عندما تفسد الأسئلة قضية الودّ

عندما تفسد الأسئلة قضية الودّ

لم أتصوّر أنني عندما طرحت على الدكتور إبراهيم مدكور رئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة سؤالاً عن رأيه بمن يقول إن العربية قد تخلفت وابتعدت عن الحياة وإن العامية جديرة بأن تحلّ محلها، أن القيامة ستقوم وأن المودة التي كانت بيننا منذ سنوات ستصاب بنكسة. فقد امتقع وجهه عندما سمع السؤال وبدا عليه الغضب وقال لي وهو في حمّى انفعاله: ليسأل هذا السؤال كل الناس إلا أنتم اللبنانيون. فما صنعتم للغة العربية في عصر النهضة وصولاً إلى وقت قريب لم يصنعه شعب عربي آخر. وجعل يسرد، رحمه الله، تاريخًا من الفخار في خدمة أم اللغات اضطلع به ناصيف وإبراهيم اليازجي وعبدالله البستاني وسائر البساتنة والمعالفة وجبر ضومط ومصطفى الغلاييني وانستاس ماري الكرملي وعشرات من مثل هذه الأسماء الكريمة. وعبثاً حاولت أن أجلو ما التبس عليه وهو أنني لست من دعاة العامية بل أنا على العكس من ذلك ولكني أطرح سؤالاً في إطار حديث صحفي كنا نجريه حول حاضر اللغة العربية. ومع ذلك فقد أبى أن يعود إلى مقام الصحو إلا بعد جهد جهيد، ولعله لم يعد.
والحقيقة أنني زرت مجمع اللغة العربية في القاهرة ما لا يقلّ عن عشر مرات زمن رئاسة
د.مدكور له لأنعم بمجلسه ولأستفيد من علمه ولأجري معه حوارات تجمّع لدي منها مع الوقت ما يؤلف كتابًا. وكنت أزور المجمع كذلك لأطلع على آخر إصداراته ومنها القواميس والمحاضرات، وكان الدكتور يتفضل بإهدائها إلي. وقد كان مما قرّبني منه قبل سوء التفاهم هذا أنني رويت له مرة أنني انتفعت زمن دراستي للفلسفة الإسلامية بكتاب جليل له عن الفارابي قدّمه أطروحة ماجستير في جامعة باريس سنة 1934 بعنوان «الفارابي/منهج وتطبيقه».
وعندما أفكر اليوم بتلك اللحظات المرّة مع الدكتور مدكور لا أجد أن انفعاله حول الفصحى والعامية كان له ما يبرّره. فقد طرحت عليه سؤالاً صحفيًا لا أكثر ولا أقل. ويبدو أن ما استفزه هو وضع العامية كمنافس للفصحى أو كوريث لها في يوم من الأيام. وكان انفعاله في غير محله لأن الدعوة إلى العامية كثيرًا ما أطلّت برأسها بين حين وآخر وجذبت إليها نُخبًا. فها هو الدكتور عبدالعزيز فهمي باشا وزير الحقانية في مصر في الثلاثينيات من القرن الماضي يدعو لا إلى العامية وحدها بل وإلى الحرف اللاتيني أيضًا. وفي لبنان، وحتى في غمار نهضة الفصحى، كان للعامية دعاة أشهرهم الشاعر سعيد عقل الذي أصدر خلال الحرب الأهلية جريدة أسبوعية بالعامية وديوان شعر اعتمد فيه ما سمّاه الحرف اللبناني الجديد وهو حرف لاتيني في جوهره.
ولكن سؤال العامية والفصحى ما زال يُطرح إلى اليوم وذلك بسبب تراجع العربية واقتصار إتقانها على فئات محدودة. ولكن العربية كثيرًا ما تجددت ونهضت في عصور أخرى كانت فيها الأمة في حالة نهوض. فكأن هناك علاقة جدلية بين اللغات ومجتمعاتها. فاللغة تنهض عندما تنهض الأمة أو يكون هناك مشروع نهضة، وتتخلف عندما يسطو التخلف وينعدم أي مشروع ينزع إلى تجديد الحياة ■