اللبسة الفاسية تراث أصيل متوارث من جيل إلى جيل

اللبسة الفاسية تراث أصيل متوارث من جيل إلى جيل

يعد اللباس المغربي التقليدي جزءًا لا يتجزأ من الثرات المغربي الأصيل، وهو من أقدم الألبسة وأرقاها. ومهما تنوعت أصناف الألبسة في عالم الأزياء، إلا أن القفطان المغربي الأصيل كان وسيظل في الصدارة ولا منافس له، بدليل إقبال العديد من الشخصيات البارزة في العالم عليه، الشيء الذي جعله يكتسي شهرة عالمية واسعة. والنساء المغربيات بدورهن فخورات بزيّهن التقليدي الجميل الذي يرتدينه، ويُلبسنه لبناتهن في جميع المناسبات الدينية، وكذا الأعراس والحفلات. كما أن المصممين حريصون على إضافة تجديدات عليه كل سنة تزيده جمالًا وبهاءً مع الحفاظ على هويته التقليدية، الشيء الذي يجعله لا يتقادم مع مرور الزمان. 

 

كل مدينة في المغرب تتميز بقفطان خاص بها يتوارثه أهل المدينة جيلاً بعد جيل، ويكون هذا القفطان متميزًا عن قفاطين باقي المدن، حيث تتنوع أساليب الخياطة، ونوع الثوب المستعمل، وأنماط الخياطة والطرز، والإبداع والابتكار، وكذا طريقة ارتدائه. هنا سنتوقف عند «لبسة الجوهر» كما يسميها المغاربة، أو «اللبسة الفاسية» نسبة للمدينة التي تنتمي إليها « مدينة فاس».
زيارة واحدة لمتحف البَطْحاء بالمدينة العتيقة لفاس، والذي تم تأسيسه سنة 1915، والمصنّف كأقدم متحف في المغرب، ستعطيك فكرة عن أنواع الملابس النسائية التي حملها تاريخ فاس بين طياته، وتعد «اللَّبْسَة الفاسِية» أو «لَبسَةُ الجَوْهَر»ِ، كما يسميها المغاربة - من أشهر الملابس التراثية التقليدية في المغرب. ففي الأعراس المغربية عندما تُزفّ العروس لزوجها، فإن من عادة المغاربة أن ترتدي العروس أزياء المغرب التراثية جميعها، ومن بينها اللباس الفاسي. فمتى ظهر هذا اللباس النسائي الجميل؟ وماهي مكوناته؟ وماهي طريقة ارتدائه؟ 
ليس هناك من المؤرخين أو المهتمين بالبحث في التراث المغربي مَن استطاع وضع تأريخ محدد لهذه اللبسة التراثية المغربية، ولكن الكل يجمع على أنها أقدم لباس تراثي بالمغرب لارتباطه بتاريخ المدينة القديم.
من العادات الراسخة في تاريخ الزفاف الفاسي والمغربي عمومًا، زخرفة يدَيّ ورجلَيّ العروس بالحناء، وتكون هذه العادة في اليوم الذي يسبق ارتداء اللبسة الفاسية أو أي لباس احتفالي آخر، فيتم استدعاء مختصة في الزخرفة تسمى عند النساء المغربيات بـ «النَّقَّاشَة»، لأنها تضع نقوشًا على اليدين والرجلين باستعمال عجين الحنّاء.
في ليلة الزفاف ترتدي العروس قفطانًا يطلق عليه بالمغربية «ضَوُّ الصَّبَاح» أي نور الصباح، ويُلفّ على خصرها حزام فاسي باللون الأبيض، وذلك حتى لا يتأثر ظهر العروس من ثقل اللباس الملقى على جسدها. 
بعدها ترتدي قفطانًا ثقيلًا مصنوعًا من ثوب سميك يسمى في الأصل «ثَوْبُ الخَرِيبْ»، وهذا الثوب ارتبط باسم عائلة فاسية تدعى عائلة ابن الشريف، فظل هذا الثوب يحمل اسم هذه العائلة، ومازال الإقبال عليه مستمرًا بكثرة حتى حدود اليوم لجودته وجماليته.  
يتم نسج هذا الثوب بالمنسج اليدوي الذي يسميه الصانع المغربي «المَرَمَّة»، ويستغرق نسج تفصيل ثوب واحد شهرا أو شهرين لكثرة الخيوط والألوان التي يحملها، ويعد اللون الأحمر والأصفر والأبيض ألوانًا رئيسية، بالإضافة إلى خيوط ذهبية تدعى خيوط الصْقِلِّي، نسبة لجزيرة صقلية موطن نسج الحرير الذهبي.
في القديم كان الحزام الذهبي الذي يسمى عند الأسر المغربية «بالمْضِمَّة» لأنه يضم وسط القفطان لخاصرة العروس - قليل الارتداء لكلفته المالية الباهظة، لذلك عندما تُزفّ العروس لزوجها كان يُلفّ حول الجزء السفلي من جسدها منديل يحجب رؤية الأسفل، لكي يبقى الجزء الأعلى الذي يحمل الحليّ والجواهر الحرة هو المثير للانتباه، لكن ستندثر هذه القاعدة بمجرد ما أصبح الحزام الذهبي متاحًا للكراء، فغدا هذا اللباس من أعلاه لأسفله غاية في الأناقة والجمال. يسدل على رأس العروس وشاح أثقل منه يسمى «قَصْبَة بْرُكَاتُو»، وهو عبارة عن بروكار مطرز بالصقلي الفاسي يسدل على جانبي العروسة. ويوضع معه أيضًا ثوب آخر أبيض مطرز من الجوانب يسمى «بِالمْسِيلْكَة»، وآخر أحمر يجب أن يأتي بشكل متوازن مع «قصبة بْرُكَاتُو».
بعدها يتم تركيب التاج الذهبي المرصّع بالجوهر الأبيض والزمرّد الأخضر وتثبيته مع باقي القطع، قبل أن تسدل - «أَزْرَايِرْ الجَوْهَر» مع «النواسي المشبك» كما يطلق عليه المغاربة، والذي يكون قرب التاج وينسدل إلى جبين العروس، كما يزين جبين العروس بالطابع الفاسي أو ما يسمى عند المغاربة «باللُّبَّة».
أما القفطان فيكون من أعلى العنق حتى أسفله مزينًا بأزرار من حرير تسمى بالمغربية «العْقَاد»، لأنها تَعقد وسط القفطان لكي لا يظل مفتوحًا، وعملية التزيين هاته تسمى عند الفاسيين بـ «التَّخْلِيلَة».
بعد أن تلبس العروس اللباس الفاسي العريق تأتي مرحلة تزيين العنق، وهنا القلادات في هذا اللباس لا توضع مباشرة على العنق بل توضع على الصدرية المسمّاة « البْسِيطَة»، لأن شكلها عبارة عن صفيحة منبسطة مزركشة بقطع من الذهب الخالص، والقصد إضفاء رونق وجمال على العروس. 
الذي يميز اللبسة الفاسية أنها لا يمكن للمرأة أو العروس ارتداؤها بمفردها، لذلك وقبل يوم الزفاف تحجز الأسرة المغربية موعدًا عند مختصة في لباس العروس، والتي تسمى «النكافة»، هذه الأخيرة هي من تملك المهارة والخبرة لرفع قيمة هذه اللبسة الفاسية، إذ أن هناك طقوسًا خاصة تُظهر فيها «النكافة» مهارتها وإتقانها لهذه اللبسة، برفقة مساعداتها، واللواتي يكنّ أربع نساء. ويتطلب إعداد كسوة الجوهر وقتًا طويلاً من طرف «النكافة»، لأن قيمة اللبسة تظهر في طريقة ارتدائها، كما يتطلب جهدًا من طرف العروس التي تتحمل ثقل كل هاته الملابس والجواهر والحليّ. 
بعد أن ترتدي العروس اللبسة الفاسية، تُحمل في هودج مغربي خالص يدعى «المِيدَة أو الطَّيْفُور»، الذي يكون مرصّعًا بالأحجار الكريمة، ويحمله رجال «النكافة» الأربعة الذين يرتدون الجلباب المغطى بالبرنص، أو كما يطلق عليه المغاربة «السلهام»، على أكتافهم ويرقصون بها على نغمات الطرب الأندلسي العريق الذي استقدمه الموريسكيون إلى مدينة فاس بعد أن هاجروا من الأندلس موطن زرياب، مؤسّس الفن الطربي الأندلسي. وتقوم العروس بتحيتهم وكأنها ملكة من ملكات الفراعنة تجلس فوق العرش، بينما المدعوون يردون عليها التحية عبر قذفها بأوراق الورود الحمراء.
ستظل اللبسة الفاسية على مر العصور اعترافًا على مدى إتقان الصانع المغربي، وهي أيضًا تحفة، والحصول عليها هو مفخرة لأنها مصنوعة باليد من خيوط رفيعة وبجودة عالية، لكن للأسف البْرُوكَارْ أو الخْرِيبْ الذي هو أساس هذه اللبسة الفاسية أصبح مهددًا بالانقراض، والحداثة والمعاصرة أثرت عليه بشكل سلبي، حيث تطورت صناعة هذه اللبسة من الصنع اليدوي - الذي كان هو المعتمد، وكان متقنًا، وكان يستغرق وقتًا طويلاً في إعداده - إلى الصنع بالاعتماد على الآلات، والتي أضحت لا تستغرق وقتًا طويلاً في الصنع لكن بجودة أقل. كما تم التجديد في تفاصيل اللبسة الفاسية، واعتماد أثواب أقل ثقلاً من ثوب الخريب.
رغم إدخال عناصر التجديد في اللبسة الفاسية، إلا أنها ستظل رمزًا من رموز شموخ المرأة الفاسية، وجزءًا لا يتجزأ من التقاليد المغربية القديمة. وهذا الزي الملكي الفخم هو تجسيد لذاكرة تاريخية حيّة وتراث مغربي تقليدي أصيل يفرض علينا الحفاظ عليه ليبقى حيًا من جيل لآخر ولا يعاجله النسيان. ومن أجل تحقيق هذا المبتغى تحرص الأُسر المغربية على استغلال المناسبات الدينية، من مثل: ليلة القدر، وعيد الفطر، وعيد الأضحى، فَيُلبسن بناتهن الصغار اللباس التقليدي الأصيل، ومن ضمنه اللبسة الفاسية التراثية ■