عجاج نويهض مؤرّخ الحركة العربية

عجاج نويهض مؤرّخ الحركة العربية

   ذات يوم من نهاية سبعينيات القرن الماضي، والحرب اللبنانية في أوج استعارها، ومن على سرير المرض في بلدته الجبلية رأس المتن، أودع العلامة المؤرخ عجاج نويهض ابنته بيان صندوقًا من الكرتون، وطلب إليها أن تحمله معها إلى بيروت وأن تحافظ عليه، حتى إذا ما قامت بفتحه، بعد حين، أدركت سبب إيداعها تلك الأمانة الثقيلة، ذلك أن الصندوق كان يحتوي على مراسلات الأب وأحاديثه مع رجالات الحركة العربية، في الثلث الأول من القرن العشرين.

 

فهمت الابنة الرسالة، وعزمت على تنفيذ مضمونها، حتى إذا ما وضعت الحرب أوزارها في بداية التسعينيات، قامت بطباعة محتوى الصندوق تمهيدًا لنشره في كتاب، غير أن الظروف لم تكن مؤاتية في حينه. وكان عليها أن تنتظر، حتى أواخر العقد الثاني من القرن الجاري، لتقوم في العام 2017 بقراءة المحتوى وتدقيقه وتحقيقه وإعداده للنشر. 
وكان على ذلك المحتوى أن ينتظر حتى العام 2022 ليبصر النور، تحت عنوان «أحاديث ومراسلات عجاج نويهض / الحركة العربية (1905- 1933)»، كتابًا أنيقًا محقّقًا، مزوّدًا بأربع وعشرين وثيقة مصوّرة، ومذيّلًا بفهرس علمي، ما يجعل منه مرآة لنشاط صاحبه القومي، وضوءًا على مرحلة تاريخية حرجة، ويُضاعف الفائدة المرجوة منه. 

العلم والعمل
وُلِد عجاج نويهض، كما يُستفاد من مذكراته التي أملاها على ابنته بيان، في قرية رأس المتن اللبنانية سنة 1896، بدأ الدراسة في مدرسة القرية، وتابعها  في مدرستي برمانا وسوق الغرب، وأتمّها في مدرسة الحقوق التي أنشأتها حكومة فلسطين في القدس سنة 1921، وتخرّج منها في العام 1925. على أنّ انخراطه في الشأن العربي العام سبق تخرّجه بسنوات، فكان من أوائل اللبنانيين الذين وصلوا إلى دمشق في العام 1918، وحقّق أمنيته بالعمل في أوّل حكومة عربية فيها، حتى إذا ما احتُلّت دمشق من قبل الفرنسيين، يمّم شطر القدس ليتابع انخراطه في هذا الشأن ويخدم قضية العروبة من مواقع مختلفة. تراوحت بين الصحفي والحزبي والإداري والإذاعي والبحثي؛ فأنشأ مجلة «العرب»، وأسّس مع آخرين حزب «الاستقلال»، وشارك في أعمال المؤتمر الإسلامي العام، وترأس القسم العربي في دار الإذاعة الفلسطينية، وأدار الإذاعة الأردنية الهاشمية في رام الله، وترجم «حاضر العالم الإسلامي» للوثروب ستودارد وحقّقه بالتعاون مع الأمير شكيب أرسلان، وانصرف للبحث والكتابة منذ خريف 1951، حتى إذا ما أزف العام 1959، عاد إلى مسقط رأسه في رأس المتن ليتابع نضاله الثقافي والفكري إلى حين رحيله عن هذه الدنيا في 25 يونيو 1982.

القضية العربية 
وهكذا، يكون نويهض قد أمضى سحابة عمره في خدمة القضية العربية التي استحوذت على جُلّ اهتمامه. ولعل إطلاق عنوان «ستون عامًا مع القافلة العربية» على مذكّراته التي صدرت في العام 1993، بعد أحد عشر عامًا من رحيله، يشكّل خير تعبير عن هذا الاستحواذ. على أن هذه المذكرات التي أملاها المؤرخ على ابنته بيان، بعد أن أربى على الثمانين من العمر، تتكامل مع الأحاديث والمراسلات التي أجراها مع رجال الحركة العربية الأوائل بين عامي 1953 و1955، وهو في الخمسينيات من العمر، وتشكّل معها سيرة المؤرخ الخاصة وشطرًا من تاريخ الأمة العام. والمفارق أن المذكّرات سبقت الأحاديث والمراسلات إلى النشر بحوالى ثلاثة عقود، رغم أن هذه الأخيرة سبقتها إلى الكتابة بثلاثة عقود. 

الأحاديث والمراسلات
بالعودة إليها، لا بدّ من الإشارة إلى أن «أحاديث ومراسلات عجاج نويهض / الحركة العربية (1905- 1933)» التي ائتمن ابنته عليها، ذات يوم من نهاية سبعينيات القرن الماضي، لم تكن معدّة للنشر بالصيغة التي نُشِرت بها، ذلك أن المؤرّخ أجراها في سياق السعي إلى تأليف كتاب تاريخي مرجعي يؤرخ فيه «للحركة العربية وثورتها الكبرى ومسيرتها وشهدائها»، على حدّ تعبير ابنته الدكتورة بيان نويهض الحوت في مقدمة الكتاب (ص 31)، غير أن الظروف لا تجري بما تشتهي سفينته، ويرحل عن هذه الدنيا قبل أن يبصر مشروعه النور، لتأتي الابنة وتحقّق مشروع الأب، بعد نيّفٍ وأربعة عقود من هذا الرحيل. فتصدر الأحاديث والمراسلات، بعد تدقيقها وتحقيقها، كما هي، بينما كان الهدف من إجرائها، في الأصل، أن تشكّل مادة أولية ينطلق منها المؤرخ في تأليف كتابه المرجعي، وإذا بهذه المادة الأولية تتحوّل إلى كتاب، تتمظهر فيه الحركة العربية، بين عامي 1905 و1933، في تمظهرات مختلفة، تتراوح بين العمل السياسي، السرّي والمعلن، في الحدّ الأدنى، والعمل العسكري المقاوم للدولة العثمانية والانتداب الفرنسي، في الحدّ الأقصى، وما بين الحدّين من إنشاء جمعيات، وتأسيس أحزاب، وإصدار صحف، وجمع تبرّعات، وإجراء اتصالات، وتنظيم مؤتمرات، وغيرها.

المادة الأولية
المادة الأوّلية الخام في الكتاب تتألف من أحاديث ومراسلات أجراها المؤرخ مع إحدى وثلاثين شخصية، عربية وغير عربية، من رجالات الحركة العربية ومقرّبين منهم، بين عامي 1953 و1955. وتتوزّع هذه الشخصيات على تسعة لبنانيين، تسعة سوريين، تسعة فلسطينيين، أربعة أردنيين، وتركي واحد. وبذلك، تقتصر المادّة الأوّلية الخام على شخصيات من المشرق العربي وحده. ولعل السبب يعود إلى أنه كان مهد الأحداث، في مرحلتي الخلافة والانتداب، في اللحظة التاريخية المعنيّة. على أن تشكيل المؤرخ هذه المادة لا يعتمد الآلية نفسها في الأحاديث والمراسلات.

أدب الحوار
في الأحاديث، أجراها المؤرخ في خمسينيات القرن العشرين في عمّان وبيروت ودمشق وجبل العرب. بدأها مع فايز الشهابي، وأنهاها مع نصري سليم. وبين البداية والنهاية كانت ثمة أحاديث مع لطفي الحفار وسلطان الأطرش وسليم عبدالرحمن ومحمد الشريقي وموسى الكيالي وعادل جبر وسعيد الصباغ ومحمد علي العجلوني ونسيب البكري وعوني عبد الهادي وغيرهم. على أن الحديث مع الشخصية الواحدة قد يحصل في جلسة واحدة، في الحدّ الأدنى، كما هي الحال مع تيسير ظبيان وأحمد طهبوب وعبدالرحمن إرشيدات، وغيرهم، وقد يمتد على أربع عشرة جلسة، في الحدّ الأقصى، كما هي الحال مع عبدالستار السندروسي. وهذه الأحاديث تهدف إلى جلاء الحقيقة وإلقاء الضوء على سيرة الشخصية، من جهة،  وإماطة اللثام عن مرحلة تاريخية شاركت فيها من موقع الانخراط في أحداثها أو الشهادة عليها، من جهة ثانية. يقوم السائل بطرح الأسئلة الهادفة المتنوعة ويترك للمجيب حرية الإجابة دون مقاطعة. وفي حين قد يقتصر السؤال على سطر واحد أو بضعة أسطر، يأتي الجواب ليملأ بضع صفحات أو أكثر. وهكذا، تشكّل الأحاديث درسًا متقدّمًا في أدب الحوار، ينضح بالاحترام المتبادل بين المحاوِر والمحاوَر، ويرقى بالحوار إلى مستوى أخلاقي رفيع، أين منه البرامج الحوارية التلفزيونية، هذه الأيام، التي تنزلق بالحوار إلى الدرك الأسفل، وتحوّله إلى ساحة صراع بين المتحاورين؟
أمّا المراسلات فتجري بين المؤرخ، المقيم في عمان أو رأس المتن، وثماني شخصيات، لبنانية وسورية، تقيم في حلب أو القاهرة أو بيروت أو دمشق أو عمان. أمّا اللبنانيون فهم: عبدالله الخليل، حسن علي الخليل، سعيد حيدر ووداد محمصاني الدباغ. وأمّا السوريون فهم: عبدالرحمن فاضل الكواكبي، محب الدين الخطيب، محمد كامل القصاب وفخري البارودي. وفي هذه المراسلات يتمّ تبادل الرسائل بين المؤرخ والشخصية. والرسائل، كما الأحاديث، تنضح بالود والتقدير، وتشتمل على ما يرغب المؤرخ في معرفته، من جهة، وعلى ما تدّخره الشخصية من ذكريات ومشاهدات ومسموعات، من جهة ثانية. 
 
أصول التحقيق
هذه المادة الأوّلية الخام، بأحاديثها والمراسلات، تخضعها بيان نويهض الحوت لمختبرها الأكاديمي، فتقوم بتحقيقها مبيحةً لنفسها هامشًا كبيرًا من التصرّف، يجعلها تتجاوز أصول التحقيق في بعض الأحيان. ولعلها تفعل ذلك انطلاقًا من كونها ابنة المؤرّخ وحرصها على تقديم المادة المحقَّقة بأفضل صورة ممكنة، وبهذا المعنى تأتي الغاية لتبرّر الوسيلة. لذلك، تقوم بحذف ما لا يمتّ إلى الموضوع بصلة، وتضيف المطالع التوضيحية، وتضع العناوين الفرعية، وتتدارك الأسئلة غير المطروحة، وتدوّن الشروحات والتعليقات المناسبة. ولعلها تتخطى مهمة المحقق الأكاديمية في بعض هذه الإجراءات غير أنها تثبت أنها ابنة أبيها في حرصها على تنقية العمل من بعض الشوائب وتقديمه بأفضل حلّة ممكنة. ويندرج في باب التخطّي المستحب قيام المحقّقة بإضافة فصل خاص بأبيها، مُسْتَلٍّ من مذكراته المعنونة بـ «ستون عامًا مع القافلة العربية»، إلى المادة الأوّلية للكتاب، يشكّل شهادته على تلك المرحلة. ويندرج في الباب نفسه قيامها بإضافة خاتمة تخلص فيها إلى نتائج معيّنة. وبذلك، يصبح عدد الشخصيات اثنتين وثلاثين شخصية. 

وقائع واستنتاجات
لا تستقيم قراءة الجهد الكبير الذي قام به المؤرّخ، في إطار سعيه لوضع كتاب تاريخي مرجعي لحركة القضية العربية في بدايات تشكّلها، ما لم نتوقف عند وقائع تاريخية ونتائج مهمة تمخّض عنها هذا الجهد. وإذا كان المقام لا يتّسع للإحاطة بها كلّها، فحسبنا الإشارة إلى بعضها رغم أن البعض لا يُغني عن الكل في تقصّي الحقيقة التاريخية. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى: 
- أن «أولى الجمعيات السرية التي دعت إلى إحياء مجد العرب هي جمعية «الشبيبة العربية» السرية، وأنها قد تأسست في سنة 1905»، وأن الذين أنشأوها هم: اللبنانيان عبد الكريم قاسم الخليل وعارف الشهابي، والسوري محب الدين الخطيب، والعراقي حمدي الباجه جي (ص 34).    
- أن عبدالرحمن الكواكبي هو «أوّل من تمتّع بالقدرة على الفصل بين القومية والدين، وأوّل من طرح العروبة بمفهومها النابع من أصالة التاريخ»، مستندًا إلى مفهومي العروبة والإسلام (ص 40).        
- أن سلطان باشا الأطرش أوّل من رفع العلم العربي على بيته في ربيع 1917، وأوّل من رفعه على دار الحكومة في دمشق في 30 أيلول 1918 (ص 510، 511).
- أن الشهيد عبدالكريم الخليل لعب دورًا محوريًّا في بدايات الحركة العربية وشغل حضورًا واضحًا في «الأحاديث والمراسلات»، وأنه «يكاد يكون من الرهبان والقدّيسين الذين نذروا أنفسهم للقضية العربية وفنوا فيها» (ص 584). 
- وأنّ...، وأنّ...، وأنّ...، ممّا لا يتّسع المقام لذكره.
وبعد، «لا تقتصر الأحاديث والمراسلات على المادة التاريخية، بل تشمل طبيعة الشخصيات والنفسيات والعلاقات الإنسانية والاجتماعية»، على حدّ تعبير مُعِدّة الكتاب في الخاتمة (ص 579). وهي تشتمل على «الكثير من الذكريات والمواقف والنظرات في مواضيع لا تخطر بالبال، ويصعب أن تجدها في الكتب، غير أنّها بكلمات دقيقة ليست تاريخ الحركة العربية، بل هي الشهادات التي تساعد غدًا في كتابة تاريخ الحركة العربية...»، على حدّ ما ورد في إجابة المؤرّخ نفسه على سؤال صديقه المؤرخ عمر الصالح البرغوثي، في 27 مارس 1963. ومع هذا، يبقى عجاج نويهض أوّل من أرسى اللبنات الأولى لتأريخ الحركة التي سار في قافلتها ستين عامًا■