مُواجهة الذَّات في حَدِيقَة حَيَوَان الإنسان

مُواجهة الذَّات  في حَدِيقَة حَيَوَان الإنسان

صنبور الماء الذي تفتحه في الصباح لتغسل وجهك مع قليل من الصابون هو نعمة، رشاش الماء الذي يتساقط عليك ويغمر جسدك بالراحة والطراوة نعمة، الخبز الساخن مع قطعة الجبن وقليل من الزبد مع طبق فول نعمة، قميصك النظيف نعمة، حذاؤك المناسب لقدمك نعمة، الهاتف الذي تحمله ليصل بينك وبين العالم نعمة، صديقك نعمة، زوجتك التي توقظك في الصباح وتقول لك صباح الخير نعمة، ستدرك كل هذا بعمق، وتعرف أن كل ما تملكه في الحياة نعمة، مهما كان صغيرًا وبسيطًا، حين تفتح الشاشة وتشاهد فيلم Human Zoo (حديقة حيوان الإنسان) أخرجه جون إي سيمور وشارك في كتابته مع جون د. كروفورد. 

 

في البدء كانت اللعبة، تحدث لنا غاية الإثارة من تتبُّع مجموعة من المتسابقين يجلسون في نتيجة الاختبار فتدخل عليهم فتاة، يبدو عليها القساوة، وتختفي الابتسامة عمدًا من ملامحها، تقول دون مشاعر ظاهرة على كيانها: «كونوا جاهزين عندما ندعوكم، نحن نتحرك بسرعة كبيرة وليس لدينا وقت لانتظاركم»، ندرك ساعتها أن هذه المجموعة ستدخل لعبة سجن انفرادي من أجل الحصول على مليون من الدولارات، قام كل شخص بتعريف نفسه للقائمين على المسابقة، ومدى قدرته وتحمله العصبي للمكوث بالسجن الانفرادي، وكيف أنه سيتمكَّن من استخدام كل قدراته النفسية والعصبية في أن يفوز ويخرج آخر المتسابقين من الحبس، وسيكون له الحق في المليون دولار، وربما أفاض في شرح الأسباب التي جعلته يريد خوض تجربة السجن الانفرادي من أجل الدولارات.
مقدمة التعرُّف على شخصيات المتسابقين ضرورية للسير الدرامي للفيلم؛ لأننا سنتعايش مع كل المتسابقين في غرف انعزالية، لذا وجب أن يكون لدينا بطاقة تعريفية في سياق الحدث حتى نستطيع أن نتجاوب مع شخصياتهم داخل الحبس، وكي يمكننا إدراك التغيرات التي ستحدث في أعماق كل شخصية.
في تجربة الحبس الانفرادي أنت ونفسك، أنت في الغرفة وحيدًا، تصارع أوهامك وحياتك السابقة، ستكتشف قدراتك التي تدعيها من السيطرة على ذاتك، سترى نفسك في مواجهة ما تزعمه عن نفسك، فقط أنت ونفسك في المواجهة مع الجدران الصماء. 
ونلاحظ بغرابة شابًا يقف أمام من يديرون المسابقة، بريئًا، يبدو وجهه صافيًا لا يحمل أي تعقيدات، يرتدي الأخضر الخفيف، سماحته كَفِيلة بأن تُكْسِبنا التعاطف معه من أول وهلة في وجهه وعينيه الواثقتين، كان مختلفًا عن الجميع، ورفض هذه الطريقة التي يعاملونه بها كمتسابق، فهم لم ينظروا في عينيه أثناء الحديث معه، وكأنه غير موجود، كأنهم يتعاملون مع أرنب تجربة، ثم إنه لم يقبل أن يتم تقديم المليون دولار له كجزرة لَعِينة، وقال للقائمين على المسابقة: «بصراحة أنتم تشيرون بالمليون دولار وتقولون اقفز، الأرنب، اقفز»، ورفض أن يكون أرنبًا في اللعبة، وقالها واضحة: «لست أرنبكم». 
لقد خرج من اللعبة قبل البدء، اختار ألا يقع في تجربة، ألا يكون محل اختبار مُقابل حفنة من الدولارات، ووضعنا نحن المشاهدين أمام تساؤل إذا كنا مكانه في التجربة هل كنا سنقبل الحبس الانفرادي من أجل مليون دولار؟ يبدو أن وجود هذا الفتى منذ البداية كان ضروريًا ليكسر قيمة المليون دولار مقابل قبول الحبس. 
وصدرت من القائمين على المسابقة كلمة واحدة «يا للهول» وكأنهم يستغربون من وجود من يفكر بهذه الطريقة ولا يهتم لمليون دولار، لكن بدا في أعينهم أنهم يدعمونه من داخلهم، لقد خرج ووضع في قلب المشاهد جزءًا من الحيرة. 

على حافة رحم التجربة
حين دخلنا التجربة كان لزامًا علينا أن نقبل كل شروطها، ليست هناك فرصة للعودة إلى المنزل لإتمام بعض الأمور المعلَّقة، عليهم التخلي عن كل حياتهم السابقة، وتحمُّل كل ما سوف يتعرَّضون له مُقابل فرصة وحيدة للحصول على مليون دولار، ونعلم أن لكل منهم أسبابه الحياتية الخاصة في خوض التجربة للحصول على الأموال للخروج من حياته التي يعيشها الآن والتي يشعر أنها ناقصة غير مكتملة، سيدخل كل منهم التجربة من أجل حياة جديدة بعيدة عن حياته السابقة التي يرفضها في أعماقه، ويتمنَّى الخلاص منها؛ ولن يفعل ذلك سوى مليون دولار، بها تتبدَّل حياته، ويتحقق الحلم.
حين ظهر هيلارد ماي، صانع ومنتج السجن الانفرادي وابتسم للمتسابقين علمنا أنه سيشاهدهم من خلال كاميرات خاصة، سيتابع كل تحركاتهم، وبالتالي سيكونون عرايا الروح أمامه، يتابعهم وهو يشرب قهوته ويعرف أدقّ التفاصيل النفسية لهم.
وضعوا الأكياس القماشية على رؤوس المتسابقين، فصاروا بلا بصر، لا يعرفون أين يتجهون، ولا المكان الذي ستكون فيه التجربة، لقد جرَّدوهم وصاروا كما ولدوا من جديد في رحم التجربة، لقد تخلصوا من ملابسهم، ومن كل ما كان وراءهم، وارتدوا ملابس متشابهة، دخلوا الحبس الانفرادي الذي لا تتجاوز مساحته المترين، ليس به سوى قطعة فرش للنوم على الأرض، وجردل للتغوط، وهم الآن في مواجهة الذات.
في هذا السجن الانفرادي ستعيش تجربة سينمائية مختلفة، ستتابع حالة مونودراما لكل شخصية من الشخصيات التي تعرفنا عليها في بداية الفيلم، ستراه وهو يحدِّث نفسه، أو يحدِّث الحائط، أو يتكلَّم مع الكاميرا التي لا يعرف إن كان مَنْ وراءها يسمعه أو لا يسمعه، سيذكر الشخص الذي نتابعه تاريخه الشخصي، ستعرف ما يحب، وما يكره، إنها حالة مونودراما خالصة، هذا سيحدث مع كل المتسابقين، يتعرضون للظروف نفسها، لكن يبقى الأمر المختلف، الإنسان من داخله، قدراته وأحلامه ونقاط ضعفه، سترى كل شخص على حقيقته وهو في مواجهة نفسه، سترى المونودراما المتعدِّدة والمتشابهة في الوقت نفسه، فقط أنت من يتابعهم، معك من يراقبهم عبر قنوات الإنترنت، وصاحب التجربة الذي يشاهدهم عبر الكاميرات الخاصة ويبتسم. 
تستطيع عن طريق المونودراما أن تحدد وترصد كل شخصية بمفردها، أن تتعرَّف على دواخلها، وأن تعرف نقاط ضعفها، وأن الإنسان الذي كان يزعم أنه خارق القوة والقدرة على التحمُّل يبدأ في التكشُّف وتظهر نقاط خوائه.
ستتابع الشخصيات بكل معطياتها النفسية والجسدية، وهي تدرك أنها مراقبة، مرصودة الحركات، وأن الجميع يشاهدونها، التجربة داخل الحبس واقعة بين الانفراد والتَّعري، فكل الشخصيات داخل الحبس مكشوفون للجميع، لن تصدر صوتًا إلا وسيعلمه الجميع، أنت تعلم أنك مراقب، فكيف تكون حرًا في مواجهة ذاتك، إنها الوحدة أمام ذاتك العارية أمام الآخرين.

فقد طعم الحياة
في مستهل الحبس الانفرادي نشاهد كل شخصية تبدأ في استعراض قدراتها؛ لتثبت أنها ذات قدرات خاصة للحصول على الدولارات، يستهين المتسابقون بالحبسة ويقول كل منهم لنفسه وللكاميرات إنه سيكون آخر من سيخرج، وسيحصل على المليون دولار، يزعم أنه قادر على تحمُّل الطعام الواحد، الشوفان المجروش، وتحمل المراقبة. 
وتستمر المقاومة أمامنا نحن المشاهدين في صراع داخلي، وفي لحظة ما تخصّ كل متسابق، تبدأ كل شخصية تكتشف داخل الحبس الانفرادي أن حياتها التي تركتها وراءها بكل معطياتها وكل عيوبها هي حياة ثمينة، وأنها لم تكن تدرك قيمة الحياة التي تعيشها، وأنها الآن تفتقد لطعم الحياة الحقيقية، وأن المليون دولار لا تساوي قطعة البيتزا التي تتناولها في مطعم، تدرك أن كوب شاي ساخن الآن يمثل منتهى الرغبة في الحياة، حتى مداعبة القطة مفتقد داخل الوحدة والانفراد والعزلة والمراقبة وضياع الخصوصية، أين الزوجة، والأخ، والصديق، أين العالم؟ المليون دولار لا تساوي شيئًا مقابل هذا الفَقْد. 
لقد اكتشفنا في النهاية قيمة الأشياء البسيطة التي نمتلكها، قيمة النعمة الممنوحة لنا ولم نكن نقدرها بما تستحق، أشياء كثيرة بين يدينا ولكننا لم نكن نستمتع بها، لقد كنا نفتقد قيمة الحياة، وما إن رأينا الحالة التي وصل إليها المتسابقون في الحبس الانفرادي، حتى أدركنا نعمة الوجبة الساخنة، وقيمة الوقوف في الشرفات، وأدركنا أن لنا أهلًا وأصدقاء لا يمكن تعويضهم بملايين الدولارات، إذا افتقدناهم، وابتعدنا عنهم. 
إنهم يتحدثون لمخفي وراء الكاميرات لا يشعر بهم، يتعاملون مع من يراهم ولا يرونه، أي عذاب أن تعرف أنك مُراقب، وأنك وحيد في الوقت نفسه، أن تعرف أنك مكشوف ومفضوح أمام العالمين، عبر شاشات الإنترنت، وأنه ليست لك أي خصوصية في الوقت ذاته. 
مع هذا الكشف تنهار كل شخصية حسب قوة تحملها، وتستسلم وترفع يديها تريد الخروج من التجربة، وتُصْدَم بحقيقة أنه لا خروج من التجربة، وأنك هنا باختيارك، أنت من اخترت، وعليك أن تواصل، إذًا لقد نجا منذ البدء من رفض الدخول في التجربة، أما من دخل فيها، فلن يخرج، أنتم هنا حتى النهاية، حين تستسلم ولا يستجاب لك، تكتشف أنها ليست لعبة، كل من استسلم سيعرف الحقيقة مهما توسَّل واستعطف الآخر، لن تستطيع الخروج من اللعبة.
بعد الاستسلام، نعرف ضعفنا، ونرغب في الذهاب للبيت كي نأكل طعام الأحبَّة البسيط، وننام على سريرنا المحبوب بعمق، نريد أن نعيش حياتنا القديمة والتي لم نكن نعرف مدى قيمتها، ولم نكن نقدرها حق قدرها، الآن صار لحياتنا طعم بعد أن كنا نظنها حامضة، فلماذا لم نتذوق كل لحظة في حياتنا؟ لماذا لم نستمتع بكل ما نملك مهما كان بسيطًا؟ ■