نهاية النسيان مخاطر التنشئة في ظل سيطرة وسائط التواصل الاجتماعي

نهاية النسيان  مخاطر التنشئة في ظل سيطرة وسائط التواصل الاجتماعي

نقمة النسيان تصير نعمة ودواء أحيانًا، نتجاوز بها الذكريات السيئة والألم لنواصل الحياة، تتزايد أهمية ذلك لدى الأطفال والمراهقين، لكونهم الأكثر ارتكابًا للأخطاء وتعرضًا للمواقف المحرجة أو الإيذاء، جراء خوضهم التجارب الجديدة واستكشافهم الحياة والتعلم، وبسبب  ضعف خبراتهم، وهنا يأتي النسيان الكلي أو الجزئي ليمنحهم إمكانية التعايش وتجاوز الصدمات، بجانب نمو وبناء شخصياتهم.

 

لكن، لم يعد ذلك ممكنًا في ظل سيطرة وسائط التواصل الاجتماعي، وبها يتلاشى النسيان مقابل التنمر السيبراني، بفضل تيسير التقاط ونشر الفيديوهات والكلمات والصور المؤلمة أو المضحكة، التي ربما التقطت كنوع من اللعب والسخرية والمزاح كطبائع للأطفال والمراهقين ملتقطيها، لكنها تحدث آثارها الخطيرة، عندما تتم إعادة تداولها واسترجاعها بعد سنوات نكون فيها تجاوزنا مرحلتها العمرية.
كأن يتم بواسطة استغلال المراهقين والأطفال لصور ذويهم فيما بعد، وبهم تنتقل لمئات أو ملايين المستخدمين، لتتعاظم بها الخسائر بالغة التأثير، كالأمراض والجرائم وحالات الانتحار، لأن الوسائط تستغل بياناتنا لربطنا بعائلتنا وأصدقائنا وجيراننا وزملائنا، بجانب سهولة استخدامها وترويجها عبر الجوال، لتغير بذلك سياق حدوث الحدث الفعلي ومعناه.
تناولت ذلك الباحثة كيت إيكورن في كتابها «نهاية النسيان.. التنشئة بين وسائط التواصل الاجتماعي»، الصادر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، 2023م، بترجمة عبد النور خراقي، لتكشف عن أهمية الحلول العاجلة لمواجهة المخاطر المتصاعدة لسوء استخدام الوسائط الاجتماعية، بواسطة المتنمرين والشركات، ولتشير إلى متطلبات حماية النمو الطبيعي للأطفال والشباب، وخطورة حرمانهم من حق نسيان الحماقات والأخطاء.

ما قبل الوسائط الرقمية
قبل الوسائط الرقمية كنا نستطيع التخلص من الصور المحرجة بإعدامها، أو نسيان الكلمات والمواقف لتدمل جراحنا، وكانت هناك صعوبة لميلاد الصور المحرجة، لأن توثيق الطفولة يتم تحت مراقبة البالغين وبواسطتهم، وباستديوهات تحت السيطرة، ويرتبط بتكلفة الطبع والتحميض التي لم تكن في متناول الأطفال، كما ترتبط بالأحداث كالحفلات، ومحدودة الانتشار كألبوم العائلة.
لكن، ومع اختراع كاميرا الجوال وارتباطها بالويب، صار التخلص من العار والغضب ربما مستحيل، فالصور المحرجة والمؤلمة يسهل التقاطها بواسطة الأطفال والمراهقين، ثم تداولها عبر عشرات الأجهزة ولدى عشرات الأصدقاء، ويمكننا تأمل صور اللاجئين السوريين (2015، 2016م) وكيف يمكن أن يتسنى لهم النسيان والمضي قدمًا بعيش حياة كاملة ومنتجة في المستقبل والصور المؤلمة تطاردهم.
وهنا ينبغي التفرقة بين التذكر والتكرار، إذ سرد الماضي ضمن أساليب العلاج النفسي التي تعمد إليه مدرسة سيغموند فرويد ويعني العلاج من خلال التذكر، لكن إعادة بث الصور هي تكرار للآلام والصدمات، وكأنك تعيشها من جديد.
وها هي الطفولة قد صارت إلى عالم النسيان منذ توغل الإنترنت والوسائل الرقمية وفق نيل بوستمان في كتابه «اختفاء الطفولة» والذي يشير إلى تقويض التمييز بين سن الطفولة وسن البلوغ، وتقليص سلطة البالغين تجاه فضول الأطفال، وهو ما بدأ على مضض منذ أواخر القرن الثامن عشر، وصولًا لمنتصف القرن العشرين باختراع التلفزيون الذي أكل الخط الفاصل بين الطفولة والبلوغ لعدم تمييزه بين الجمهور، وصولاً للإنترنت وتلاشي الخط الفاصل بين ثقافة الأطفال وثقافة البالغة.

أطفال الأمس وأطفال اليوم
لم يشهد الأطفال والمراهقون عبر حقب التاريخ مخاطر كالتي يواجهونها الآن، إذ بدأ التعامل مع مشاهد الطفولة في الفنون متأخرًا، بأواخر القرن السادس عشر، مثل عمل أنيبال كاراتشي «طفلان يضايقان قطة» 1587م، ومع اختراع الطباعة برز الاهتمام بالتوجه لطباعة أعمال تخص الطفولة، كدليل التربية، وكيف نكتب للطفل، وما الذي ينبغي للطفل أن يفكر فيه ويتعلمه.
في حين شهد القرن العشرون ظهور الصور الفوتوغرافية، ومعها صار الأطفال موضوعًا للصور، بجانب دراسة الأطفال من خلالها، لكن لم يسمح للطفل باستخدام التصوير، فالطفل لا يستطيع حمل كاميرا ثقيلة أو تحمل تكلفة التحميض.
تغير الأمر، باختراع جورج إيستمان كاميرا للشباب فقط، مرورًا بكاميرا براوني المأخوذة من سلسلة كتب أطفال شهيرة في العصر الفيكتوري بعنوان «البراويز» لشخصيات الرسوم المتحركة الصغيرة المؤذية، تلاها ظهور شركة أتاري لتطوير الألعاب للأطفال والشباب، وتوالت معها كاميرا بولار والصور الفورية للاستمتاع باللحظة، وكانت حينها مفاجأة لإمكانية تجاوز الرقابة للتصوير المنحرف.
لكننا نرى اليوم تمثيل الأطفال والمراهقين أنفسهم بأنفسهم، والتحكم في أنواع الصور وإنتاجها بلا معمل أو رقيب، إلى درجة أن «سناب شات» للمراهقين يتقاسمون 30 مليون صورة في الساعة الواحدة، ويتم ترويجها بكثافة مع اهتمام الجمهور بالإبداعات الإعلامية للشباب، لكن: ماذا يحدث عندما تتداول هذه التمثيلات العفوية الطفولة والمراهقة على نحو واسع، وإلى أجل غير مسمى، ثم تتحول الصور إلى بيانات، وكيف يمكن للأطفال والمراهقين نسيان ما يريدون؟

فقدان السعادة بفقدان النسيان
يقول نيتشه «النسيان ضروري للسعادة»، ونراه حازمًا بشأن الشخص الذي لا يستطيع النسيان، إذ يجرده من السعادة والأمل والفورية، فهو لا يمكنه التعامل مع أي شيء، هذا لأن المرء يحتاج لإغلاق أبواب الوعي ونوافذه فترة لإفساح المجال لشيء جديد، وبالتالي نحن لا نركز على قدرة القاصرين على تقييم ما ينشرونه، إذ من حق المرء أن ينسى. وهو شكل من أشكال الصحة القوية، بل وتنعدم إمكانية وجود السعادة والابتهاج والأمل والكبرياء والفورية من دون نسيان، لهذا يقول عالم النفس فريدريك باريليت 1932م: «إن النسيان يحمل أهمية نفسية كبيرة»، يؤيد ذلك عالما الأعصاب مايكل أندرسون وسيمون هاتسلماير ويقولان: «النسيان محفز للحفاظ على المشاعر الإيجابية والثقة والتفاؤل».
هنا تتضح إشكالية عدم قدرة النسيان، أو تجاوز الذاكرة المنتشرة بالبيانات عن الأطفال والمراهقين، التي لا تنتهي بإغلاق الحاسوب، فهناك من يراقبنا ويرانا بما هو متوافر عنا لدى الآخرين أو بصفحاتنا، إلى درجة أن بيانات شخص في عمر تسعة أعوام أو ثلاثة عشر عاما يمكنها أن تتجدد، وتتداخل مع قدرته على الاستمرار في حياته الطفولية أو البالغية، وتطارده بقية حياته.

ضرورة جعل النسيان مجددًا أسهل
هناك مفهوم للموراتوريم ويعنى بمساحة الأخطاء والمخاطر المتاحة للمراهقين في سبيل إيجاد ذواتهم، وغالبًا ما تختلف من مجتمع لآخر، بناء عليها يسمح بارتكاب بعض الأخطاء ومغفرتها، أي تمر بأمان دون عقاب، كترك محاضرة أو أخطاء عبر المنصات... إلخ.
ويذهب فيكتور ماير شوبنر إلى ضرورة إعادة ضبط التوازن، وجعل النسيان مجددًا أسهل من التذكر، ووضع ضوابط أشد من تحديد انتهاء صلاحية المعلومات المخزنة بالإنترنت بواسطة الأشخاص، إذ بعض المستخدمين يخزنها بواسطة لقطات الشاشة كحال شبكة «سناب شات»، وإعادة استخدامها للسخرية والجنس.

التنمر السيبراني
يسمح مشاهير وسائط التواصل الاجتماعي باقتحام عوالمهم الخاصة والحميمية بما في ذلك الأطفال الرضع والمراهقون، وغرف النوم وطاولة المطبخ، بل وتخبرنا نتائج دراسات عامي 2016 و2017م، أن 98 في المئة من الأمهات حملن صورة مولودهن الجديد على فيسبوك، و80 في المئة من الآباء كذلك.
إلى جانب سوء استغلال التصوير للأطفال، إذ 56 في المئة واجهوا معلومات محرجة بشأن طفل ما، و27 في المئة من الآباء نشروا صورًا غير لائقة للأطفال، كتصوير تدريب طفل عامين على استخدام المرحاض، ثم عرض الفيديو في عيد ميلاده الثالث عشر، ولم يكن هذا يحدث فيما مضى لتكاليف التصوير والرقابة أثناء التحميض.
وهنا تورد المؤلفة قصة مؤلمة للمدون جيس ماب فياهيل، الذي حصد شهرة ودخلًا ماديًا من خلال تصوير طفلته الرضيعة بالبراز بعد تهكمه من رائحة المنزل، وهي الصورة التي تقاسمها 100 ألف شخص، وانتقلت لمجلة هزلية، فماذا عن مشاعر الطفلة حين تكبر؟
ويورد الكتاب نماذج كثيرة ومتعددة، ثم ينتقل لأزمة التصوير بين المراهقين، ويأخذ مناحي أخرى، تبدأ بفهم طبيعة المراهقين، إذ عندما يتم تصوير ارتداء المراهق شورتا وتخصصه في الفكاهة المقززة سنراه أمرًا غير جذاب، ولكنه جذاب للشباب والفتيات المراهقات.

محاولات تطوير الشخصية
أحيانًا نحتاج إلى مغادرة جزئية أو كاملة للبيئة الاجتماعية السابقة من أجل التفوق بدراسة أكاديمية أو جامعية، أو اكتشاف الذات في مهارات جديدة، ولكننا هنا سنواجه مشكلتين خلقتهما وسائط التواصل الاجتماعي، وهما: «الاستفسار والتخفي عن الأنظار/ ثني الماضي عن الارتباط بالحاضر».
توضح الكاتبة عبر تجربتها الذاتية، أنها غيرت حسابها عبر الشبكات لتحدث قطيعة جذرية مع الماضي، ومع مجتمعها الريفي، ولتغيير الأصدقاء والزملاء من أجل تطوير شخصيتها، والتركيز في أعمالها الأكاديمية، كما تنادي بإلغاء الحسابات النشطة، وحظر بعض أشخاص الماضي.
ماذا نفعل؟
تطرح الأكاديمية كيت إيكورن بعض الأفكار، ومنها:

الخاسرون هم من سيكسبون ذواتهم 
إذا كان الفائزون هم شركات التكنولوجيا التي تمتلك مخازن كبيرة للبيانات مثل فيسبوك وغوغل، فإن الخاسرين الذين يخسرون التطورات التكنولوجية الحالية هم من سيكسب أكثر بوضع مسافة على الأقل بين ذواتهم الحالية وبين الماضي، وإعادة ابتكار ذواتهم.

الاختفاء الرقمي
الرغبة الفردية في الاختفاء الرقمي بها صعوبة كبيرة، لأنها تتعارض مع الأجندات التكنولوجية والاقتصادية على حد السواء، فالشركات تسعى إلى استخدام البيانات لتحسين منتجاتها وخدماتها، بل والوسيلة نفسها تحول الأشخاص العاديين إلى شخصيات عامة.
وإذا كان الأطفال والشباب هم ثلث مستخدمي الإنترنت، فاستخدام بياناتهم له أهمية اقتصادية كبيرة، ورأينا ذلك بفضيحة كامبريدج أناليتيكا الشهيرة، خلالها توصلت الشركة إلى بيانات أكثر من 80 مليون مستخدم، حين سمحت فيسبوك للشركة بذلك، وتمت محاكمة فيسبوك على ذلك.
ويرى المحلل النفسي إريك إريكسون أن وسائل الإعلام الرقمية قد أكلت الموراتوريم الممنوح للشباب، ويمكننا إعادة ذلك من خلال عمليات محو البيانات، بوضع تشريعات تمنح القاصرين حق الوقوع في الخطأ والمضي قدمًا نحو حياة الكبار سالمين، والتفرقة بين المواطن العام والمواطن الخاص. 
وأخيرًا، تبدو بصمتنا داخل الوسائط الاجتماعية قاتلة أو مانحة للفرص، لكنها بصمة مخادعة أحيانًا، فقد لا تكشف حقيقتنا، بل ونحن الآن لسنا نحن منذ أعوام، بل وبعض الأخطاء والتصرفات الساذجة والغريبة لها ظروفها الخاصة، ولا تكشف عن صاحبها.
تلك الأمور أكثر خطورة على الأطفال والشباب، الذين يدفعون ثمن حسن النوايا أكثر من غيرهم، ويقعون فريسة التنمر بشكل أكبر، ولا يتم منحهم حق الخطأ والحماقة كما كان لغيرهم، ومن ثم حرمانهم من بناء وتطور شخصياتهم.
وبهذا فرضت الوسائط الاجتماعية تحديات جديدة على أساليب التنشئة، حتى لا يتحمل الأطفال والمراهقون فاتورة قاسية، جراء استسهال التدوين والصور الخاطئة عبر الوسائط، خصوصًا في ظل نهاية النسيان. وترى... هل يمكننا جعل النسيان ممكنًا؟ ■