حيرة نجيب محفوظ في قصصه المجهولة

حيرة نجيب محفوظ  في قصصه المجهولة

ذهب عدد من الأدباء والنقاد إلى أن روايات نجيب محفوظ أهم كثيرًا من قصصه القصيرة، وصنّفوا يوسف إدريس على أنه كاتب القصة المُجيد، ونجيب محفوظ كاتب الرواية المُجيد. وقد أدرك نجيب محفوظ هذا الأمر وقال إن يوسف إدريس سيظل عند الناس كاتب قصة قصيرة، مهما كتب من روايات. ثم عقب قائلًا: «والمضحك والغريب أن قصصي القصيرة منتشرة بين القراء أكثر من انتشار كتاب القصة القصيرة الفعليين، كل مجموعة طبعت خمس مرات على الأقل، وكل طبعة بالآلاف. على أية حال إذا كان النقد قد ظلمني في هذا المجال، فقد عوَّضني القراء». 

 

من وجهة نظر محفوظ أن الظلم لا يقع على الأديب بقدر ما يقع على الأدب ذاته.
وقد حاولت الكاتبة والشاعرة والناقدة الدكتورة عزة بدر في كتابها الجديد «قصص نجيب محفوظ المجهولة - سحر المنابع الأولى» - الصادر عن سلسلة «الكتاب الذهبي» بمؤسسة روزاليوسف العريقة - أن ترفع هذا الظلم عن نجيب محفوظ القاص، فلا تزالُ القصصُ المجهولة لنجيب محفوظ تُثير خيال الباحثين؛ ففيها باكورة أفكاره، وجذور فنه؛ بل وتصوراته عن فن القصة القصيرة التى عشقها وأطلق عليها «شعر الدنيا الحديثة»، وحتى لو كان قد اتخذ من أفكار رواياته مادة خصبة لكتابة قصصه وليس العكس؛ فإن فيها جوهر فنه الذي استوى على مهل ليكون هذا العالم الثري الفاتن في القصة القصيرة والرواية.
وهنا نتوقف قليلًا أمام ما قاله سليمان فياض واعترض عليه نجيب محفوظ، فقد حدث ذات مرة أن فياض كتب مقالًا عن «حضرة المحترم» في صحيفة أدبية اسمها «كتب جديدة» أصدرها عبده جبير، وقال عن الرواية رأيًّا لا يسر، مفاده أن نجيب محفوظ يسلِّي نفسه أحيانًا لمجرد الكتابة، وينفخ روحًا في قصة قصيرة لتكون رواية. ولسوء الحظ حضر جبير وأعطى نجيب محفوظ نسخة في حضور صاحب المقال، فسأل نجيب محفوظ فياض في غضب: هل هذا هو النقد؟ (دا نقد؟). 
وعندما لاحظ فياض انفعال محفوظ قال: مقبول منك يا عم نجيب، ولزم الصمت، ثم طلب نجيب محفوظ فنجان قهوة لسليمان فياض، ودعاه للجلوس أمامه، وقال له: انسَ ما قلت. 

صديق النقاد
وأعتقد أن الأمر لم ينته عند ذلك بالنسبة لنجيب محفوظ الذي كان يزن كل كلمة تُقال حول أعماله، على الرغم من ادّعائه بأنه لا يعترض على كتابات النقاد، ولا يرفضها ولا يبادل أصحابها عداءً بعداء، ولا يقف أمام تسلطهم على النص السردي أحيانًا، حتى الذين وصفوه بالجُبن، وتضييع الإيمان وتغريب العقيدة، لا يرفضهم، بل يحاول أن يأخذ الأمور بصدر رحب، ويقنع نفسه بأنه - أي النقد - شيء لا بد منه، أو قضاء لا مفر من حدوثه. لقد حاول ترويض نفسه على أن يتقبل الأمر مهما كانت نتائجه. وكان يعتبر نفسه صديقًا للنقاد، مؤكدًا أن أي نقد في الدنيا لن يرفع إنسانًا أو يُخفضه درجة عمَّا يستحق. قائلاً: «لم يحدث أنني رددتُ على ناقد، كما لم يحدث أنني أهملتُ قول ناقد».
وتوضح عزة بدر في مقدمة كتابها أن نجيب محفوظ أصدر أكثر من خمس عشرة مجموعة قصصية، منها: «دنيا الله» 1963، و«بيت سيئ السمعة» 1965، و«خمارة القط الأسَود» 1969، و«تحت المظلة» 1969، و«حكاية بلا بداية ولا نهاية» 1971، و«شهر العسل» 1971، و«الجريمة» 1973، و«الحب فوق هضبة الهرم» 1979، و«الشيطان يعظ» 1979، و«الفجر الكاذب» 1988، و«القرار الأخير» 1996، و«صدى النسيان» 1999 وغيرها. 
إذن ماذا أضافت عزة بدر إلى هذه القصص المنشورة في مجموعات قصصية مطبوعة في كتب ومثبتة التواريخ؟ 
يبدو من الوهلة الأولى أن هناك قصصًا لمحفوظ نشرها في بدايات حياته في بعض الصحف والمجلات التي كانت تصدر في أيام شبابه، ولم يشأ أن يجمعها مع المجموعات القصصية التي ظهرت لاحقًا.
مثل هذه القصص الأولى تؤكد عزة بدر أنها تمثل سحر البداية، ولا تزال تُخايل الباحثين سواء في البحث الشاق عن هذه البدايات التي لا تزال مطمورة في أعماق الصحف والمجلات الأدبية القديمة، أو التي نُشر بعضها في كتاب محمود علي الصادر 2016 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بعنوان «قصص نجيب محفوظ التي لم تُنشر»، ومحاولة قراءة قصص هذا العالَم البكر لنجيب محفوظ في العديد من الكتابات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر رؤية لطيفة الزيات لعالم نجيب محفوظ في كتابها «نجيب محفوظ الصورة والمثال» الصادر عن هيئة للكتاب 2012 وإبراهيم فتحي في كتابه «نجيب محفوظ بين القصة القصيرة والرواية الملحمية» الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة 2010، وغيرها من الكتابات المرجعية التي رجعت لها عزة بدر.
وتكشف المؤلفة أن الفضل في جمع بواكير قصص نجيب محفوظ يعود إلى صديقه وناشره سعيد السحار الذي أقنعه بأن يتولى اختيار مجموعة من قصصه لتصدر في كتاب، فصدرت مجموعة «همس الجنون» عام 1947، متأخرة عن موعد كتابتها الذى يعزوه النقاد إلى عام 1938.
في كتابها «الحياة في مقام الحيرة» - الصادر عن دار المعارف عام 2019، قدمت عزة بدر رؤية لبعض قصص نجيب محفوظ المجهولة التي كشف عنها الباحثون من خلال ما كتبه د. سيد حامد النساج في كتابه الرائد «الرؤية والأداة - نجيب محفوظ» أو «نجيب محفوظ - الرؤية والأداة»، والذي أرَّخ فيه لأمكنة وتواريخ نشر هذه القصص. وكتاب «نجيب محفوظ - ببليوجرافيا تجريبية وسيرة حياة ومدخل نقدي» لحمدي السكوت، وما جمعه محمود علي في كتابه «قصص نجيب محفوظ التي لم تُنشر» الصادر 2007. وأشير هنا إلى «ببليوجرافيا نجيب محفوظ» التي أعدها الناقد شوقي بدر يوسف وصدرت - في جزأين - عن المجلس الأعلى للثقافة عام 2011.

رؤية واحدة
وأنا أرى أن كتابَي عزة بدر «الحياة في مقام الحيرة، وسحر المنابع الأولى» يكملان بعضُهما البعض، وحبَّذا لو جمعتهما في كتاب واحد، لأنني أعتقد أنهما ينتميان لرؤية واحدة ويستخدمان منهجًا واحدًا. إنها تستكمل في الكتاب الثاني رحلة الكشف عن القصص المجهولة ليمكن وضعها في مرحلتها التاريخية وفي ظروف تكونها ونشأتها. وهو ما بدأته في كتابها الأول «الحياة في مقام الحيرة».
وأنا أعتقد أن نجيب محفوظ ظل يعيش في مقام الحيرة حتى لحظة رحيله عام 2006، وقد تجسدت لحظات الحيرة في دار الحيرة بروايته «رحلة ابن فطومة» التي قسمها إلى سبع رحلات هي: «الوطن، ودار المشرق، ودار الحيرة، ودار الحلبة، ودار الأمان، ودار الغروب، والبداية». 
كما تجسّدت تلك الحيرة في إحدى القصص التي قامت عزة بدر بتحليلها تحليلاً رائعًا وهي قصة «على البلاج» التي جمعت ثلاثة من الأدباء هم: صالح جودت وعبدالحميد جودة السحار ونجيب محفوظ، وهي عن ثلاث فتيات على الشاطئ أخذ كل كاتب يكتب عنهن، ولكن يظل نجيب محفوظ في موقف الحيرة بينهن. «قال لنفسه: سأتعرف بهن وإذا لم يخرجني التعارف من حيرتي كاشفتهن بنجوى قلبي واعترفت بحبي لهن جميعًا وحيرتي فيهن وسألتهن أن ينتشلنني من بلواي وأنظر ماذا يكون بعد ذلك، ومهما يكن من أمري وأمرهن فهي تجربة بارعة في لطفها وفيما يحتمل أن تتكشف عنه من مختلف الحلول».
إن حيرة نجيب محفوظ، حيرة فلسفية أمام ألغاز الحياة والوجود، وأتذكر مقولته للدكتور طه حسين عندما كان يختبره أثناء التحاقه بقسم الفلسفة في كلية الآداب وسؤاله: لماذا اخترت قسم الفلسفة؟ فيجيب الطالب نجيب محفوظ: لرغبتي في معرفة سر الكون وأسرار الوجود، والسفر إلى عوالم لانهائية. يقول نجيب محفوظ: أصغى العميد إليّ جيدًا ثم قال ساخرًا: أنت جديرٌ بالفلسفة فعلاً، لأنك تقول كلامًا غير مفهوم.
ولعلنا نتذكر شخصية عبدربه التائه في «أصداء السيرة الذاتية» إنها إحدى صور نجيب محفوظ الفلسفية المتأزّمة، وحيرة كمال عبدالجواد في الثلاثية، وحيرة عمر الحمزاوي في «الشحاذ»، وحيرة عيسى الدباغ في «السمان والخريف» وموقفه المتردد من ثورة 23 يوليو، بل تذكّرنا بحيرة سعيد مهران في «اللص والكلاب»، وحيرة أبناء الجبلاوي وأحفاده في «أولاد حارتنا». كما تذكّرنا بسقوط محجوب عبدالدايم في «القاهرة الجديدة»، وضياع حميدة في «زقاق المدق».
وعلى الرغم من أن قرَّاء نجيب محفوظ ونقاده يعتقدون أنه لا يوجد جديد لم يُنشر في تراث نجيب محفوظ، فإن عزة بدر ترى أن الذي سبق نشرُه في بدايات محفوظ لم يَلق التقدير اللازم، ولم يُلق عليه الضوءُ المطلوب. وكان نجيب محفوظ نفسه يعتقد أن حياته الأدبية بدأت بإهمال شديد وانتهت باهتمام كبير، حيث قال: «لقد بدأتْ حياتي بإهمال طويل، وتنتهي الآن باهتمام كبير».

الحقيقة العليا
لذا نثمِّن رحلة عزة بدر النقدية في عمليها: «قصص نجيب محفوظ المجهولة-سحر المنابع الأولى»، و«الحياة في مقام الحيرة». فهي استطاعت أن تمحوَ فكرة أن نجيب محفوظ الروائي أفضل من كاتب القصة نجيب محفوظ، فالنبعُ واحدٌ في جميع أعماله الإبداعية. فلقد كانت قصصُه مشغولةً - مثل رواياتِه - بالإنسان وصراعه مع نفسه، ومع ظروفه، ومحاولته أن يتحقَّق، ففي عالم نجيب محفوظ، الإنسان هو الحقيقة العليا، وهو الفرد المشوب بالقصور، هو الأنا العليا، والأنا السفلى، هو الفكرة وهو المادة، هو الروح، وهو الجسد، هو الحدس، وهو العقل، والإنسان هو جماع التناقضات، منقسم على نفسه يرزح تحت ازدواجية تتمثل في صراع بين طرفي ثنائية الروح والجسد، والحدس والعقل، والفن والعلم، نسمة التصوف ووهج الغريزة كما تقول لطيفة الزيات عن أبطال قصص نجيب محفوظ، ولذا سيبقى أدبُه خالدًا، وستظل أسرار إبداعِه تُخايلنا؛ خصوصًا تلك الينابيع الأولى.
تتوقف عزة بدر أمام قصص محددة في عالم نجيب محفوظ، منها: «العرافة»، و«الحالم بسوق العيش» و«حزن وسرور» و«حكمة الحموي» و«الشر المعبود». وتؤكد لنا أن بعض شخصيات هذه القصص ممتدٌ في أعمال ورايات أخرى لنجيب محفوظ، وعلى سبيل المثال قصة «القيئ» تُعيد علينا قصة محجوب عبدالدايم الانتهازي المدمر في «القاهرة الجديدة» مع اختلاف في الدلالة والتفاصيل.
ولكي نعرف حجم إنجاز محفوظ الأدبي في إنتاج قصصه الأولى لا بد من إطلالة على عالم القصة القصيرة، والمناخ الأدبي الذي كُتبتْ فيه، وتحيلنا عزة بدر على الناقد الدكتور علي شلش في كتابه «نجيب محفوظ - الطريق والصدى» الذي يقول: «لم تكن هناك نماذج محلية ناضجة فنيًّا في تلك الفترة، وكانت الترجماتُ ذاتُها قليلة ونادرة فيما يتعلق بكُتَّاب مثل موباسان، وإدجار ألن بو، وتشيكوف ممن طوّروا القصة القصيرة في أوربا وأمريكا، ولم تبدأ هذه الترجمات في الاطراد إلا في النصف الأخير من الثلاثينيات، حين شرعت المجلات الحديثة الظهور وقتها مثل الرسالة، ومجلتي، والرواية في نشر نماذج ناضجة نقلاً عن هؤلاء الكتاب وغيرهم».
كما تتوقف الناقدة عند تطوّر القصة المصرية وتجديد نجيب محفوظ، من خلال المجلات التي نشرت أعمال نجيب محفوظ القصصية مثل: مجلة الرواية (1937-1939) والمجلة الجديدة (1929-1941) ومجلة الرسالة، ومجلتي (1934-1945) ومجلة الثقافة (1939-1953).
ومن سمات القصة القصيرة التي رصدتها الناقدة في كتابها عن قصص نجيب محفوظ - بعد الرجوع لعدد من المصادر والمراجع -: المفارقة، والمصادفة، والشعور الإنساني العميق.
لقصة «حكمة الحموي» دلالة خاصة في أعمال نجيب محفوظ، لذا تتوقف عندها عزة بدر، فما بين فكرة تمزيق محفوظ لبعض قصصه، وعشقه لفن القصة القصيرة نقف على شواطئ الحيرة التي لا تجلوها لنا إلّا هذه القصص نفسها، وتعد قصته «حكمة الحموي» مصباحًا هاديًا، نجتلي به موقف نجيب محفوظ في مقام الحيرة، وكأننا نجتلي عالم عبدالجبار النفري في مواقفه ومخاطباته الصوفيه.

مقام الحيرة
إن نجيب محفوظ صوَّر صراعه وحيرته من خلال بطله كاتب القصة «فاضل الحموي»، وحواره مع صديقه الشاعر محمد الحارث، وهي القصة التي نشرها محفوظ على صفحات «المجلة الجديدة الأسبوعية»، في 18 مارس 1936، وهي القصة التي ترى الناقدة أن بطلها هو نجيب محفوظ نفسه.
يقول نجيب محفوظ نفسه عن هذه القصة: «كتبت مرة أقصوصة تصور حياتي الأدبية خير تصوير، وهي قصة «حكمة الحموي»، بطلها أديب لا يريد أن ينشر قصصًا كثيرة عادية أو متوسطة بل يريد أن يترك عملاً واحدًا ممتازًا يثق في أنه سيُخلَّد من بعده، فأخذ يكتب قصة عن مغامرات صياد، ويتركها مدة ثم يعود ليقرأها فيجدها أصبحت سخيفة تافهة، وأن مغامرات شبابه أهم، فيكتب قصة عن مغامرات شبابه، فإذا قرأها في رجولته وجدها قد أصبحت سخيفة لا قيمة لها. وهكذا حتى مرض وأحس بقرب نهايته، فأحضر آخر مؤلفاته وقرأها، وقال: لو عشت فستبدو هذه القصة كسابقاتها، فمزَّقها هي الأخرى، ومات دون أن يترك شيئًا».
هذه الشهادة التي أدلى بها نجيب محفوظ عن قصته وأوردتُها في رواية «الليلة الأخيرة في حياة نجيب محفوظ»، ربما تختلف قليلاً عن رواية عزة بدر في كتابها، ولكن المغزى واحد. 
وفي جميع الأحوال نرى هذه الحيرة التي تلازم محفوظ طوال حياته الأدبية، فنجد أصداء لهذه الحيرة في عدد من أعماله تعكس أفكار محفوظ في مقام الحيرة، وتشكّكه في وصوله إلى ذروة الكمال. 
إن ما تراه الناقدة عزة بدر قد صنع عبقرية نجيب محفوظ، هو موقف الشك الفلسفي، والتفكُّر في حقيقة الإنسان، والفن في تعبيره عن الموجودات، وعن طبيعة الإنسان الطامحة لتحقيق جنّته على الأرض ■