التخييل المضاعف المخرج الإسباني كارلوس ساورا يصور تحولات «كارمن» المدهشة

التخييل المضاعف المخرج الإسباني كارلوس ساورا يصور  تحولات «كارمن» المدهشة

«كارمن» هو عنوان قصة كتبها الأديب الفرنسي بروسبير ميريمي Prospère Mériméé سنة 1847. وقد تمت استضافة هذه القصة في أكثر من ثقافة وسياق إلى أن أصبحت عملاً أدبيًا كلاسيكيًا أسرت تلويناته وصيغه المتعددة متلقين من مختلف الشرائح والانتماءات لم يترددوا في أن يعلنوا انبهارهم بعوالمها، ورددوا، وكأن الأمر يتعلق بتعويذة، ذلك البيت الشهير الذي تغنى به جورج بيزي Georges Bizet حينما استلهم قصة كارمن في واحدة من أشهر إبداعات فن الأوبرا: «الحب طائر متمرد/ ولا أحد بإمكانه أن يجعله أليفا».

 

إن «كارمن» حكاية ذات بعد كوني، وهي تجسد ذلك التقابل الغريزي ما بين الحرية وما بين الانجذاب الجارف نحو الجنس الآخر، وقد تم الاحتفاء بمضامينها في المحافل الراقية والأوساط الشعبية، وفي أفلام لقيت اهتمامًا استثنائيًا وقعها مخرجون مرموقون مثل الإيطالي فرانشيسكو روزي F.Rossi أو الفرنسي جان لوك غودار J.L.Godard، وكذا الإسباني كارلوس ساورا Carlos Saura الذي رحل مؤخرًا عن عالمنا والذي أهدانا في سنة 1983 فيلمه الرائع والقوي «كارمن» (1983) الذي سنتوقف عنده بالتحليل في هذه الورقة.
 
«كارمن» التي تسللت إلى فيلم كارلوس ساورا
يبتدئ فيلم «كارمن» بحركة هادئة للكاميرا وهي تتملى أجساد نساء رشيقات يرقصن رقصة فلامنكو أنيقة، ويتنافسن لكي يختار الراقص الشهير أنطونيو كاديس، الذي احتفظ في الفيلم باسمه الحقيقي وبمهاراته الفنية، من ستقوم من بينهن بدور كارمن في المسرحية الغنائية التي يشرف على إخراجها، والتي نحن مدعوون طوال الفيلم لأن نشهد شريط إنجازها The making off. وهكذا سنكون إزاء بنية مضاعفة تتضمن أهم الوقائع التي تحكي عنها قصة «كارمن» كما تخيلها ميريمي، ووقائع أخرى اختلقها المخرج كارلوس ساورا ومن معه. 
لقد قدم سارد قصة «كارمن» نفسه بصفته عالم حفريات يبحث عن موقع أثري ما بإقليم الأندلس الإسباني. لذا فإنه كان حريصًا على وصف الأمكنة بدقة وعلى تقديم وفرة من التعليقات التاريخية بوفرة. وخلال بحثه الذي كان يجريه سنة 1830، التقى هذا السارد بخوسي ماريا ونشأت بينهما علاقة إنسانية راقية، خاصة بعد أن تخلص هذا الأخير من الجنود الذين كانوا يتعقبونه. بعد ذلك التقى السارد بكارمن، وعبرها التقى مجددًا بخوسي ماريا الذي حُكم عليه بالإعدام، والذي سيحكي لنا قبل أن يُعدم نتفا من حياته وكل شيء عن كارمن وعلاقته بها. وسنعلم أن خوسي ماريا هو من منطقة الباسك الإسبانية، وأنه التحق بسلك الشرطة بإشبيلية حيث وجد نفسه بفعل مصادفات لم تكن كلها في صالحه مجبرًا على أن يسهل لكارمن مأمورية الهرب من مخفر للشرطة بعد أن تم القبض عليها بسبب تهجمها على زميلة لها بمصنع للتبغ. وكارمن، كما وقع الإجماع على ذلك، هي غجرية ساحرة ومثيرة وذات شخصية قوية وآسرة، وهي تلحق اللعنة بالرجال الذين يقتربون منها. واعترافًا منها بالجميل، عاشت مع خوسي ماريا علاقة قصيرة لكنها ملتهبة. ولم يستطع هذا الباسكي المرهف الإحساس أن ينساها خاصة بعد أن انقلبت حياته رأسا على عقب، وبدأ يشتغل بالتهريب وارتكب أكثر من جريمة إلى أن انتهى به المطاف إلى قتل كارمن نفسها بعد أن تبين له أنها هجرته لترتبط بمصارع ثيران مشهور. 

حكاية أخرى
ويمكن أن نسجل أن فيلم كارلوس ساورا قد كان أمينًا في نقله لفقرات من قصة «كارمن» شخصها الممثلون الذين يتدربون على المسرحية الغنائية. وقد حرص المخرج على أن يحتفظ بعضهم، في ارتباط مع الأدوار التي يؤدونها، بأسمائهم الحقيقية كما هي الحال مع الراقص أنطونيو كاديس Antonio Gades والراقصة كريستينا هويوس Cristina Hoyos والموسيقار وعازف الغيتار باكو دي لوسيا Paco de Lucia مما خلق لدينا حيرة والتباسًا لذيذين، وجعلنا نشعر بأن الوقائع التي تُقترح علينا يتم تغريبها بالمعنى الذي منحه المبدع والمنظر المسرحي برتولد بريخت B.Brecht لتقنية التغريب. وسوف تبرز، بموازاة كل ما سبق، تفاصيل حكاية أخرى تشكلت تفاصيلها معتمدة على قدر كبير من التشويق. يتعلق الأمر بقصة أنطونيو مع راقصة فلامنكو اسمها هي الأخرى «كارمن»، ونتساءل نحن: هل كارمن هاته التي جاءت متأخرة لحصة التدريب التي يشرف عليها أنطونيو هي كارمن المنتمية لقصة ميريمي؟ أم شخصية اختلقها كارلوس ساورا؟ أم هي مزيج بين الشخصيتين؟ وتطورت الأحداث، ونشأ صراع صامت وشرس بين كارمن هاته وكريستينا هويوس التي كانت تعتبر الراقصة الأولى في فرقة أنطونيو، وجسدتا ذلك الصراع رقصًا، وكانت الغلبة لكارمن التي حصلت على الدور الرئيسي في المسرحية، لأن أنطونيو عثر في ملامحها على سحر خاص كان يبحث عنه وإن كان عاجزًا عن تحديد ماهيته، كما أنه تعلق بها بشكل قوي. وسنعاين بعد ذلك مشهد الشجار بين كارمن وكريستينا في مستواه الثاني أي المسرحي، إذ اعتدت الأولى على الثانية وهي تؤدي دور زميلة لها في مصنع التبغ، واقتادها أنطونيو، الذي شخص دور العسكري، إلى السجن، ليزداد تعلقا بهذه الغجرية التي تقبل أن تربط بينهما علاقة حميمة، بعد أن ساعدها على الهروب من قبضة العسكر، لكنها رفضت أن يعيشا معًا أو أن يتحكم في سلوكها خاصة بعد خروج زوجها من السجن، فاستبدت بأنطونيو غيرة قاتلة جعلته يطعن معشوقته بعد مشادات عنيفة. واستمرت المسرحية وتواصل الحفل الصاخب أمام اندهاشنا وتساؤلنا حول من تكون كارمن هاته التي شاهدنا موتها. 

انتقالات فجائية
ومن الواضح أن الرقص والموسيقى معطيان جماليان أساسيان في تلقي هذا الفيلم، حيث تتداخل أنغام الفلامنكو مع موسيقى أوبرا بيزي المستلهمة وتتحاوران بإبداعية لخلق جو من البهجة والفرح، كما أنه عمل يضج بالألوان والحياة والتشكيلات الفنية بالرغم من أن أغلبية المشاهد يتم تصويرها بفضاءات مغلقة، وهو يستثمر جيدًا التوازي والتضعيف اللذين يسمان حكاية كارمن وعاشقها أو عشّاقها وكأن المخرج كارلوس ساورا قد قرأ العمل الأدبي الذي اتخذه منطلقًا لإبداعه السينمائي ثم نسيه، وبعد ذلك تذكره واستحضر أجواءه بشكل محور ومكثف كما يحدث في الأحلام. 
وسوف تتم انتقالات فجائية من القصة إلى المسرحية التي نتتبع إعدادها في الفيلم مما يمنح هذا الأخير شحنة ذهنية ممتعة تحفز المتلقي على محاولة ضبط حدود التداخل بين القصة والمسرحية، ومحاولة التغلب على الشكوك التي ترتابه، ويصبح الاستمتاع مضاعفًا والتخييل هو الآخر مضاعفًا، وتلك هي إحدى الموضوعات التي يتأملها هذا الفيلم بذكاء وبإبداعية مبرهنًا على أن العلاقة بين السينما والأدب قد تكون مثمرة وقد تكون إخصابًا وإثراء للمعاني والعوالم التي يتضمنها العمل المنطلق لأنها تمنحه تحققًا وحياة إضافية، وتجعله يحقق انتشارًا أوسع وتتيح له إمكانية معانقة نداءات الحرية والجمال ■