الأنا والآخر في شعر الشعراء الأغربة الجاهليِّين

 الأنا والآخر  في شعر الشعراء الأغربة الجاهليِّين

تسعى هذه المقالة إلى أن تعرّف بالشعراء الأغربة الجاهليِّين، وبرؤيتهم إلى ثنائية الأنا/ الآخر، كما تتمثَّل في دواوينهم الشعرية المتوافرة لدينا، وهي مصادر هذه المقالة.  الشعراء الأغربة الجاهليون هم شعراء أبناء إماء، سرى إليهم السواد من أمَّهاتهم، وسُمُّوا بهذا الاسم تشبيهًا لهم بالغراب. جاء في لسان العرب: «أغربة العرب سودانهم، شُبِّهوا بالأغربة في لونهم». وجاء في الأغاني: «... هم ثلاثة: عنترة، وأمُّه زبيبة، وخُفاف بن عمير الشريدي، وأمه ندبة، والسُّليك بن عمير السعدي، وأمه السُّلكة، وإليهنَّ ينسبون» (الأغاني، 8/ 240). 

 

لكلِّ شاعرٍ من هؤلاء الشعراء تجربته الشخصية الفريدة، لكن يمكن للباحث أن يتبيَّن في شخصياتهم وتجاربهم عناصر مشتركة تمثل هوية متميزة نستطيع تسميتها بهوية «أنا الأغربة المختلفة»، من هذه العناصر: -1 أبناء إماء. -2 لونهم الأسود. وأوصاف العرب لهذا اللون تدلُّ على أنَّه لم يكن لونًا محبوبًا منهم، فهو حالك وفاحم وقاتم وغربيب وديجور... وكان العرب يحبُّون اللون الأبيض، فإن تغنوا بجمال امرأة، فهي المرأة البيضاء، واذا مدحـوا رجـلًا فهـو ابن البيضاء. -3 الفقر المدقع. -4 الموقع المجتمعي، فهم هامشيون مهانون ومنبوذون. -5 عيش حالة «سقم» يعبِّر عنها قول عنترة: «ولقد شفى نفسي، وأبرأ سقمها «قيل الفوارس: ويكَ عنترَ أقدم». -6 الشاعر منهم إذا نبغ يوصف بما يدلُّ على عنصرية، كما في هذا القول: «أشعر أهل جلدته»، والفارس منهم إذا أقدم يظل ابن السوداء، فعلى الرغم من أن عنترة حمى قبيلته، فإن أميرها قيس بن زهير، قال: «والله، ما حمى الناس إلا ابن السوداء». -7 التمرُّد والسعي إلى تحقيق الذات/ الأنا، ولكلٍّ سبله إلى ذلك، ما أدى إلى اليقظة الدائمة، كما يدلُّ على ذلك قول أحدهم: «ينام بإحدى مقلتيه...». -8 مَرْكزة الذات، والتعبير عنها بضمير «الأنا» والنظر إلى القبيلة، في كثير من الحالات، بوصفها الآخر. 

عنترة بن شداد
عنترة بن شداد العبسي (525-615م). التاء في اسمه  للتعظيم. لُقِّب بـ«عنترة الفوارس» وبـ«أبي المغلِّس»، لجرأته وسواد لونه، و«عنترة الفلحاء»، لتشقُّق شفتيه. أمُّه أمَةٌ حبشية اسمها زبيبة. سمّاه فيليب حتى «أخْيَل العرب»، وسمى شوقي ضيف سيرته بـ «إلياذة العرب». اعترف به أبوه، في حادثة معروفة متداولة. بطل سيرة شعبية. شكَّ نقَّاد في وجوده الأدبي، منهم: طه حسين، والمستشرق برنهارت هلر وحسين فوزي، لكن ما يعنينا، في هذه المقالة، هو النصُّ الشعري الدال على رؤية أحد الأغربة، سواء كان ناظمه عنترة، أو أحد الشعراء الكبار، الصادر في شعره عن تجربة متخيلة هي تجربة عنترة. 
 وعى عنترة واقعه وذاته/ أناه، وموقعها في مجتمعه، فممَّا يؤثر عنه قوله: «كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزمًا، وأحجم اذا رأيت الإحجام حزمًا، ولا أدخل موضعًا لا أرى منه مخرجًا، وكنت أعتمد الضعيف الجبان، فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع ...». وكان وعيه هذا يتطوَّر بتطوُّر تجربته، ليتبلور هوية متميزة، ولعلها هوية فريدة في التاريخ الإنساني، فيؤثر أن النبي محمدًا (صلى الله عليه وسلم) قال عن صاحبها: «ما وصف لي أعرابي قط، فأحببت أن أراه إلا عنترة»؛ وذلك بعد أن سمع قوله: «ولقد أبيت على الطوى وأظلّه/ حتى أنال به كريم المأكل» (الأغاني، 8/ 243). 
عاش حياة العبودية، وعانى عذابها، فخاطب سيِّده/ أباه الذي كان يعذِّبه يسأله، في استفهام يخرج إلى الاحتجاج: «والمال مالكم، العبد عبدكم/ فهل عذابك عنِّي، اليوم، مصروف !؟»، وقال، بعد حادثة «كرّ وأنت حر»: «أنا الهجين عنترة/ كلُّ امرئٍ يحمي حرَه...»، ففي هذا الخطاب تتمثل «الأنا» في «الهجين/ العبد الحامي قبيلته». واذ يتخذ هذا «الأنا» موقعه المجتمعي، بوصفه فارسًا حرًّا، يرى نفسه من خير بني عبسٍ منصبًا، يحمي نفسه بالمنصل، وإذا الكتيبة أحجمت، يُلفى «خيرًا من مُعِمٍّ ومُخوِل»، ويمتلك رؤية إلى العالم وقضاياه مختلفة عن رؤية الاَخر، ومن هذه القضايا ثنائية العبد/ الحرّ، وقد تكرَّر حضور رؤيته إليها نحو خمس عشرة مرة في ديوانه، ومن نماذج شعره فيها: «أنا العبد الذي خُبِّرت عنه/ يلاقي، في الكريهة، ألف حُرِّ»، و«من قال: اني سيِّدٌ، وابن سيِّدِ/ فسيفي، وهذا الرمح عمّي وخاليًا»، وقد سعى، من موقعه هذا إلى «العلا»، كما يقول: «لغير العلا، مني القلى والتجنُّب/ ولولا العلا ماكنت في العيش أرغب»، ولم يكن سعيه سهلًا، وانما كان شديد الصعوبة، ويعبِّر عن ذلك بقوله عن الدهر: «دهر يرى الغدر من إحدى طبائعه/ فكيف يهنا به حرٌّ يصاحبه؟!»، وبقوله عن الناس: «لأي حبيب يحسن الرأي والودُّ/ وأكثر هذا الناس ليس لهم عهد»، ويلحظ قارئ شعره ظاهرة مخاطبة الحمام والطير، وتشبيه إنشاده السعر بهديلها ونواحها، و يتكرر هذا التشبيه اثنتي عشرة مرة. 
لكنه يحقق ما يريده من الأيام بالجهد، بوصفه «البطل الفرد»، فيبلغ «ذرا الجوزاء»، كما يقول. وإذ يرقى إلى هذا الموقع، يرى ثنائية السواد/ البياض رؤية مختلفة عن رؤية الاَخر، ويتكرر حضور هذه الرؤية في شعره أربع عشرة مرة، فيقول: ماساءني لوني واسم زبيبة، لأن بيض خصائلي تمحو السوادا، وفعالهم بالخبث أسود من جلدي، ويبالغ في فخره، فيقول: «ولو صلَّت العُرب يوم الوغى/ لأبطالها كنت للعُرب كعبه». 
وإذ يعي ذاته، ويسعى إلى تحقيقها، يرى إلى الآخر، ويتعامل معه. و يتمثل الآخر بالنسبة إليه في المرأة والقبيلة والقبائل العربية المعادية، ففيما يتعلق بالمرأة، نلحظ وجود أربع نساء في شعره: أولاهن أمه، وقد مر بنا أنه اسمها لم يُسئه، وثانيتهن زوجة أبيه سمية التي افترت عليه بأنه راودها عن نفسها، وأشفقت عليه عندما ضربه أبوه، فكانت تجربته معها مرة، وثالثتهن حبيبته عبلة، التي بدا شعره فيها كأنه بدء، لما سُمِّي، في ما بعد، بـ «الشعر العذري» الرائي إلى الحبِّ، بوصفه قدرًا، ومن نماذج قوله فيها: «خُلقنا لهذا الحب من قبل يومنا...». وقصة حبِّه لها معروفة ومتداولة، وما نودُّ قوله هو أنها لم تعطه من حبِّها إلا بمقدار، وأنها تزوجت سواه، فخاطبها: «فلربَّ أبلج مثل بعلك بادن/ ضخم على ظهر الجواد مهيّل/ غادرته متعفِّرًا...» ورابعتهن زوجته التي خاطبها بقوله، عندما كانت تلومه على إطعام حصانه لبن إبله: «لاتذكري مهري وما أطعمته... ». أمَّا رؤيته إلى قبيلته، فكانت تمرُّ في حالات، فهو يحبُّ بني عبس ويقاتل معهم القبائل الأخرى والأعاجم، ويدافع عنهم، ويحميهم، ويحقق لهم الانتصارات، لكنهم يظلمونه ويواصلون ظلمهم له، فيسوِّغ استمرار ولائه لهم بحبِّه عبلة: «أحبُّ بني عبس، ولو هدروا دمي/ لأجلك، يابنت السراة الأكارم»، غير أنه؛ اذ يتواصل ظلمهم له، ينتفض، ويسأل سؤالًا يخرج إلى الانكار والخروج من الذات/ القبيلة إلى الذات/ الأنا، ويكثر تعبيره عن هذا الموقف، ومن نماذج ذلك قوله: «أظلمًا، ورمحي ناصري وحسامي/ وذلًا، وعزِّي قائد بزمامي!؟». 

خفاف بن ندبة 
خفاف بن عمير السلمي، لم يكن عبدًا، وإنما كان أحد سادة قومه. يجعله الجاحظ من مفاخر السودان على البيضان، ووصفه بقوله: يضرب به المثل في شدة البأس وشجاعة القلب. عانى من عقدة ابن الأمَة واللون الأسود. قال له مبارزه مالك بن خمار: أنت ابن ندبة؟ فأجابه: «أقول له، والرمح يأطر متنه/ تأمل خفافًا، إنني أنا ذلكا/ جادت له يمنى يدي بطعنةٍ... ». لم ينكر خفاف ما عُيِّر به، ورأى الأمر من منظور آخر، مختلف عن منظور الآخر السائد، وهو منظور الأنا الفرد المتميِّز. كأنه منظور عنترة، كما تبيناه، آنفًا. من هذا المنظور القيمي، وإذ وعى خفاف هويته/ هوية الأنا، أخذ، على الآخر، وهو أمير قبيلته، العباس بن مرداس، «اتقاءه بخيله عند الموت، واستهانته بسبايا العرب، وقتله الأسرى، ومكالبته الصعاليك على الأسلاب». وتمرَّد عليه، ونافسه على إمارة القبيلة، مقدِّمًا نفسه هذا الفارس: «وعليَّ سابغة كأن قتيرها/ حدق الجنادب، ليس فيها مطمع». فقال له العباس: «... لعمري، لا أشتم أباك، ولا أمك، ولكن رامٍ سوادك بما فيك»، وقال فيه: «هم سوَّدوا هجنًا...». فردَّ خفاف، وردَّ العباس، في قصائد تمثل نقائض، كان خفاف يفخر فيها بفروسيته وقيمها المختلفة عن قيم الآخر. شعره هذا جعله يتخذ موقعًا مهمًّا في تاريخ الشعر العربي، فوضعه ابن سلام في الطبقة الخامسة من الشعراء، ووصفه الأمدي بأنه شاعر مجيد، واختار له الأصمعي أربع مقطوعات، ومحمد المبارك خمس مقطوعات.

السُّليك بن السُّلكة 
السُّليك بن عمير السعدي التميمي (ت. 606م). لقبه الرئبال، أي الأسد. كان من أشدّ فرسان العرب، وأنكرهم، وأشعرهم، وأدلّ الناس بالأرض وأعلمهم بمسالكها، وأجودهم عدوًا على رجليه، ومن العدائين الذين لايُلحقون، فقيل: «أعدى من السليك». اعترف به أبوه، فلم يكن عبدًا، لكنه عاش حياة بائسة، فإضافة إلى سواد لونه، كان فقيرًا، نحيلًا دميمًا، أفقم، وكثيرًا ما كان يُسخر منه، ويُستهزأ به ويُحتقر. كان وعيه لواقعه يعذبه. رأى خالاته السوداوات الإماء، فقال: «أشاب الرأس أني كل يوم/ أرى خالة وسط الرحال/ يعزّ عليَّ أن يلقين ضيمًا/ ويعجز عن تخلصهن مالي»، فأفضت به تجربته المعيشة إلى وعي ذاته، وتبلور هوية الأنا لديه، المتمثلة بقوله: «هزئت أمامة أن رأت بي رقَّة/ وفمًا به فقمٌ وجلدٌ أسود/ أعطي، اذا النفس الشعاعُ تطلَّعت/ مالي، وأطعن والفرائص تُرْعد». وإذ تبلورت أناه، رفض واقعه وتمرد، وخرج على الآخر، المتمثل بمجتمع عصره، فكان، كما وُصف، بعيد الغارة، كالليث الضاري، شريدًا، يسطو على الأموال والأعراض، وقال مسوِّغًا خروجه: «وما نلتها حتى تصعلكتُ حقبة/ وكنت لأسباب المنية أعرف/ وحتى رأيت الجوع بالصيف ضرَّني/ إذا قمت تغشاني ظلال، فأُسْدِف - تظلم عيناه من الجوع -». وإذ كان يسطو على الآخر/ المجتمع، فإنه كان يرى لديه فقرًا إلى الحصان، كما رأينا ذلك لدى عنترة، فرثا حصانه الفحام، وجاء في رثائه له قوله: «وما يدريك ما فقري إليه/ إذا ما القوم ولُّوا أو أغاروا». وقد جعله التعبير عن هذه التجربة الفريدة شاعرًا مشهورًا، كما وصفه الاَمدي، مع أنَّ شعره كان مقطوعات قصيرة، وروى شعره خمسة رواة.
 
في الختام 
وفي الختام، يمكن القول: إنَّ الشعراء الأغربة، في العصر الجاهلي، عاشوا تجربة فريدة، قوامها رفض تهميشهم، والتمرد على مجتمعهم، والخروج عليه، والسعي إلى تحقيق ذواتهم، وقد تمثلوا هذه التجربة ومثلوها شعرًا متميِّزًا ينشد فيه الشاعر بضمير الأنا الفرد لا الجماعة، ويرى إلى العالم وقضاياه، من منظور تشكله قيم فروسية مختلفة عن القيم السائدة في مجتمعه ■