المرآة ودلالاتها في نقد طه حسين

المرآة ودلالاتها في نقد طه حسين

تدخل دراسة: «المرايا المتجاورة، دراسة في نقد طه حسين» للدكتور جابر عصفور في خانة ما يُسَمِّيه بيير بورديو بـ«الرأسمال الاعترافي»، لذا فإن الحرص على وضع نقد طه حسين ضمن دائرة الضوء، ليس بالأمر اليسير على الإطلاق، وإنَّما هو واقع في صلب النقاشات حول الممارسة النقدية الجادّة والرصينة المثرية للتساؤل والنقاش. 

 

قارئ هذه الدراسة سيجد نفسه أمام مفهوم جوهريّ يتكرر بشكل مستفيض في المتن وهو لفظة (المرآة)، لنقلْ إنها نقطة ارتكاز أساسية في تلقي هذا النقد، بل يُمكن اعتبارها «علامة مُسَجَّلة» باسم العميد، ونبراسًا لفهم وتفسير حقله الثقافي وتصوراته حول الأدب والثقافة والنقد والكتابة، فلا غرابة أن نجد هذا المفهوم يَتَبَدَّى من خلال هذه الكتابات بوصفه مفهومًا مفتاحيًا مُؤَسِّسًا للفكر النقدي عند طه حسين، وفيما يتّصل بهذا الجانب فقد لمسنا مدى انشغال د. جابر عصفور بطرح مفاهيم لها علاقة بسيرورات المعرفة من خلال تجاور المرايا وتجاوبها، خصوصًا تلك المفاهيم التي لها صلة مباشرة بمرجع البنيوية التكوينية، وسؤال سوسيولوجيا الأدب بشكلٍ عامٍ، فلا يمكن لناقد ما أن يلج عوالم الكتابة النقدية، دون أن يَمْتَلِكَ الشروط الإبستيمية والديالكتيكية التي تسمح له بالممارسة النقدية الحقة، وبالطبع، فهذه المقولة تنطبق على د. جابر عصفور، فهو يعي تمام الوعي أهمية ضبط المفاهيم وتطوير آليات القراءة والتأويل.
  ولا بد من الإشارة إلى أن هناك مفاهيم كثيرة تنهض بها هذه الدراسة حول طه حسين من قبيل: الانعكاس - التعبير- الالتزام - التمثيل - التناظر - التشبيه، غير أنها تبقى مفاهيم تدور كلّها في فَلَكِ المرآة، من حيث هي انعكاس وتمثيل وتشبيه وتناظر بين الأدب والمجتمع والفرد، بل إن كل مفهوم من هذه المفاهيم، يُشَكِّلُ فهمًا دقيقًا لكل مرايا طه حسين النقدية، فجابر عصفور جَعَلَ من كتابات عميد الأدب العربي، منطلقًا لتوسيع المدارك وارتياد آفاق رحبة لممارسة النقد استنادًا إلى معرفة النقد والنقد بالمعرفة، وكذا التّوسُّل بمفاهيم يَسْتَوجبها العمل النقدي، ويُراهن عليها في تطوير نشاطيّة العلوم الإنسانية ككل. 
وفي واقع الأمر، بدا من خلال دراسة د. عصفور رهانه على إرساء جهازٍ مفاهيميّ مرتبط ارتباطًا وثيقًا بسيرورات المعرفة عند طه حسين، فلا يُمكن مُعالجة عددٍ من الظواهر النقدية والأدبية ومقاربتها بمعزل عن انشغالات العميد، بالرغم ما يعتري خطابه النقدي من تعدُّديةٍ وتداخلٍ بين مجموعةٍ من التيارات والرؤى في الكتابة والنقد والتأليف، خصوصًا الانشغال بـ«فكر الثنائيات»، ومحاولة توطينه في مجمل كتاباته: الأزهر/السوربون، التراث/الحداثة، الشرق/الغرب، وغيرها من الثنائيات، لذلك فإن هذه المسائل تبقى حاسمةً وضروريةً في القضايا الفكرية عند طه حسن، وفي كتابات (تلميذه) جابر عصفور، غير أنّه «ليس من المجدي أن نتمسك بالصيغة البنيوية المجردة، صيغة التوفيق، للثنائية من الثنائيات، فننكر أو نغفل ما لحق بها من تغيرات بدعوى أنها ثانوية أو عارضة، وذلك أن هذه التغيرات - أي ذلك القلق الدائم وتلك التجارب المتعددة في طلب الاستقرار واليقين - هي السمة التي تميز طه حسين وتكشف عن جوهره وتعد أساسية في تقدير تفرده وأصالته» بتعبير محمودي رشيد عبدالصداق، ففي الحالات جميعها، تبقى كتابات العميد مُرتهنة إلى الأفق الذي يَتَشَكَّلُ من الثنائيات، فهي في حالة انسجامٍ تامٍ مع متغيّرات المرآة وإرهاصاتها وهواجسها وتفاعلاتها مع كلِّ تَوَجُّهٍ جديدٍ، غير أن ما يحكم هذا كله هو القلق الدائم والسعي الحثيث نحو التّجديد وخلق تجانسٍ بين مجموعةٍ من المرايا مهما بدت متباعدة ومتنافرة أبستمولوجيًا، ومع ذلك يمكننا التأكيد على أن فهم عصفور لكتابات طه حسين، تَمَيَّزَ بالكثير من الانضباط والوعي، على رغم ما طرحته الدراسة من إشكالات منهجية، لكن ذلك لا ينفي طابع الموضوعية والرّصانة والجدّة الذي ميَّزها، من هنا، فإن التّعامل مع المفاهيم في الخطاب النقدي عند جابر عصفور، ينبغي أن يتم باعتباره (حُجَّة) الناقد ودعامةً كبرى لمادَّته النَّقدية، علمًا بأن لكلِّ ناقدٍ أو باحثٍ مفاهيمه الأساس، ومنظوراته المنهجية والمعرفية والعلمية. لنقلْ، إنّها خصوصيّة تُميِّزُ عَمَلَ كل ناقدٍ عن آخر وتسمح بأن يَتَمَتَّعَ بنوعٍ من الاستقلالية في تدبير وتنظيم كتاباته النقدية، فثمة جملة من المفاهيم التي يسترشد بها عصفور في بناء نقده، ولا تجوز لغيره إلا من باب التأثر والاقتداء والمحاكاة، فـ«شخصية» الناقد الباحث تنهض وتتميّز بقيمة ما يكتبه وما يجترحه من تصورات ومفاهيم حول النقد وفتح منافذ جديدة للقراءة والتأويل.

الجوهر الحقيقي
ومن هنا، تتحدّد وظيفة الناقد وتتوسّع نظرته للأشياء حتّى يَتَمَكَّنَ من النّفاذ إلى الجوهر الحقيقيّ للممارسة النقدية، وإذا كان لإسهامه النقدي هذه الأهميّة، فهو بالأساس يتجلّى في تضافر جملةٍ من الشواغل والسِّمات، خصوصًا أن جابر عصفور دائم البحث عن إغناء جهازه المفاهيمي وإخصابه، بعيدًا عن القوالب الجاهزة والدوكسا، ويُمكن ملامسة فعل القراءة لكتابات طه حسين من خلال الرّهان على إنتاج المعرفة وبناء الدراسة وتأطيرها مركزًا على مفهوم (المرآة) كمحور أساس، وما يَتَفَرَّعُ منه من مفاهيم أخرى، وهو ما نلاحظه من خلال عديدِ الاستطرادات حول أهميّة المرآة في كتابات طه حسين، أو من خلال دورها في بلورة نظرية أدبية، إضافةً إلى مدلولاتها ودلالاتها المتغايرة في الفكر النقدي عند العميد، وبلا شك أن المرآة باعتباره مفهومًا جوهريًّا في العمل الأدبي، تبرزه وتعكسه كثرة الشواهد من كتب ومؤلفات طه حسين في هذا المجال. يقول عصفور في هذا الصدد: «إن علاقة العمل الأدبي بأصله علاقة تختزلها كلمات ثلاث هي: التصوير، والتمثيل، والانعكاس. هذه الكلمات الثلاث، التي تدور في مجال دلالي واحد، أثيرة عند طه حسين، وشائعة في كتاباته. وهي أثيرة وشائعة لأنها دوال تفضي إلى مدلول أساسيّ، هو لبّ ما يمكن أن يكون فكرًا نقديًا عند طه حسين»، بيد أن هذه المفاهيم تتقاطع وتتجاوب ناسجةً فيما بينها كيانًا موحدًا مُتّصلًا قادرًا على وصف وكشف جملةٍ من الظواهر الإبداعية والثقافية، واللافت للانتباه أنّها مفاهيم ذات خلفية سوسيولوجية، بالرغم من طابعها الآلي الاختزالي، فهي تُقيم في صميم التّجربة النقدية ككلّ وتعدُّد روافدها وأصولها، مما يجعلها تجربةً حيّةً وواقعةً في صُلب التّجارب النقدية المثرية للنقاش، كما تكشف طبيعة فعل القراءة، خصوصًا أن المقروء ينتمي إلى عصرٍ معين، بينما ينتسب القارئ/ الناقد إلى عصرٍ آخر، وما يترتَّبُ عن ذلك من إشكالات في فهم طبيعة هذه العلاقة الملتبسة القائمة بين القارئ والمقروء، أو بين نصٍّ ونصٍّ آخر متوارٍ له شروط إنتاج معينة ومختلفة، لكن، من المؤكد، أن «النص المقروء هو بعض ثقافة القارئ، بعض مخزونه الثقافي الذي تعلمه والذي صار جانبًا من عالم وعيه المعاصر. ومن هنا، فإن القارئ المعاصر عندما يقرأ عبدالقاهر الجرجاني مثلاً، فإنه يقرأ عبدالقاهر الذي يعيش في القرن الخامس للهجرة، وعبد القاهر الذي ينام تحت جلد وعيه في القرن الخامس عشر للهجرة، فكأنه يقرأ عبدالقاهر الذي (هناك) وعبدالقاهر الذي (هنا)، نص عبدالقاهر الذي يقع خارجه ونص عبدالقاهر الذي يقع داخله»، كذلك حين نريد قراءة مندور أو طه حسين أو محمد أمين العالم أو عبد الله كنون أو غيرهم، فإننا نكون في حالة تماسٍ تامٍ مع (الهناك) و(الهنا)، مع ما يستلزم ذلك من تغيير في استراتيجيات القراءة والتأويل والمقاربة. 

حُجَّةُ الناقد
واستتباعًا لذلك، فإن قواعد القراءة دائمًا ما تكون في حاجة إلى تغيير في الاستراتيجية وفي ضبط المفاهيم وتغييرها وفق قواعد القراءة المتعيّنة والمطلوبة لكل فعل قرائيّ، وإذا كانت المفاهيم هي حُجَّةُ الناقد وعُمدة كتاباته وتنظيراته، فإن هناك تقاطعًا في منطقة القراءة بكيفية تتلاءم وتتناسب مع طبيعة المقروء، علمًا بأن كل قراءة لا بد لها وأن تتساوق مع مرجعيات الخطاب وإنتاج المفاهيم.
  فدراسة جابر عصفور الموسومة بـ «المرايا المتجاورة»، تبدو مختلفة ومغايرة في اشتغالها المفاهيميّ والإجرائي، وفي طريقة التفاعل والتعامل مع المادة الكتابية لطه حسين وعوالمها المتشابكة، وهو إقرار صريح بأن استراتيجية القراءة وآليات مقاربة المتون، وإن انطلقت من المرجعية نفسها، فهي تختلف من رؤية ناقدٍ لآخر، علمًا بأن هذه الاختلافات لا يُمكنها الجزم باستحالة الائتلاف والتناغم بين الدراستين، «إنها التواصلات الأساسية القائمة في صلب الاختلافات الكبرى، وفي قلب تلك المحيطات الهادرة التي ترتطم فيها قبائل الأضداد والتناقضات ببعضها، حيث تفسح الكتابة مجالها الاستثنائي للتواجدات والإطلالات اللامتوقعة، الصادرة عن الأجرام المحتجبة في قلب عتماتها». ومن الواضح، أن عصفور ظلّ في تواصلٍ دائمٍ مع مفاهيم استرفدها من كتابات طه حسين، وقد أشرنا إلى مفهوم (المرآة) الذي بقيَ المفهوم المؤسس للمتن، بل إن كل المفاهيم الأخرى (الانعكاس - التعبير- التماثل - ...)، ما هي إلا «حضور هذه الخيوط السرية، القادرة على تحقيق ذلك التواصل المستحيل بين العناصر الموغلة في تنافرها وتضاداتها، يدعونها إلى مقابلتها بذلك الاندماج المعترف به عادة بين ما درج العرف على اعتباره مؤتلفًا ومتناغمًا. وهي مقابلة مدعمة بأسئلتها الهادفة ضمنيًا، إلى التأكد الفعلي من حقيقة هذا التناغم، الذي لا يكون في حقيقة الأمر، سوى الامتداد الطبيعي لهندسة قابلة في أية لحظة، لأن تجاهر باختلال بنياتها، وبحضور تصدعات كفيلة بهدمها». 
إن جابر عصفور يذهب في دراسته عن طه حسين إلى استغوار مكونات الكتابة والتدقيق في تجلياتها الجمالية والفنية بالتركيز على مفهوم (المرآة)، والعمل على تحليل رؤية طه حسين للعالم من خلال الكتابة، لكن، بالتّعمُّق والتدرج في فهم هذه الدراسة، يتضح أن ثمة (ثغرات) على مستوى النهوض بهذه المفاهيم، خصوصًا أن المقدمة التي دبّجها عصفور توهم أننا أمام دراسة ستنضبط منهجيًا ومفاهميًا ونظريًا لأفق سوسيولوجيا الأدب، غير أن دراسة المتن ومقاربته وتحليله، تفضي بنا إلى ملاحظة أن الدراسة نفسها ذهبت في اتجاه آخر، أو بالأحرى في اتجاهات أخرى، إلا أنها، أيّ الدراسة وضمن هذا المسار، حاولت مثلما حاول جابر عصفور من خلالها أن يتجاوب مع كتابات العميد ويتحاور معها من منطلق أنها كتابات لا تتحقق ولا تتبلور إلا في لحظة انبثاقها مكانيًا وزمانيًا ومشروطة بسياقات تاريخية وثقافية واجتماعية ■