الزلازل... المهندسون الحقيقيون لجغرافيا الأرض!

الزلازل... المهندسون الحقيقيون لجغرافيا الأرض!

حين نتأمل صورة كوكبنا الأرضي التي التقطتها المركبة الفضائية كاسيني في طريقها إلى كوكب زحل، تبدو لنا الأرض حبّةً صغيرة زرقاء سابحة في الفضاء، لندرك أننا فعلًا رواد فضائيون على متن سفينة فلكية تسير بنا في مدار حول الشمس بسرعة تفوق بمئة مرة سرعة الصوت في الهواء، وتدور بنا حول نفسها بسرعة تفوق سرعة الطائرات المدنية!!  

 

على متن سفينتنا الفلكية هذه، ينشغل البشر بصخب الحياة في برها وبحرها وجوها وباستثمار خيراتها والتمتع بمفاصل جمالاتها، إلا أنهم قليلًا ما يتعاملون بوعي ومسؤولية مع وظائفها الحيوية وتوازناتها البيئية، متناسين قوتها وجبروتها، إلى أن يصفعهم غضبها بالبراكين أو الزلازل أو الأعاصير والصواعق وموجات التسونامي.  

الأرض كوكب ناشط جيولوجيًا 
 يتمتع كوكب الأرض ببنى جوفية حارة وناشطة ينتج عن تحركها ملايين الهزات الأرضية كل عام، إضافة إلى البراكين والزلازل المدمرة، ولكن أيضًا هناك الدرع المغناطيسي للأرض الذي يحمينا من عنف الريح الشمسية وجسيماتها المشحونة فائقة الطاقة. 
هذا النشاط الجيولوجي داخل كوكب الأرض هو اليوم معتدل القوة، وربما كان في سحيق زمانها - بعد تكوينها - نشاطًا صاخبًا خلّف الصدوع الكبرى والجبال الكبرى وحفر القاع التي احتضنت البحار والمحيطات المائية. الاعتدال الجيولوجي الحالي هذا ندركه بالمقارنة مع كواكب صخرية أخرى في منظومتنا الشمسية، فالقمر وكوكبا عطارد والمريخ هي كواكب خامدة جيولوجيًا في هذا الزمن، لا تشهد زلازل أو براكين ولا تتمتع بحقل مغناطيسي يذكر إلا ما تولده المواد الحديدية التي كانت قد تمغنطت في ماضيها السحيق. ربما يعرف المريخ حاليًا بعض الهزات الأرضية تسجلها أجهزة المركبات التي هبطت على سطحه، مثل كوريوزيتي وبرسفيرينس، وقد تكون تلك الهزات ناتجة عن ارتطام نيزك ما في مكان ما على سطحه. أما كوكب الزهرة فهو شديد الاضطراب، ويشهد مئات البراكين الحية بشكل مستدام وتغمره الحمم السائلة مشكّلة أنهارًا وبحيرات من اللافا المتدفقة على سطحه، مما يجعل معدل الحرارة على سطحه يقارب الـ500 درجة مئوية، وبالتالي فهو كوكب غير مؤهّل للحياة.
والقشرة الأرضية التي ترتفع فوقها القارات والمحيطات المائية لا تصل سماكتها إلى 1 في المئة من شعاع الأرض البالغ حوالي 6400 كلم، ويمكن مقارنتها بسماكة قشرة التفاحة إلى حجمها تقريبًا. وهي ليست ساكنة ولا مترابطة ببعضها البعض، بل مقسمة بشبكة من الصدوع والفوالق إلى عدد من الألواح أو الصفائح أو الصحون التكتونية، السابحة فوق بحر لزج من الصخور المنصهرة (الماغما) فيما يعرف بطبقة الوشاح. والصفيحة التكتونية ليست بالضرورة حكرًا على قارة معينة، بل تستطيع أن تكون سريرًا لأجزاءٍ من قارات مختلفة. 
تتحرك هذه الصفائح فوق طبقة الوشاح اللزجة في اتجاهات مختلفة وبسرعات مختلفة تتراوح بين عدة ميلليمترات إلى عدة سنتيمترات في العام. وقد تصطدم أو تتباعد أو تشهد احتكاكًا انزلاقيًا جانبيًا فيشهد البشر فوقها هزات وزلازل. وقد تضعف القشرة في مكان ما فتندفع الماغما الساخنة المضغوطة لتنبثق من فجوة ما كبركان تتدفق منه الحمم الساخنة (اللافا) على السطح. 
ولتحديد الفوالق الزلزالية بين الصفائح التكتونية يلجأ الجيولوجيون إلى دراسة الطبقات الداخلية لكوكب الأرض، اعتمادًا على سرعة انتقال الهزّات الأرضية وتشوّه موجاتها وتناقص قوتها، بحسب الوسط الذي تعبره. وبات هناك في مناطق الأرض المختلفة، أجهزة استشعار للهزّات («سيسموغراف» Seismograph) تعمل على رصدها أينما ضربت، وبالتالي تتيح دراسة حال الطبقات التي اخترقتها. ويمكن أن تنعكس الموجات الزلزاليّة على الحدود التي تفصل بين طبقتين أرضيتين، مثلما تنعكس موجات الضوء على سطح المياه. ويتيح تحليل تلك الإشارات التي تسجلها الأجهزة التكهن بالتركيب الداخلي للكوكب، والتوصل لبعض الاستنتاجات حول طبقات الأرض ومواصفاتها المختلفة، إضافة إلى رسم الفوالق التي تشكل حدود الصفائح المختلفة.
إذن، فالزلازل والبراكين هي القاعدة في كوكب الأرض وليست الاستثناء، فالأرض تشهد ملايين الهزات تحت الـ3 درجات كل سنة، وآلاف الهزات بين 3 و5 درجات، وعشرات الهزات سنويًا أكثر من 5 درجات. فما دامت الصفائح تتحرك، لا بد من البشر الساكنين فوقها أن تشهد آثار تلك التحركات.
وإن كانت الزلازل والبراكين مدمّرة وقاتلة في كثير من الأحيان، لكنها اللاعب الأساسي في تشكيل تضاريس الأرض: فالزلازل ترفع الجبال وتشكل الوديان، والبراكين تجدد خصوبة التربة وتثري الغلاف الجوي بالغازات والهواء الضروري لبيئة الأرض الحيوية وحمايتها من الأشعة الخطرة والكويكبات الصغيرة. 
وقد أدّت الزلازل الكبيرة عبر الزمن إلى تغيير في جغرافية سطح الأرض. وكان اصطدام الصحون التكتونية الأسترالية والآسيوية قد أدّى إلى نتوء جبال هملايا على امتداد ملايين السنين. وبحسب «بول تابونييه»، مدير مختبر الصفائح التكتونية في المعهد الجيولوجي الفرنسي، فإن تراكم فعل الزلازل المتتالية قد شكّل كل النتوءات على سطح الأرض. لذلك فإن «تابونييه» يعتبر الزلازل بمثابة المهندسين الكبار للجغرافيا الأرضية.

هل يؤثّر ما في السماء على جوف الأرض؟!
بعد الزلزال المدمر الذي شهدته تركيا وسورية أخيرًا والذي أدّى إلى عشرات الآلاف من الضحايا وملايين المهجرين المنكوبين، كثرت أحاديث القائلين باحتمال تأثير المذنب الذي صدف أن مر في سماء الأرض أثناء هذا الحدث الجلل، وهناك من أرجع الحدث لاصطفاف الكواكب مع الأرض، وذهب آخرون إلى إعادة السبب إلى توقف قلب الأرض عن الدوران.
والمذنب المقصود الذي سمي بالمذنب الأخضر، ومدته المدارية حوالي 50 ألف سنة، كان فعلًا في أقرب مرور له في سماء الأرض في الأسبوع الأول من شهر فبراير، أي في فترة حدوث الزلزال الكارثي في تركيا وسورية. لكن المذنبات ليست نجومًا كما سماها الأقدمون (النجوم المذنّبة) بل كتل صغيرة من كيلومترات قليلة من الثلج والغبار والغازات المتجلدة تقل حرارتها عن 200 درجة مئوية تحت الصفر! وهي ليست أجسامًا طارئة بل إنها تملأ الفضاء في المنظومة الشمسية وهناك مليارات منها تدور حول الشمس في مدارات مختلفة وتقترب منها أحيانًا إلى درجة تبخر قسم من غازاتها المتجلدة وتمددها في الفضاء كذيل طويل من مئات آلاف الكيلومترات، فتصبح رؤيتها مشهدية عبر المناظير أو العين المجردة أحيانًا. لكن كتلتها القليلة بالكاد تكفي لجذب موادها وتجميعها في المدار وهي تفقد قسمًا من كتلة الذيل المتبخر في كل اقتراب لها من الشمس. لذلك فاتهامها بالتأثير الجاذبي على جوف الأرض والتسبب بالزلازل هو قول يجافي المنطق والحقائق العلمية.
أما اصطفاف الكواكب الثمانية كلها في تلك الفترة، فهو أمر ظاهري يتكرر كل بضعة عقود، لكن ما يعنينا منه بالتأثير على كوكب الأرض هو اصطفاف القمر والشمس مع الأرض، أي حين يكون القمر في مرحلة المحاق أو في مرحلة البدر. في  أي من تلك المرحلتين تكون قوة المد والجزر على الأرض في أوجها، وتشهد الشواطئ ارتفاعًا واضحًا لمستوى البحار كل 12 ساعة و25 دقيقة في حالة المد قبل انحسارها إلى حالة الجزر. 
والجدير بالذكر أن قوة المد والجزر ليست هي الجاذبية، بل فرق قوى الجاذبية على الأرض بين أطرافها على خط الجسم الجاذب! وهو أمر لا يتعلق فقط بقوة الجذب بل بالبعد عن الأرض أيضًا . فقوة مد وجزر القمر مثلًا على الأرض هي أكبر من قوة مد وجزر الشمس على الأرض بمرتين ونصف المرة، في حين أن قوة جاذبية الشمس على الأرض هي أقوى بأكثر من 150 مرة من قوة جاذبية القمر على الأرض!
ومفعول قوة المد والجزر لا يقتصر على تحرك مستوى المياه على الشواطئ صعودًا أو هبوطًا، فالمد والجزر قوة تعمل على تمطط (تمغط) جسم الأرض على خط اصطفاف القمر والشمس بمعدل حوالي 30 سنتم، أي أن اليابسة التي نقف عليها تعلو بهذا المقدار باتجاه القمر قبل ان تعود إلى وضعها السابق في مرحلة الجزر بعد حوالي 6 ساعات وربع الساعة!!
هذا التمطط والتقلص اللذان يتكرران مرتين يوميًا يعنيان أن قوة المد والجزر تزوّد قلب الأرض بطاقة جوفية تراكمية تضاف إلى الطاقات الجوفية الجيولوجية التي تحفظ حرارة قلب الأرض. 
أما قوة مد وجزر الكواكب الأخرى في المنظومة الشمسية على الأرض فهي، حتى حين اصطفافها، لا تزيد نسبتها مجتمعة عن 30 جزءًا من مليون من قوة مد وجزر القمر علينا، وبالتالي فإن هذا الاصطفاف يبقى بدون أثر يذكر على تراكم الطاقة في جوف الأرض.   
أما فيما يتعلق بما يقال عن توقف قلب الأرض عن الدوران، وهو موضوع يتعلق بتغير الحقل المغناطيسي للأرض، فالعلماء يرصدون تدنيًا بقوة هذا الحقل وتسارعًا في حركة القطب المغناطيسي في شمال الأرض باتجاه سيبيريا، كما يرصدون اضطرابًا في توزيع هذا الحقل على مساحة الكوكب وظهور أقطاب مغناطيسية ثانوية في أكثر من منطقة على سطح الأرض! ويقدّر العلماء أن تكون هذه إرهاصات لانقلاب وشيك في قطبية الأرض المغناطيسية، إلا أن توقيت هذا الانقلاب وآثاره على جيولوجية الأرض وبيئتها الحيوية ليست محسوبة تمامًا بعد، كما أن الميكانيكية التي تحكم جوف الأرض لا زالت قيد التكهن والتنظير.

هل تؤثر الأنشطة البشرية على حدوث الزلازل؟
بالتأكيد هناك عوامل من صنع البشر تزيد من احتمال حصول الهزات وقوتها. فإنشاء السدود الثقيلة في مناطق قريبة من خطوط الفوالق التكتونية يشوّه التوازنات القائمة على جانبي هذه الفوالق، وقد يبطئ سرعة الصفيحة أو يضغطها فتشوّه خط التماس مع الصفيحة المقابلة وصولاً إلى الاحتكاك أو الاصطدام أو التباعد، وهي الأسباب المعروفة لحصول الهزات والزلازل. وفي زلزال تركيا الأخير تنبهت الحكومة التركية إلى ما كانت تفعله خلال العقود الماضية من حبس مياه الفرات في سدود عملاقة، وأعلنت عن نيتها بتفريغ عدد من هذه السدود. 
وكذلك يمكن للإفراط في شفط المياه الجوفية عبر الآبار الارتوازية، أن يؤدي إلى ضعف في بنية الصخور الجوفية وانضغاطها ما يؤدي إلى انهيارات جوفية تكون سببًا في الزلازل. كما أن استخراج النفط بكثرة وتجفيف آبار النفط دون ملئها بالمياه لإعادة الضغط والتوازن لها يؤدي إلى مفعول مماثل لعملية شفط المياه. والخطر الجيولوجي الرئيسي في المنطقة العربية الناجم عن نشاطات الإنسان هو ضخ النفط من الآبار.  
هذا وتشكل التفجيرات النووية خطرًا حقيقيًا في موضوع التسبب بالهزات الأرضية. وبصورة خاصة فإن التفجير النووي تحت الأرض أو تحت قاع البحر في منطقة ليست بعيدة عن الفوالق الزلزالية يحفّز بلا أدنى شك حركة الصفائح التكتونية ويراكم المزيد من الطاقة الجوفية قرب تلك الفوالق. ومنذ التجارب النووية الأولى في صحراء نيفادا، تبيّن أن الأمر يؤدّي إلى هزات أرضية بل إنه يخلق فوالق إضافية في باطن الأرض ■