض، نحن أمام أسرة تستعد لتناول الغداء، ولكن الأكبر يسعل، مجرد سعلة بسيطة فتنقلب الدنيا، يسرع الجميع بالابتعاد عنه في فزع ويتم إبلاغ السلطات الصحية حتى تعزله بعيدًا، ولكن نتيجة فحصه تكون سلبية ولم يكن هناك مبرر لحالة الهلع التي عمت المكان. الوصف في القصة جيد ولكنه أطال كثيرًا في المقدمة وفي شرح أصناف الطعام، لكن النهاية جاءت مبتورة ولم تأخذ حظها في السرد.

المرتبة الثالثة: «للموت فضاءات أرحب» لهاني مصطفى قدري/ مصر:
الواقعة واحدة والقتيل واحد لكن الروايات متعددة، كل واحد يرى الحادثة كما يحب أن يراها، وبالتالي تضيع الحقيقة، هذا ما ترويه هذه القصة القصيرة والغريبة في الوقت نفسه، فهناك موت قد حدث ولكن لا أحد يعرف كيف مات هذا الشخص ولا من قتله، كل واحد يقدم وجهة نظره، وتنتهي القصة ولا نعرف أين الحقيقة، هي غائبة مثل كثير من الحقائق في عالمنا المعاصر. إيقاع القصة سريع والجمل قصيرة والنقلات بين الأصوات المختلفة تضيف في كل مرة تفصيلة جديدة لا تساهم في إظهار الحقيقة بقدر ما تؤكد البعد عنها.