تقاطعات اللقاء والطريق قراءة في «رجال في الشمس»

تقاطعات اللقاء والطريق قراءة في «رجال في الشمس»

تظل رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني من العلامات المضيئة في مسيرة الرواية العربية، ومع كثرة القراءات لها لا تزال تستحق المزيد والجديد من القراءات، قبل إطلاق سؤالها أو تساؤلها الفاجع والمفجع الأخير، الذي يلوح صرخة اتهام أبدية: «لماذا لم يدقوا الخزان؟».

 

استندت الرواية إلى طرح تفاصيل كثيرة، تتجاور وتنبني بدقة، حول هؤلاء الذين استنشقوا آخر ما تبقى لهم من هواء شحيح ولم يقرعوا جدران الخزان. تنصرف هذه التفاصيل إلى أزمنة ماضية عاشوها، وأماكن عدة أتوا منها، وتجارب متنوعة مرّت بهم ومروا بها، وطرق متنوعة اجتازوها، قبل أن يلتقوا معًا في نقطة زمانية ومكانية محددة، وقبل أن يخوضوا، داخل الخزان الخانق الذي أحاط بهم، ثم أطبقت جدرانه على أنفاسهم فتحول إلى مقبرة لهم، ذلك الطريق الذي لم يبلغوا نهايته أبدًا.
في قراءة هذه الرواية يمكن التوقف عند مفهومين مترابطين، ومرتبطين بشخصيات الرواية ارتباطًا وثيقًا: «كرونوتوب اللقاء» (أو متصل «زمن/ مكان اللقاء»)، و«كرونوتوب الطريق» (أو متصل زمن/ مكان الطريق)، حسب صياغة الناقد ميخائيل  باختين. إن الحيز المكاني الضيق الذي جمع هذه الشخصيات، مقترن بالتوقيت المعيّن بدقة، المحسوب في بعض الفترات بالدقائق والثواني، هذان الحيزان المحدودان مفتوحان على أماكن وأزمنة أخرى؛ على عوالم عاشتها وأخرى حلمت بها وسعت إليها هذه الشخصيات، ومشرعان على أسباب قادتها إلى أن تلتقي معًا، لتقطع خطواتها الأخيرة، في آخر طرقها، على سبيل مصيرها الفاجع الأخير.

أبعاد متنوعة
فى «زمكان الطريق»، بعبارة باختين، «تتقاطع فى نقطة زمانية ومكانية واحدة الدروب الزمانية والمكانية لمختلف ألوان الناس».
ولزمكان الطريق، الذي يعد موضوعًا مهمًا من موضوعات الأدب، أبعاد متنوعة.
 هناك، من جانب، بعد عياني (كأن يكون التناول مرتبطًا بطريق مكانى فعليّ، يتم خلاله الانتقال من «موطن الرأس» أو البلد الأليف)، وقد يكون متصلًا «بطريق حياة»؛ إذ يلوح فى انتقال الإنسان عبر المكان شكل من أشكال الارتباط بامتلاء هذا المكان «بمعنى حياتي فعلي»، وباكتساب هذا المكان «علاقة جوهرية بالبطل ومصيره». 
وهناك، من جانب آخر، «الاستعارية الفنية للطريق؛ طريق الحياة، طريق البحث، طريق العدالة»... إلخ؛ إذ «إن استعارية الطريق متنوعة ومتعددة المستويات، لكن النابض الأساسي فيها هو جريان الزمن».
يقرن ميخائيل باختين «زمكان اللقاء» بـ«زمكان الطريق»، ويقارن بينهما في الوقت نفسه. 
وموضوع اللقاء موضوع عام، بل يعد من «أعم الموضوعات ليس فى الأدب وحده بل في مجالات الثقافة وكذلك فى مختلف دوائر الحياة والمعيشة». وتختلف اللقاءات على مستوى أنواعها (اللقاء الأول - اللقاء العابر ـ اللقاء الحاسم... إلخ)، كما تتعدد على مستوى أدوارها في العمل الروائي؛ إذ يمكن جعلها فاتحة لوقائع، أو لتحولات في الوقائع، أو نهاية أو تتويجًا لوقائع... وقد اعتمدنا في الإشارات إلى المفهوم ترجمة د. يوسف حلاق لكتاب باختين «أشكال الزمان والمكان في الرواية».
ولموضوع اللقاء صلة بموضوعات أخرى تجمعها به التحديدات المكانية والزمانية، مثل موضوعات: الفراق، الفقدان، الزواج... إلخ، ويمكن أن نضيف إلى هذه الموضوعات، في التجسيد الذي صاغته (رجال في الشمس)، موضوع الموت.

الطريق الأخير
تقطع شخصيات الرواية (أبو قيس، أسعد، مروان) رحلاتها من مكانها الأول، موطنها الأليف الذي لم يعُد أليفًا، إلى بلد آخر تحلم ببعض الدنانير فيه. تجتاز طرقًا عدة إلى أن تلتقي في نقطة مكانية وزمنية بعينها، ثم إلى أن تصبح، في نقطة زمانية ومكانية أخرى، جثثًا يُلقى بها في كوم قمامة. تخوض طريقها الأخير (و«الطريق» عنوان لفصل من فصول الرواية) الذي تحاول اجتيازه... وخلال هذه الرحلة تستعيد ونستعيد معها طرقًا فرعية كثيرة كانت قد قطعتها من قبل، كلها أصبحت طاردة، ودافعة إلى طريقها الأخير.
«أبو قيس»، فقد منذ عشر سنوات شجراته وبيته وشبابه وقريته الفلسطينية كلها. هو الآن، في زمن الوقائع بالرواية، «على بعد آلاف من الأميال والأيام عن قريته»، حيث لا توجد أية شجرة (الأشجار موجودة في رأسك يا أبا قيس). هو الآن يبدأ خوض مغامرة الأحلام التي كانت زوجته قد قالت عنها إنها «غير مأمونة العواقب»، وكان رده لها، شاردًا يفكر في طريق مبهم لمستقبل غامض: «الطريق طويلة، وأنا رجل عجوز ليس بوسعي أن أسير كما سرتم أنتم... فقد أموت»... هو الآن في مواجهة «الطريق المنسابة في الخلاء كأنها الأبد الأسود»، بعبارة الراوي الموازي له.
و«أسعد» أتي إلى هنا، إلى نقطة الالتقاء، بعدما لم تعد أمامه «طرق في هذه الدنيا»، بالعبارة التي فكر فيها، عندما قال له الرجل السمين الذي يقوم بتهريب الذاهبين من البصرة إلى الكويت: «إذا لم تعجبك شروطنا» يمكن أن تستدير و«أن تخطو ثلاث خطوات وتجد نفسك في الطريق». أي طريق؟! لقد أتى إلى هنا لكي يستطيع أن يذهب إلى حيث يمكنه الحصول على الدنانير، على أمل في أن «يهتدي إلى أول الطريق كما اهتدى كثيرون». في مرحلة سابقة من رحلته إلى هنا كان «مشوشًا، ولم يكن بوسعه أن يهتدي إلى أول طريق التساؤلات كي يبدأ». و«مروان» أيضًا لم تعد أمامه طرق أخرى. 
أما «أبو الخيزران»، الذي سوف يلقي بجثث هؤلاء الثلاثة في القمامة، بعد أن يتأكد من موتهم، وبعدما سلب القليل الذي كانوا يحملونه بجيوبهم، في نهاية طريق الهلاك،  فيستعيد لنا راوي الرواية عالمه الأول الذي لم يعد ينتمي إليه. الطريق الذي يقطعه أبو الخيزران مرتين، ذهابًا وعودة متكررين، بالنسبة له، محض وسيلة للكسب والحصول على المزيد من النقود، ثم الاستقرار والراحة في الظل. 
لم تكن لقاءات أبي قيس وأسعد ومروان المنفردة مع رجل التهريب السمين هي التي جمعتهم... كانت محطة لانتقالهم إلى نقطة «اللقاء الحاسم»، بزمنه ومكانه، مع أبي الخيزران؛ حيث اكتملت صفقته معهم. 
هناك طرق فرعية كثيرة وسابقة قادتهم إلى هنا، إلى مكتب الرجل السمين، ثم إلى مقعد الإسمنت مع أبي الخيزران، ثم إلى طريق الهلاك الأخير.
أسعد مثلًا، كان قد سمع عبارة أبي العبد، الذي كان قد هرّبه من الأردن إلى العراق: «ما عليك إلا أن تدور حول الإتشفور وستجدني بانتظارك على الطريق»، واتفق معه، مخادعًا، أن «يلتقيه على الطريق»، وطلب منه، مخادعًا أيضًا: «عليك أن تساعدني طوال الطريق»، ونلاحظ هنا تكرار مفردة «الطريق». وهكذا، مع مروان وأبي قيس. طرق كثيرة قادت الثلاثة إلى طريق شهد ضحايا كثيرين من قبل.
تقطع الرواية، ونقطع معها، طريق الجحيم من بدايته: «بدأت السيارة تقطع الطريق»، ويخبرنا الراوي أن الطريق يشبه درجًا (سلّمًا) منبسطًا، يهز السيارة ويرجفها «بلا هوادة وبلا انقطاع»، ويقول لنا الراوي، بموازاة أبي الخيزران سائق السيارة، إن بإمكانه أن يتلافى هذا الهزيز لو زاد من سرعته، ولكنه إذا فعل هذا لن يضمن «أن لا تنقلب السيارة فوق هذه الطرق الملعونة».
هذه إشارات الراوي، مشبعة بمنظور أبي الخيزران، وكلها تقع على مسافة من معاناة التجربة. المسافرون، مجتازو الطريق أنفسهم، هم من في أتون المعاناة، وعليهم، كما نعرف، أن يختبئوا في خزان السيارة مرتين، مع التوقف عند نقطتي الحدود في «صفوان» ثم في «المقلاع»، لدقائق سوف تبدو في المرة الأولى دهرًا، وفي المرة الثانية سوف تتحول إلى زمن أبديّ. أبو الخيزران، سوف يقول لهم إن الخزان في أوقات التوقف هذه يصبح «فرنًا حقيقيًا»، لكنه سوف يخفِّفُ الأمر عليهم، بعد اختبائهم الأول داخل الخزان، لينبههم إلى مرة ثانية سوف يخوضون فيها التجربة: «أمامكم حمّام تركي آخر». أبوقيس، عندما ينزل إلى الخزان يأتي صوته: «إنه بئر ملعونة»، وأسعد عندما ينحني فوق فوهة الخزان المفتوحة، يقول: «هذه هي جهنم !»... وسوف يقول عنها مروان: «ذلك السجن الرهيب».
وطأة الجحيم في هذا الطريق، وحول هذه السيارة وداخل خزانها، مدعومة ومؤكّدة بوطأة الشمس التي تبدأ من عنوان الرواية نفسه، فضلاً عن فصل شغلت نصف عنوانه «الشمس والظل». وتردادات لهيب الشمس متكررة بالرواية، يغذّيها تناقض صارخ مع الحجرات مكيفة الهواء الواقعة على نقاط التفتيش.
تقطع السيارة بخزانها، ذلك السجن الرهيب، طريقها الذي تقاطع معه طريق أبي قيس وأسعد ومروان. مع حركتها يتحرك الراوي، بنقلات عدة، فيما بين صوت محركها وبين عوالم (أو أحلام) مـن هم بداخلها، أبو قيس وسعد ومروان الذين أصبحوا أشبه بـ«عالم صغير موهن» يشق «طريقه في الصحراء». يرصـد الـراوي أحلام كل واحد منهـم ثـم ينتقـل إلى السيـارة بتنويعـات على جملة واحـدة موصـولة بصـوت محـركها: «وتمضـي السيـارة فـوق الأرض الملتهبـة ويـدوّي محركهـا بـلا هـوادة»، «... ويـدوي محـركها بهديـر شيطاني»، «ويهدر محركها مثل فم جبار يزدرد الطريق».

عبارات عميقة
تتحول دلالات الطريق إلى مجاز كبير تصوغه عبارات الراوي صياغة إجمالية بالغة العمق: «كانت السيارة تشق الطريق بهم وبأحلامهم وعائلاتهم ومطامحهم وآمالهم وبؤسهم ويأسهم وقوتهم وماضيهم ومستقبلهم، كما لو كانت آخذة في نطح باب جبار لقدر عنيد». 
إن الطريق، في هذه العبارات، ينتهي إلى اكتمال معالمه... والشخصيات التي تقطعه، بأحلامها، تختصر عوالم كاملة... وحاضر الشخصيات، خلال هذه العبارات، يغدو مسيرة بين أزمنة متعددة... ومستقبل هذا الحاضر، الذي لاح في العبارات محض «قدر جديد مجهول»، سوف تنحسر جدّته ويتلاشى مجهوله في نهاية الطريق، عندما يتحول الحالمون إلى جثث بعد أن تحولوا من قبل إلى «بضاعة»، وإن ظل حيًّا، وإنسانيًّا، ذلك السؤال أو التساؤل الصارخ عن سبب خضوعهم للموت دون التفكير في دقِّ جدران الخزان.
سؤال الرواية: «لماذا لم يدقوا جدران الخزان» وهو جدير وحده بأن يخلّد هذه الرواية، بأكثر مما خلّد تساؤل «هاملت» مسرحية (هاملت)... هذا السؤال سؤال فعل أو حثّ على فعل، بامتياز. وهو يستعيد أو يستدعي أسئلة أخرى، مثل: «لماذا نزلوا في الخزان؟»، وهو سؤال فعل أو حث على فعل أيضًا، ومثل سؤال آخر: «لماذا ذهبوا إلى الخزان؟»، وهو «سؤال طريق»، بوضوح... لا يدين هذا السؤال، بترديداته المتنوعة، هؤلاء الذين ذهبوا إلى ذلك الطريق، وإنما يدين الملابسات التي قادتهم، أو دفعتهم، إلى نقطة اللقاء التي جمعتهم، وإلى الطريق الذي لم يجدوا سواه ليمضوا فيه ■