جُـزَيء الماء العجيب!

قال فيلسوف إغريقي قديم: إن الماء هو المادة الأوّلية التي يأتي منها غيرُها من المواد، وهو قول يتّفق مع ما نعرفه حاليًا عن تركيب جزيء الماء من هيدروجين وأكسجين، وهما عنصران شائعان في كل المواد الحيّة وغير الحيّة.
ويعبّر الكيميائيون عن هذا التركيب بالصيغة (يد2 أ) أو (H2O)، حيث (يد) أو (H) هو رمز ذرّة الهيدروجين، و(أ) أو (O) رمز لذرّة الأكسجين؛ وهي صيغة شائعة، وتشير إلى الماء. 
ويتجمّد الماء عند درجة الصفر المئوي، ويغلي عند مائة درجة. وكان مُبتكر مقياس درجة الحرارة «أندرس سيلسياس» قد اتّخذ درجتَي تجمّد وغليان الماء كبداية ونهاية لمقياسه الحراري. ولا يتحقّق قياس كل من هاتين الدرجتين بالنسبة للماء إلا بشروط محدّدة، هي أن يكون نقيًا ومُشبَّعًا بالأكسجين الذائب فيه، وتحت ضغط جوّي محدّد بدقّة، قيمته 101.325 بسكال، أي (1.01325 بار، أو وحدة ضغط جوّي واحدة)، وهو متوسط الضغط الجوّي عند مستوى سطح البحر.
 والحقيقة هي أن درجتيَ تجمّد الماء وغليانه ليستا الصفر والمائة المئويان، تمامًا؛ فمن النادر أن يصل الضغط الجوّي إلى هذه القيمة التي أشرنا إليها، كما أن الماء الموجود في الطبيعة ليس نقيًا تمامًا، فهو لا يخلو من شوائب؛ لذلك فإن درجتَي التجمّد والغليان تحيدان قليلًا عن الصفر والمائة.
وتتّخذُ الموادُ المختلفة، بصفة عامة، أطوارًا أو حالات، صلبة أو سائلة أو غازية؛ وللضغط الجوي شأن كبير في تحديد حالة المادّة أو طورها، ويتّضح هذا عند تأمّل سلوك جزيء الماء. 
وبطبيعة الحال، فمن المستحيل أن نرى جزيئات الماء بالعين المجرّدة، بل حتى باستخدام أقوى المجاهر، فهي ضئيلة جدًا، ولكن يمكن الاستعانة بمجهر عادي لنرى ما يتخلّف عن سلوكها من آثار. ولنجرّب أن ننثر قليلًا من مسحوق ناعم معتم على سطح كأس من الماء، ونستعين بالمجهر العادي لمراقبة حُبيبات المسحوق، سنجدُ كلَّ حُبيبة تتحرّك على سطح الماء منفردة، في كل اتّجاه، بغير انتظام. وعند النقر على جدار الكأس لإحداث تموّجات في الماء، لا يترتّب على ذلك تغيرٌ ملحوظٌ في حالة حُبيبات المسحوق، وتستمر هذه الحركة العشوائية بلا انقطاع.
 وكان أوّل مَن سجّل هذه الملاحظة، عام 1827، عالمُ نباتٍ سكوتلاندي اسمه روبرت براون، فسمّيت تلك الحركة باسمه (حركة براون)، وتفسيرها هو أن جزيئات السائل تبقى في حالة دائمة من التصادم بعضها ببعض، فترتدّ نتيجة للتصادم، وتتّخذ اتّجاهات جديدة، لتحدث لها الاصطدامات من جديد، فتغيّر اتّجاهات حركتها، وهكذا. ويحدث ذلك بغير انتظام، وبعشوائية خالصة، وتستجيب حُبيبات المسحوق الطافية على سطح السائل لحركة جزيئاته، فتتحرّك وفقًا لها، متطوّحة بلا اتّجاه محدّد. 
ويحدث أن تنشق بعض الجزيئات عن سطح السائل، وتنطلق متحرّرة في الهواء، وهو ما نعرفه بالتبخّر. وإذا تُرك الماء معرّضًا للهواء زمنًا طويلًا تبخّر بكامله، وإن كان ذلك يحدث ببطء، حيث تكون الجزيئات حرّة الحركة، إلا أن قوّة التجاذب التي تشد كلَّ جزيء إلى جاره تُبقي على الجزيئات قريبة من بعضها، وتكون قوةُ الجذب من أسفل، عند السطح، أقوى بكثير من تلك التي تعملُ بين جزيئات الهواء الغازية الأشدّ تباعدًا، فيصعبُ على جزيئات السائل أن تتحرّر هاربةً.
 والجديرُ بالذكر أن الجزيئات تختلفُ فيما بينها من حيث سرعة حركتها، ويحدث – مرةً بعد مرّة – أن يتحقّق لجزيء من بينها أن يتحصَّلَ على سرعة حركة كبيرة تمكّنه من الوصول إلى السطح، ويكون مساره بالزاوية الصحيحة التي تيسّر له الانطلاق من السطح إلى الهواء. ولا يحسـبنَّ أنه قد ترك حالة السائل إلى حالة الغاز إلى الأبد، فقد يستردّه السائل وتسحبه جزيئاتُه عائدةً به، فإن تمكن من تجنّب محاولة الاسترداد، يكونُ قد (تبخّر)، ومع كل ذلك، يبقى دائمًا احتمال لأن يتصادم الجزيء المتبخّر مع جزيء من الهواء، فيطيح به ويعيده إلى السائل!