نهضة العملاق الصيني

نهضة العملاق الصيني

 بات وصف جمهورية الصين الشعبية بالعملاق الاقتصادي وصفًا شائعًا في أدبيات الصحافة الاقتصادية، ليس فقط لحجم هذا البلد الضخم سكانيًا أو صناعيًا أو في مجال الابتكار، إنما أيضًا لقدرته على اقتحام الأسواق الجديدة بقوة تناسب حجمه كعملاق قادر على النمو والانتشار في قارّات العالم المختلفة.

 

فالصين التي كانت قبل 70 عامًا دولة معزولة عن العالم الخارجي تحولت اليوم إلى واحدة من أعظم القوى الاقتصادية في العالم بفضل إصلاحات ملموسة في القطاع الصناعي، رفعت قيمة صادرات الصين إلى العالم -بحسب بيانات كلية لندن للاقتصاد- من 10 مليارات دولار في نهاية سبعينيات القرن الماضي إلى 25 مليار دولار في عام 1985، وصولًا إلى 4,3 تريليون دولار قبل جائحة كورونا، لتكون الصين - ذات معدلات النمو السنوية المتأرجحة ما بين 6 أو 5 في المئة - أقوى محرك للنمو الاقتصادي العالمي، بل إنها تسهم بـ 35 في المئة من النمو الاقتصادي العالمي، أي إنها أكبر مساهمةً من أي دولة أخرى، وأهميتها للنمو العالمي تبلغ 3 أضعاف أهمية الولايات المتحدة.
ففي عام 1978، تم تبني إحدى أهم السياسات الأساسية في الصين، سياسة الإصلاح والانفتاح، وذلك تحت قيادة دينغ شياو بينغ، ومنذ ذلك الحين التزمت أجيال من القادة الصينيين بشدة بهذه السياسة، لتتحول الصين إلى اقتصاد سوقي اشتراكي حيوي منفتح على العالم الخارجي.
وأصبحت الصين تمتلك اليوم ثاني أكبر اقتصاد في العالم، فضلًا عن كونها أكبر أمة تجارية من حيث عدد السكان، ونقطة جذب للمستثمرين الدوليين.
ومع تجاوز عدد سكانها 1.4 مليار نسمة، احتضنت الصين الآخرين من خلال الانفتاح واسع النطاق - بسوق استهلاكي كبير للغاية، وعزم ثابت على تعزيز التنمية المشتركة للجميع، وبالتالي ضخ الثقة واليقين في الاقتصاد العالمي. وقد توقّع صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد الصيني سينمو بنسبة 5.2 بالمائة هذا العام، ما يُمثل خمسَي التوسع في الاقتصاد العالمي، بينما ستساهم الولايات المتحدة ومنطقة اليورو معًا بأقل من الخمس.
وفي السياق ذاته، ذكرت مجلة (ذا إيكونوميست) في أوائل فبراير الماضي بأن تعافي الصين من جائحة كوفيد19 «سيقدم مساهمة كبيرة في النمو العالمي»، وذلك نظرًا إلى أن الاقتصاد الصيني ساعد في استقرار الاقتصادات العالمية خلال الأزمة المالية الآسيوية في 1997، والأزمة المالية العالمية في 2008.
وتستهدف بكين سهولة الترابط مع الأسواق إذ اتخذت سلسلة من الإجراءات حتى تتمكن الشركات الأجنبية من التمتع ببيئة عمل أفضل في البلاد. وفي عام 2022، جددت الصين مصفوفة الصناعات المشجعة للاستثمار الأجنبي الذي طبّق معدلات مؤقتة على ضرائب الواردات أقل من تلك الخاصة بالدول الأكثر تفضيلًا، وذلك على 1020 سلعة، وخفضت أيضًا معدل التعريفات الجمركية على 62 منتجًا تكنولوجيًا للدول الأكثر تفضيلًا، فضلًا عن أنه سينخفض مستوى التعريفات الجمركية من 7.4 بالمائة إلى 7.3 بالمائة بعد التعديل.
وفي الوقت نفسه، تسعى الصين بشكل نشط إلى خفض الحد الأدنى باستمرار، وتقليل التكاليف والمخاطر المرتبطة بالاستثمار الأجنبي، حيث تم خفض العناصر المدرجة في القوائم السلبية على مستوى البلاد، وكذلك في مناطق التجارة الحرة التجريبية، والتي دخلت حيز التنفيذ في يناير الماضي إلى 31 و27 ، بانخفاض يُقدر بـ6.1 و10 بالمائة على التوالي، كما أنشأت الصين منصات مختلفة للوصول إلى الشركات الأجنبية، بما في ذلك معرض الصين الدولي للاستيراد، ومعرض الصين الدولي للمنتجات الاستهلاكية، ومعرض الصين الدولي للتجارة في الخدمات.
وفي الحقيقة لم تقف الصين أسيرة للتنافس مع محيطها الاقتصادي، ككوريا الجنوبية واليابان، إنما فتحت آفاقًا نحو مناطق جديدة حول العالم، كالقارتين الأمريكية الجنوبية والإفريقية اللتين تشهدان معدلات نمو مرتفعة، بالتوازي مع ارتفاع عدد السكان فيهما بما يعادل 1.7 مليار نسمة، وبما يتجاوز خمس سكان الكرة الأرضية.
فمنذ تسعينيات القرن الماضي شهد اقتصاد القارة الأفريقية انفتاحًا على القوى الاقتصادية الآسيوية، لاسيما الصين التي اتجهت إلى تعزيز علاقاتها مع القارة الأفريقية نظرًا لما تمتلكه هذه القارة من ثروات نفطية ومعدنية هائلة. ومنذ ذلك الحين اهتمت الشركات الصينية بقطاعات أخرى مثل قطاع البناء، وذلك بتشجيع من السلطات الصينية، وقد تجاوز أخيرًا حجم التبادل التجاري بين القارة الأفريقية والصين حد 282 مليار دولار في عام 2022.
اختارت بكين استراتيجية مختلفة عن الدول الغربية في تعاملها مع الشأن الأفريقي، وقد بدأت هذه الاستراتيجية تعطي ثمارها في القارة السوداء، فالصين التي عرفت وعاشت الاستعمار- لم تحاول في علاقاتها الأفريقية فرض شروط سياسية أو إعطاء دروس لزعماء القارة الأفريقية مقابل مساعداتها الاقتصادية لهذه البلدان، بل كانت تحاول أن تكون ممثل وسفيرة الدول الناشئة لدى الأمم المتحدة. وتعوّل الصين كثيرًا على أصوات الدول الأفريقية في حلبة المنظمة الأممية، لكن بالمقابل ظهرت على السطح مشكلات تتعلق بالعمالة، إذ بدأت تتلقى بعض اللوم في الدول التي تربطها معها علاقات اقتصادية وثيقة بعد أن تذمر سكان هذه الدول من وجود يد عاملة صينية رخيصة الثمن تزاحم اليد العاملة المحلية.
وأظهر التقرير السنوي للعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين وأفريقيا في سبتمبر (أيلول) 2021، أنه رغم الصعوبات التي فرضتها جائحة كورونا إلا أن الصين حافظت على ريادتها كأفضل شريك تجاري لأفريقيا، وذلك على امتداد 12 سنة متتالية. وكشف ذات التقرير أن حجم التجارة البينية بين الصين وأفريقيا سجل نموًا قويًا في الأشهر السبعة الأولى من العام 2022 بنسبة 40.5 في المئة ليصل إلى 139 مليار دولار. كما عرف الاستثمار الصيني في أفريقيا توسعًا مهمًا، على الرغم من المنحى التنازلي في التجارة والاقتصاد العالميين الناتج عن آثار فيروس كورونا، بحسب ذات التقرير، إذ بلغ الاستثمار الصيني في القارة السمراء 2.9 مليار دولار سنة 2020، بزيادة قدرها 9.5 في المئة.
وأشار التقرير إلى أن الاستثمار الصيني تركز في الأساس على قطاعات الخدمات، مع تسجيل ارتفاع في الاستثمار في قطاعات جديدة على غرار البحث العلمي والتكنولوجيا والنقل والتخزين بواقع الضعفين. وذكر التقرير أنه تم بناء 25 منطقة صينية للتعاون الاقتصادي والتجاري في 16 دولة أفريقية، وجذبت هذه المناطق 623 شركة باستثمارات إجمالية بقيمة 7.3 مليار دولار، ووفّرت أكثر من 46 ألف فرصة عمل للدول الأفريقية.
وتشير دراسة أجرتها وكالة «ماكنزي» الأميركية إلى أن أكثر من 1000 شركة صينية تعمل حاليًا في أفريقيا، وتوقعت الدراسة أن تصل قيمة الأرباح المالية التي تجنيها الصين من أفريقيا بحلول عام 2025 إلى 440 مليار دولار، وتُعد جنوب أفريقيا وإثيوبيا والسنغال من بين الدول التي تتصدر الطليعة في ما يتعلق بالاستثمارات الصينية، بينما تحتل زامبيا وأنغولا ذيل الترتيب.
أما في القارة الأمريكية الجنوبية إلى جانب دول البحر الكاريبي، فقد وسّعت الصين من عملية التواجد فيها إلى جانب القارة الأفريقية، بما يمنح بكين بعض الأصوات الإضافية المهمة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويدعم تعيين الشخصيات الصينية في المؤسسات الدولية، إلى جانب الهدف الأهم وهو تحقيق النفوذ الاقتصادي عالميًا من خلال التعاون مع دول ذات معدلات نمو جيدة، فارتفعت حصة الصين من 2 في المائة من إجمالي المبادلات التجارية لدول أميركا اللاتينية والكاريبي عام 2000، إلى 18 في المائة عام 2019، ومن المتوقع أن تبلغ هذه الحصة 25 في المائة عام 2035. وقد تبلغ صادرات البرازيل وتشيلي وبيرو إلى الصين أكثر من 40 في المائة من إجمالي صادراتها.
وتركز بكين على البرازيل والأرجنتين كونهما أكبر دول القارة اللاتينية، ضمن ما يُعرف بمبادرة الحزام والطريق الصينية. وضمن هذه المبادرة وقّعت البرازيل اتفاقية مع الصين في أغسطس2021 لبناء أطول جسر بحري معلّق في البلاد، وسيربط مدينة سلفادور بجزيرة إيتاباريكا، بتكلفة تبلغ 1.2 مليار دولار. ومن المنتظر أن تستغل الشركات الصينية المكلّفة بالمشروع الجسر لمدة 30 عامًا بعد اكتماله.
وبفضل شركة تشاينا ميرشانتس بورت الحكومية تدير الصين ثاني أكبر محطة حاويات في البرازيل، وإحدى كبريات المحطات في أميركا اللاتينية. وتقوم الصين حاليًا ببناء ميناء جديد بقيمة 500 مليون دولار في ساو لويز، عاصمة ولاية مارانهاو البرازيلية. وقد تحولت البرازيل إلى سوق مهم للصين ضمن طريق الحرير الرقمي، حيث أصبحت هواوي منذ 2014 أكبر مزوّد لمعدات الشبكات في البلاد، وتدير هواوي مركزًا للبحث والتطوير والتدريب في مدينة كامبيناس.
كما تتهيأ الصين لتكون على أتم الاستعداد لبدء بناء محطة جديدة للطاقة النووية قرب العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس العام المقبل، بتكلفة 8 مليارات دولار، بالإضافة إلى بناء سدّين لتوليد الطاقة الكهرومائية جنوبي الأرجنتين.
وتم توقيع اتفاقيات بقيمة 4.7 مليار دولار مع شركات صينية لتحديث نظام السكك الحديدية في الأرجنتين، وبناء خط جديد بطول يقارب ألفَي كيلومتر.
وتعتبر الصين الشريك التجاري الأكبر للأرجنتين في الوقت الحالي، وقد بلغت نسبة صادرات لحوم الأبقار الأرجنتينية إلى الصين - أكبر مستهلك للحوم البقر في العالم - 75 في المائة. ناهيك عن توسعات أخرى في المكسيك، كبرى دول البحر الكاريبي، من خلال استثمارات مباشرة في قطاعات الخدمات والبنية التحتية.
لقد باتت الصين اليوم رقمًا مؤثرًا في معدلات الاقتصاد العالمي، وخلال السنوات التي تلت الأزمة المالية العالمية تصاعد دور بكين مع نمو التيار المناهض للعولمة الآخذ في الازدياد، فقد أصرت الصين على التعاون المربح للجميع، والبعيد عن مفاهيم السيطرة والهيمنة، وفي الوقت الذي عزّزت فيه التنمية الصحية لاقتصادها الوطني ضخّت الصين أيضًا، الثقة والزخم في انتعاش الاقتصاد العالمي. لقد ظلت مساهمة الصين في نمو الاقتصادي العالمي مستقرة عند حوالي 30 في المائة لسنوات عديدة متتالية، ولعبت دور عامل الاستقرار في التخفيف من التضخم العالمي مع انخفاض الزيادة النسبية في أسعار الصادرات، وهذه الأرقام تعطي مؤشرات على إمكانية تعميق العلاقات الاقتصادية مع العديد من الدول النامية حول العالم ■