الأول يعتبره العرب « ذاكرة الأمة» والثاني يضعونه في «مزبلة التاريخ» بين «سليمان الحلبي» و«المعلم يعقوب»

الأول يعتبره العرب « ذاكرة الأمة» والثاني يضعونه في «مزبلة التاريخ»  بين «سليمان الحلبي»  و«المعلم يعقوب»

تمتلأ صفحات التاريخ بالعديد من الشخصيات المتناقضة والمثيرة للجدل والخلاف، منها ما يعيش في وجدان الأمم والأوطان رغم محاولات الطمس والتشويه، ومنها من ذهب إلى مزبلة التاريخ لا يتذكره أحد لما لها من مواقف سلبية في حق الأوطان والشعوب.

 

من تلك الشخصيات: سليمان الحلبي الذي ظلمه التاريخ ولم يعطه حقه نتيجة لخضوعه لزيف الروايات الفرنسية التي تصفه بـ«المجرم»، ومازالت فرنسا تحتفظ بجمجمته في أحد متاحفها رغم المطالبات العربية الشعبية - من خلال مليون توقيع - بإعادة تلك الجمجمة لدفنها في مسقط رأسه بسورية... وفي المقابل هناك المعلم يعقوب يوحنا تلك الشخصية المصرية القبطية التي وضعت نفسها تحت تصرف الفرنسيين في مقابل مصالح وأهواء شخصية، فوضعته كتب التاريخ في صفحاتها السوداء وهي ترمي لعنات المصريين عليه في كل كتاب. 

سليمان الحلبي... حي في ذاكرة العرب 
أمامنا شخصيتان عاشتا خلال فترة الحملة الفرنسية على مصر 1798 - 1801... الأول هو ذلك الفتى السوري، سليمان الحلبي، الذي جاء من مدينة حلب إلى مصر لينتقم من القائد الفرنسي كليبر بسبب اضطهاده للمصريين خلال ثورة القاهرة الثانية، فكان عقابه حرق يده التي قتلت كليبر، ووضعه على خازوق حتى الموت، لكنه ظل حيًا في ذاكرة العرب والمصريين باعتباره بطلًا نجح في إنهاء معاناة المصريين من ذلك القائد... أما الثاني فلا يتذكره أحد رغم حياة النعيم والجاه التي عاشها في تلك الفترة، فهو المعلم يعقوب يوحنا الذي التحق بخدمة الحملة الفرنسية مباشرة، بل إنه وضع نفسه بالكامل في الجناح الفرنسي خلال ثورة القاهرة الثانية وخرج عن موقف أكابر القبط الذين وضعوا أنفسهم في صف الثورة وساهموا ماليًا في دعمها. 
قصة سليمان الحلبي ومأساته لم تنته بوفاته في عام 1800، بل هي مأساة لازالت باقية حتى الآن، حيث لايزال جسده مفصولًا عن رأسه التي تعرض حاليًا بمتحف الإنسان بقصر «شايوه» في باريس... هذا المتحف يضم أكثر من 1000 هيكل عظمي، بالإضافة إلى 18 ألف جمجمة، بعضها ترجع لأشخاص مشهورين مثل ديكارت وسان سيمون وغيرهم، ويتم تصنيفها غالبًا بحسب أمراض العظام أو الأعراق أو الحقب التاريخية، كما أن بعضها جماجم منقوشة ومغطاة بالجواهر، لكن جمجمة سليمان الحلبي التي تقع في مقابل جمجمة ديكارت - وفقا لرواية الدكتور شاكر مصطفى - أمامها لافتة كُتب عليها كلمة «مجرم»!!
لا... لم يكن «سليمان الحلبي» مجرمًا كما يصوره الفرنسيون حاليًا... لقد آن الأوان لتصحيح الصورة التي يحاول الفرنسيون فرضها على العالم بأن سليمان الحلبي مجرم مأجور قام بعملية الاغتيال، لأنّ والده كان عليه ديون وضرائب كثيرة، وطلب سليمان من أحد ضباط العثمانيين تخفيف العبء عن والده!! 
وفقًا لتوافق الروايات التاريخية فإن سليمان الحلبي كان منضمًّا إلى النضال الشعبي ضدّ الفرنسيين، وبعد إخماد ثورة القاهرة الثانية بهذه الوحشية عاد أدراجه لبلده حلب، لاحقًا يبدو أنّ بعض قادة الانكشارية كانوا يبحثون عن فدائي يقتل كليبر في مصر، ويبدو أنّ هذا الأمر وافق سليمان الحلبي الذي أراد أن ينتقم لشيخه الأزهري أحمد الشرقاوي الذي قتله الفرنسيون، فغادر سليمان بلده للمرة الثانية إلى مصر، وانضمّ إلى رواق الشوام في الجامع الأزهر، وهو رواق لأهل الشام المنضمين إلى دراسة العلم والفقه في الجامع الأزهر، وبعد شهرٍ وبضعة أيّام كانت خطّة سليمان الحلبي قد اكتملت لتخليص مصر والعالم العربي من هذا الداهية العسكرية خليفة بونابرت، المسمّى كليبر.
ذهب كليبر في صباح يومٍ مُشمس (14 يونيو 1800م) إلى جزيرة الروضة بالقاهرة، لحضور عرضٍ عسكريّ لكتيبة منضمة حديثًا إلى الجيش الفرنسي في مصر، أنهى العرض العسكريّ وعاد مع المهندس المعماري للحملة الفرنسية إلى الأزبكيّة - مقر إقامته ونابليون من قبله - في قصر محمد بك الألفي.
سار كليبر والمهندس في حديقة القصر، قابلهما شابٌ متنكّر في ثياب شحّاذ... مدَّ الشحاذ يده لكليبر، لم يظنّ كليبر أنّه كان يقابل أجَله الآن، فعندما مدَّ يدهُ لهذا الشحّاذ، عاجله الشحّاذ بضربة خنجر نافذة أردته على الأرض قتيلًا، حاول المهندس أن ينقذ قائده، لكنّ سليمان الحلبي عاجلهُ بستّ ضربات، وعاد لكليبر ليطعنه ثلاث طعناتٍ أخرى ليتأكد من موته، وفرّ هاربًا!
بعد ساعة عثر جنديان فرنسيان على سليمان الحلبي مختبئًا قريبًا من مكان اغتياله لكليبر، قُدِّم سليمان الحلبي لمحاكمةٍ عسكرية، كلّ قضاتها فرنسيون... محاكمة لم تكن عادلة بالطبع، وكان الحُكم «إحراق يد سليمان الحلبي اليُمنى - لأنها اليد التي قتلت كليبر - ثمّ قتله بالخازوق»!!

نهاية مشّرفة 
رُويت عديد من الروايات عن شجاعة سليمان الحلبي في تلقّيه للحكم، فقد وضع يده بنفسه في النار لتحترق دون أن يتأوَّه، وكذلك تقبَّل حكم الخازوق دون هلعٍ أو انهيار.
ومع خروج الحملة من مصر أخذ الفرنسيون رفات كليبر وخنجر وجمجمة سليمان الحلبي إلى فرنسا، حيث عُلقت جمجمة كليبر باعتباره بطلًا وأسفل منه جمجمة سليمان الحلبي باعتباره «مجرمًا» قضى على حياة هذا «البطل» الذي احتلّ مصر وقتل الآلاف من الأبرياء!! 

المعلم يعقوب... الخائن لمصر 
على النقيض تمامًا، تواجدت في نفس الوقت شخصية «المعلم يعقوب» أو «الجنرال يعقوب»، ذلك المصري القبطي الذي يراه بعض المؤرخين أنه خائن لمصر لتعاونه مع الحملة الفرنسية ضد المصريين. 
عندما أراد الفرنسيون بسط نفوذهم على صعيد مصر استعان الجنرال ديزيه بالمعلم يعقوب يوحنا في حملته التي قام بها لإخضاع الصعيد ومطاردة جيش مراد بك، فقام بتجهيز ما يلزم الحملة وتأمين مواصلاتها والمشاركة في القتال بهذه الحملة، حيث كانت لديه معرفة بطريقة تفكير المماليك لعمله معهم فترة طويلة واشتراكه في الحروب بصفوفهم... واستطاع المعلم يعقوب تحقيق الانتصار ضد قوة مملوكية في أسيوط، مما دفع ديزيه إلى أن يقدم له تذكارًا عبارة عن سيفٍ منقوش على مقبضه «معركة عين القوصية 24 ديسمبر 1798م».
 بعد ذلك تولى يعقوب جمع الضرائب من أهالي الصعيد وكان يستخدم أبشع وأعنف الوسائل في الجباية، سواء مع أهل الصعيد المسلمين أو المسيحيين، لذلك كان أهل الصعيد يسمون حملة الجنرال ديزيه (جيش المعلم يعقوب)!! 
بعدها عاد يعقوب إلى القاهرة، وخلال ثورة القاهرة الأولى حوّل يعقوب داره إلى ما يشبه القلعة العسكرية، وجعل لها بوابةً محصنة يقف عليها الحرس المسلحون ليلًا ونهارًا، وتوافق ذلك مع شروع نابليون في بناء عدة قلاعٍ حول القاهرة، بحيث تحيط مدافعه بالقاهرة كلها، واعتبرت قلعة المعلم يعقوب واحدةً من قلاع الفرنسيين في القاهرة.
كما قام يعقوب بتقديم خدمات كثيرة لمساعدة الجنرال كليبر على قمع ثورة القاهرة الثانية، فقد كان حينئذ من ضباط ديزيه، فكافأه كليبر بأن وكله بجمع الأموال العامة من الشعب كيف يشاء، فلم يتوان يعقوب واستخدم أسوأ الوسائل لجمع المال، حيث كان يفرض على الفلاحين ما لا يطيقون على دفعه ومن لم يستطع كان أعوان يعقوب يتطاولون عليه بالسب والضرب وحرق ممتلكاته والاعتداء على أعراضه... كل هذا جعل ليعقوب حظوة كبيرة لدى الفرنسيين، وتم منح الجنرال كليبر يعقوب رتبة كولونيل وجعله على رأس فرقة عسكرية من شباب المسيحيين تم تدريبهم على أيدي ضباط فرنسيين، وتولى يعقوب على نفقته الخاصة تزويدهم بالسلاح والعتاد اللازم لهذه الفرقة... ونتيجة لكل ذلك تعاظمت ثروة المعلم يعقوب وازداد نفوذه. 
واستمر يعقوب في تقديم خدماته للاحتلال الفرنسي بعد اغتيال كليبر وتعيين الجنرال جاك مينو فكافأه مينو بأن منحه رتبة جنرال في عام 1801م.

نهاية مأساوية 
وضع يعقوب نفسه بصورة نهائية ضد المشاعر العامة للمصريين، ولم يترك لنفسه أي منفذ للتراجع، ومع نهاية الحملة الفرنسية على مصر وتسلم العثمانيين القاهرة من الفرنسيين بعد اتفاقية التسليم، نادى العثمانيون بالأمان واختصوا الأقباط بذلك، واستجابت الرموز القبطية لهذا النداء إلا يعقوب، الذي عزم على السفر إلى فرنسا، فجمع متاعه وأهله وعسكره من المسيحيين وخرج إلى الروضة ليكون مع من قرروا المغادرة مع الحملة إلى فرنسا، وركب السفينة الإنجليزية (بالاس) ليخرج من القاهرة في 10 أغسطس عام 1801م، ثم أصيب يعقوب بعد يومين من ركوبه السفينة بالحمى ومات على إثر إسهال حاد، وكانت آخر وصية له أن يدفن بجوار صديقه الجنرال ديزيه، وهناك شك في أن يكون الفرنسيون قد نفذوا وصيته، حيث تروي بعض الروايات أنه قد تم إلقاء جثمانه في البحر نظرًا لطول مدة السفر وعدم توافر وسائل لحفظ الجثة!! ■