الرستاق الجبال إذا حكت!

الرستاق الجبال إذا حكت!

إلى جبال الرستاق العمانية كانت وجهتنا في رحلة عبر الزمن تعود بنا إلى الوراء عقود طويلة، لنقف على آخر ما بقي من حصون وقلاع وقرى من حكم اليعاربة. وعلى رؤوس تلك الجبال تقع قرى سقفها الفضاء وجدرانها التاريخ... قرى عرفت كيف تحتفظ بإرثها التاريخي. يعيش سكانها في بيوت حجرية متراصّة تتماهى مع ألوان الجبال وقسوتها، في مشاهد متناقضة تثير الدهشة لحياة بسيطة وشاقة في آن واحد. ولأن وراء كل مكان حكاية وأسرار مخفية يبوح بها أهلها فقط... كان لابد لنا من راوٍ.

 

تعدّ الجبال بالنسبة للكثيرين المكان المناسب لإعادة الاتصال بالطبيعة، والاسترخاء والاستمتاع ببيئة نظيفة وهواء نقي.  لكن في الرستاق، ومنذ القدم، نشأت علاقة خاصة بين الجبال والعمانيين، فلجؤوا إليها لتحميهم من الأخطار الطبيعية والمطامع البشرية، ومنهم مَن اتخذها كمسكن، ومنهم من جعلها سندًا أو ظهيرًا للحماية. 
غادرنا مسقط مع ساعات الصباح الأولى إلى ولاية الرستاق التي تبعد 160 كيلو مترًا، ومع وصولنا إلى منتصف وادي بني عوف، انتهى الطريق المعبّد، وبدأت رحلة خوض مغامرة السير في الطرق الوعرة بين الأودية والجبال، باتجاه القمة التي لا يمكن الصعود اليها إلا باستخدام سيارات الدفع الرباعي. استغرق هذا الطريق أكثر من ساعة، على الرغم من أن المسافة قصيرة تقدر بـ 20 كيلومترًا، لوعورة المسار وضيقه صعودًا وهبوطًا بين سفوح الجبال وبطون الأودية. 
يبدو المشهد مهيبًا حين ترى جبالًا تعانق السماء، وبيوتًا معلّقة على رؤوس الجبال الشاهقة، وما زالت حتى يومنا هذا صامدة يتشبث بها ساكنوها رغم صعوبة الحياة هناك. 

بلد سيت
بين هذه الارتفاعات خرجت لنا بلدة جميلة ملونة اسمها «بلد سيت»، إنها كما اليرقة المخبئة في شرنقتها، لتخرج فراشة تحلق في سماء الرستاق، تفاخر بجمال ألوانها، محمّلة بكل أسرار وعظمة الماضي، تلتف حولها الجبال وتمتزج بها المدرجات الزراعية والمنازل القديمة لتشكل لوحة فاتنة.
قرأت ذات مرة أن سكان الجبال لا يثقون أبدًا في الغرباء، وينزعجون من تطفّلهم على حياتهم، وهم أقل تسامحًا وأكثر شراسة، وهي سمات يمكن أن تكون طبيعية لاستراتيجيات البقاء في الأماكن الوعرة، ونمط للحياة المنعزلة. 
تبعد هذه البلدة عن مركز الولاية حوالي 40 كيلومترًا. هذا المكان يستهوي الكثير من محبي المغامرات وتسلق الجبال، شاهدنا بعضًا منهم، ومن جنسيات مختلفة، في طريقنا إلى الأعلى. 
أفضل الطرق لاستكشاف البلدة هي السير على الأقدام. الممرات ضيقة والمنحدرات شديدة لكن زواياها وتفاصيلها حميمة، تدخلك في سحر الماضي.
سكانها لا يتجاوز عددهم المئات، وتتمتع منازلهم بتصاميمها البسيطة الجميلة المتراصّة مشكلة طوق أمنيًا، وهذا التلاصق يحمل معاني اجتماعية تظهر مدى التلاحم والترابط بين العمانيين. تُرصّ الحجارة في بناء المنازل دون الحاجة إلى استخدام الإسمنت، ويستخدمون عوضًا عنه الجصّ والصاروج لكي يحموها من مياه الأمطار والمياه الجوفية. ورغم بساطة البناء والظروف المناخية وعوامل التعرية فإنها صمدت على مر الزمان. 
تلتف حول المنازل مجموعة من الشجيرات المتفرقة من السمَر والسدر والغاف، وتوجد أيضًا أشجار البوت، وتظهر بكثرة في مجاري الأودية وبالقرب منها، مما يكشف جمالًا تتفرّد به بلدة سيت. لقد أحببت هذا المكان أكثر من أي مكان آخر. 
يلجأ الأهالي للزراعة بطريقة المدرجات، وتتميز البلدة بالزراعة الموسمية، حيث يتم زراعة القمح والذرة والموز والفول والثوم والبصل والياس، كما تشتهر بزراعة النخيل والليمون. ويقوم أهالي البلدة بتربية النحل وإنتاج العسل، وهو يعتبر من النوع الجيد لِما يتميز به الوادي من تواجد كثيف من أشجار السدر والسمر والمراعي الخضراء.
يرعى الأهالي الأغنام والأبقار، ومايزال الكثير منهم يستخدم السعفيات بالصناعات اليدوية، مثل صناعة القفير والخصف والسيحة، وغيرها من المنتجات التي تدرّ عليهم مدخولاً جيدًا.
من الممكن مشاهدة صورة بانوراميه للمكان من أحد بيوت الضيافة على التلة التي توقفنا عندها للاستراحة. هذا النزل الصغير يمتلكه أحد سكان البلدة واسمه زاهر. 
كان لطيفا للغاية معنا، وأخبرنا بعض القصص عن هذا المكان المليء بالمقتنيات الأثرية التي توارثها عن أجداده، قال:  «إن هذه البيوت القريبة منا ليست أطلالاً، وإنما ماتزال تُسكن، وتعمّر وتصلّح، وتُزرع وتُحصد، ويمرح الأطفال في البساتين الخضار، ويتسامر أهلها ليلًا عقب يوم عمل شاق، ويتشاركون الأفراح والأحزان معًا».
ويواصل زاهر حديثه عن تفاصيل حياتهم التي ورثوها عن أجدادهم، بعد أن قدّم لنا القهوة والحلوى العمانية: «يستيقظ الأهالي مع ساعات الصباح الأولى، ويبدؤون بتفقد محصولهم ومواشيهم، ونقل العلف إليها، ويقطفون الثمار من بساتينهم، ويمشون إلى الأفلاج لجلب المياه، بينما تقوم المرأة بإعداد الطعام في المنزل بطريقة تقليدية بمطبخ ريفي. ويعمل الكثير هنا بالبلدة بالصناعات التقليدية، فهي جزء من الهوية العمانية». ودّعنا (زاهر) بعد أن أرشدنا إلى أهم الأماكن التي يجب ألا تفوتنا في الرستاق، وأكملنا الجولة.
لم نخرج بعد من بلد سيت... اعترضتنا مجموعة من الأبقار، فتوقفنا مجبرين قليلاً حتى تعبر ونلتقط بعض الصور... يقول عدنان الذي شاهدناه مع أبقاره بأنه أمضى أكثر من 60 عامًا في هذه البلدة، و يعيش حيث عاش أجداده في نفس المنزل. وبأنهم يبذلون جهودًا كبيرة في صيانة الطرق، والحفاظ على هذه المسارات الجبلية بأنفسهم، بوضع حواجز من الأحجار في المواقع الخطرة لتفادي سقوط المركبات نتيجة الطرق الوعرة. «إلا أن استمرار تعرّض الطرق وتأثّرها بالأجواء المناخية تسبّب في هجرة البعض من أبناء البلدة إلى مناطق أخرى آمنة، فعندما تتأثر المنطقة بالأجواء المناخية ينقطع التواصل مع مركز الولاية لوعورة الطريق في المنحدرات الجبلية والأودية، والوسيلة الوحيدة لنا في حالات الطوارئ هي اللجوء إلى سلاح الجو السلطاني العماني عبر طائراته العمودية، إذ لا يمكن نقل الحالات المرضية الحرجة إلا من خلالها. كما يتضرر طلاب القرية في مثل هذه الحالات الجوية بانقطاع الدراسة لفترات ليست بسيطة، وذلك لأن المدارس تعاني من نقص المعلمين، لأن معظمهم من خارج البلدة، مما يضطرهم يوميًا إلى سلك هذه الطريق الخطرة الواقعة بين المنحدرات الجبلية».
يواصل عدنان حديثة عن المكان ويقول: «إن مشكلة المياه هي أيضًا ضمن المشاكل التي تواجهها البلدة، إذ إن كمية المياه لا تكفي للمنازل والزراعة، و الأفلاج هي واحدة من المصادر الرئيسية للمياه، ورغم توفّر المياه في الشتاء مع موسم الأمطار إلا أنها تقل بشكل كبيرة أثناء الصيف».

فلج الميسر
مثل أماكن كثيرة زرتها في عمان، تُعتبر الأفلاج هي نظام الري المستخدم في الزراعة. وهذا النظام المبتكر اخترعه العمانيون، ويعود تاريخة إلى عام 500 ميلادي، حيث يتم توجيه المياه من الينابيع الجوفية باستخدام الجاذبية عبر ممرات ومسارات محددة. ولأهمية هذه الأفلاج كانت تُبنى أبراج للمراقبة للدفاع عنها في بعض الأماكن. وتتشارك أكثر من عائلة هنا في قناة، وكل واحد منهم مخصص له كمية المياه اليومية اللازمة لزراعته، اعتمادًا على حصته في بناء القناة. ويوجد في الولاية أنواع أفلاج عمان الثلاثة: العدية والعينية والغيلية، والعدية عبارة عن  قنوات طويلة تجري تحت الأرض، وتمتاز بأنها دائمة في جريانها طوال العام، والعينية مصدرها العيون، أما الغيلية فمصدرها المياه السطحية الجارية بين الأودية. يبلغ عدد هذه الافلاج 294 فلجًا، منها 281 فلجًا حيًا، وأشهر أفلاج الولاية وأكبرها هو «فلج الميسر» الذي ضُم إلى قائمة التراث العالمي عام 2006. 

وادي الأفاعي
خرجنا من البلده نزولاً إلى وادي الأفاعي وهو الوادي الذي يقصده محبو المغامرات وكل شيء مثير. سُمّي بهذا الاسم لكثرة تعرجاته ومساره الذي يشبه حركة الأفاعي، وهو يبعد عن مركز الولاية 25 كيلومترًا. يتميز هذا الوادي بوفرة المياه، وتطويق الجبال له من كل اتجاه.  ويوجد فيه الكثير من البحيرات العميقة التي تصل الواحدة منها إلى 50 مترًا عمقًا و 30 مترًا طولًا تقريبًا، ولا ينزل هذا الوادي إلا الشخص المتمكن من تسلق الجبال والسباحة في الأعماق، حيث تنساب فيه أكثر من 9 أودية معروفة بغزارتها عندما تسقط الأمطار، ثم تصب في القرى المجاورة. يبلغ طول الوادي نحو 3 كيلومترات، ويحتاج المرور به من ساعتين إلى 6 ساعات، بسبب ضيق الوادي وعمقه واختلاف تضاريسه.

سوق بو ثمانية
عند زيارة الرستاق لابد من زيارة سوق المدينة الذي يقع في منتصفها (سوق بو ثمانية)، وسُمّي بهذا الاسم لوجود ثمانية أبواب تُستخدم كمخارج. من أسماء أبوابه وأشهرها: باب الشرجة وباب الحصن وباب الغشب وباب مناة، ويقصد بها مناة فلج الصايغي الذي يمر غرب السوق. كل شيء يباع هنا في هذا السوق: المحاصيل الزراعية واللحوم والأسماك والتمر والصناعات العمانية التقليدية التي اشتهرت بها الرستاق، وصناعة الحلوى والنسيج والحدادة والصفارة والصناعات الفضية. ويحتوي السوق على مكان خاص بـ«الكمه» وهي عبارة عن قبّعة مطرّزة يلبسها الرجال على رؤوسهم وقت خروجهم. وتُباع هنا الخناجر المميزة التي تشتهر بها الرستاق، والمعروفة بالخنجر الرستاقي الذي يتميز بالنقوش الدقيقة، إذ يستخدمون في صناعته نوعين من خيوط الفضة، هما بحسب التسمية المحلية عياص مر وعياص مفضفض، فالأول سلك رفيع والثاني عريض، ويتميز الخنجر الرستاقي بنقوش، كاللوزة وذيل العقرب والشواهد. 

جنوب الباطنة
دعونا نتصفح تاريخ هذه الولاية معًا بكل أسرارها وتفاصيلها، بواقعها وأساطيرها. الرستاق هي كلمة معرّبة لكلمة فارسية تعني السواد أو الريف، وهي إحدى ولايات منطقة جنوب الباطنة. ولاية تحتضن الكثير من التاريخ العماني، وتحتل موقعا مهمًا في منتصف الجزء الشمالي من سلسلة جبال الحجر الغربي، والمعروفة بسلسلة الجبل الأخضر، مما يجعلها حلقة وصل بين منطقة الباطنة وكلٍّ من المنطقة الداخلية ومنطقة الظاهرة، وذلك عبر أوديتها الشهيرة، مثل وادي بني غافر ووادي بني عوف ووادي بني هني ووادي الحيملي ووادي السحتن. تحيط الجبال بولاية الرستاق من ثلاث جهات، هي الشرق والغرب والجنوب، بينما تتفتح على سهل الباطنة الساحلي من جهة الشمال، لذلك تُعتبر الرستاق بوابة الجبل الأخضر إلى ساحل الباطنة، وحلقة الوصل بين الولايات الساحلية. 
هذا الموقع الجغرافي المتميز أهّلها أن تكون عاصمة عمان التاريخية، وفيها كانت بدايات حكم دولة اليعاربة حين تولّى الإمام ناصر بن مرشد اليعربي الحكم (1624-1649م). ومن الرستاق انطلق الإمام ناصر اليعربي، ذو العشرين عامًا، لتوحيد مناطق عمان الأخرى، والتي كانت متناثرة بين البرتغاليين من جانب والفرس من جانب آخر، وبدأ حربة ضد المحتليين محقّقًا انتصارات عظيمة. وكان لأهل الرستاق فضل كبير في توحيد عمان وحمل راية الجهاد وطرد البرتغاليين من عمان وسواحلها، ولم يقتصر دورهم على المشاركة في النواحي العسكرية والاقتصادية فقط بل شاركوا في الأمور الإدارية والدينية والثقافية.

القائد الموحد
أدرك الإمام ناصر اليعربي أن طرد البرتغاليين من أرضه يستلزم منه توحيد الجبهة الداخلية التي تصارعت قبائلها لعقود طويلة، فقد مزّق الصراع الداخلي البلاد، وأدى إلى تسلّط المحتل البرتغالي. وكان عليه أن يواجه ثلاث قوى مركزية في عمان معارضة لحكمه، مانع بن سنان العميري حاكم سمائل، وسيف بن محمد الهنائي حاكم بهلا، وقبائل بني جبر في منطقتي الظاهرة والظفرة، وقوى أخرى متفرقة في مناطق عمان المختلفة. وكان أول من بدأ الحرب معه بعضًا من رجال قبيلته، وعلى رأسهم مالك بن أبي العرب اليعربي، حاكم بعض أجزاء الرستاق، وابن عمه سلطان اليعربي حاكم بلدة نخل، واستطاع هزيمة الاثنين معًا والسيطرة على الرستاق ونخل، وتمكن من تعزيز نفوذه في هذه المناطق، وبعد ذلك بدأت الكثير من القرى والقبائل في الانضمام إليه، الواحدة تلو الأخرى، وعلى رأسها نزوى وإبراء وجعلان وحزم، والمناطق الشرقية كافّة ما عدا السواحل التي كانت تحت الاحتلال البرتغالي.
وخلال ثماني سنوات، توحدت جميع القبائل العمانية، وبدأ الإمام ناصر اليعربي بتوجيه حربة وهجماته ضد البرتغاليين في مدن وسواحل عمان، وبدأت المعارك الطاحنة بين الخصمين ،صاحب الأرض والمحتل في منطقة مطرح، وانهزم البرتغاليون وهربوا إلى حصونهم وأسوار المدينة، ثم تمكن الإمام اليعربي من فرض حصار على صحار ومسقط المحصنتين بمدافع البرتغاليين القوية، ورغم ذلك تمكنت قوّات ناصر من استعادة صور والقريات، وكان انتصارًا قويًا أضعف البرتغاليين في سواحل عمان، وأشعل الحماس لدى العمانيين. وفي عام 1643م تمكن من هزيمة البرتغاليين وتحرير صحار التي كانت من أهم موانئ عمان ومدنها. وفي عام 1648م أعلن الإمام ناصر بن مرشد اليعربي الحرب مجددًا، ودعا القبائل العمانية كافة للهجوم على مسقط وحصار البرتغاليين فيها، وخلال أسابيع تمكن العمانيون من الاستيلاء على كافة الحصون المحيطة بها، وسحق قوات الغزاة، إلى درجة أن البرتغاليين المتحصنين داخل أسوار المدينة عانوا من نفاد الإمدادات وانتشار الأوبئة. واضطروا تحت وطأة الحصار إلى عقد هدنة فرض خلالها العمانيون الكثير من شروطهم، وكانت هذه الضربة القوية البداية لتحرير مسقط بعدما ضعف نفوذ البرتغاليين داخل أسوارها، وبعد أشهر قليلة على هزيمة البرتغاليين وتوحيد الجبهة الداخلية، توفي الإمام ناصر بن مرشد اليعربي في عام 1649م، ليخلفه الإمام سلطان بن سيف الأول اليعربي.

مندوس عمان
توجهنا إلى وادي السحتن، الملقب قديمًا بـ «مندوس عمان»، لأن كل الثروات والخيرات تتواجد في هذا الوادي. مشاهد طبيعية تأخذ الألباب، يزيدها جمالاً البساتين الخضراء وينابيع المياه. يزرع هنا القمح والذرة والليمون واللوبياء والكثير من المنتجات الزراعية، بالإضافة إلى الثروات المعدنية. في عمان لا تقتصر الثروات الطبيعة على النفط والغاز الطبيعي فحسب، بل هناك العديد من الثروات المعدنية الأخرى التي تتواجد في الرستاق، أهمها معدن الكروم والنحاس والذهب والفضة، وجميع هذه المعادن تتواجد في صخور الأوفيوليت التي تنقسم إلى صخور الوشاح الغنية بمعدن الكروم وصخور القشرة المحيطية، أما صخور القشرة المحيطية فهي غنية بالنحاس والذهب والفضة، وتعد عمان من الدول المصنّعة للنحاس منذ قديم الزمن.
وتمتاز الرستاق بشكل خاص بتنوع وتباين جيولوجي كبير، فمعظم الصخور الموجودة على سطح الأرض لها مكاشف في منطقة الرستاق يسهل الوصول إليها. وزيارة واحدة لوادي السحتن ممكن أن تأخذك في رحلة عبر الأزمنة الجيولوجية تمتد إلى أكثر من 600 مليون سنة من عمر القشرة الأرضية.

عين الكسفة
ولاية الرستاق تمتلك العديد من عيون الماء وشلالات المياه المنسابة بين الصخور. فالارتفاع العالي نسبيًا لسلسلة الجبل الأخضر يجلب إليها الريح المحمّلة ببخار الماء، ثم يتكثف وينزل مطرًا، ويتسرب بعض ماء المطر إلى داخل الصخور الجيرية. وعندما يصطدم بطبقات صخرية صماء عديمة النفاذية يخرج من خلال الشقوق والفواصل بصورة تلقائية، ويتدفق على هيئة عيون مائية. وتتوافر في الرستاق بعض عيون الماء المعدنية الساخنة، خاصة في وادي السحتن، وأهم العيون هي «عين الكسفة» التي تقع في منتصف الولاية. تصل درجة حرارة عين الكسفة إلى 45 درجة مئوية ويصل معدل تدفقها إلى 81 لترًا في الثانية، وتشتهر بجريانها المستمر الذي لا يتأثر بالجفاف في فصل الصيف. وفي دراسة لوزارة موارد المياه العمانية ذُكر أن عين الكسفة تقع على محور فالق ضخم في صخور مجموعة الحجر الجيرية، تستمد مياهها من مياه الأمطار المختزنة منذ الفترات المطيرة السابقة في زمن البليستوسين، وتشير الدراسة إلى أن عين الكسفة تغذّي عين الثوارة الموجودة في نخل وعين الخضراء الموجودة في وادي السحتن. تمتاز هذه المياه بجودتها، وهي تستخدم للشرب والري والاستشفاء، كما تشكل مزارات سياحية من داخل وخارج عمان. ويقال كما سمعنا من أهل الرستاق، بأنها إحدى الكرامات التي أنعم بها الله عليهم بعد أن غزا محمد بن نور الثقفي عمان في أواخر القرن الثالث الهجري، في محاولة لفرض الحصار الاقتصادي على أهل الرستاق، ومنع جريان عين الكسفة، وقام بردم العين فكانت الإرادة الإلهية أن تنفجر تلك العين في اليوم التالي في مكان مجاور قريب منها، وما زالت إلى يومنا هذا مستمرة في التدفق والجريان، مانحة الخير لأهل الرستاق. 

أهالي الرستاق
فرضت الطبيعة على هذه الولاية إيقاعًا اتّسم بالجدية والجلَد مما شكّل شخصية أهالي الرستاق، فكانوا دائمًا ما يخرجون من بيوتهم مرتدين الخنجر أو الحزام المصنوع من قماش به فتحات على استدارته حول الخصر، تُملأ بطلقات البنادق والعصا التي كانت تُقتطع من عدة أنواع من أشجار العتم، وهو الاسم المحلي لشجرة الزيتون البري التي تنمو كثيرًا في الجبال المحيطة بولاية الرستاق، وهناك أيضًا شجرة السقب، وهي شجرة أصغر من العتم التي يقارب حجمها حجم شجرة السدر.

قلعة الرستاق 
تعد قلعة الرستاق ثاني أكبر قلعة في عمان بعد قلعة بهلاء، وتقع على تلة صخرية في منتصف الولاية. أنشئت منذ نحو ألف وثمانية أعوام في العصر الساساني (224-624م)، عصر كسرى الذي بلغت في عهده الإمبراطورية الساسانية أقصى اتساع لها. وتضم قلعة الرستاق برج كسرى الذي يُعتبر من أقدم أجزاء القلعة، ولسوء الحظ كانت القلعة مغلقة للترميمات، ولم نستطع الدخول إليها.

حصن الحزم
تغيرت الخطة وانتقلنا إلى حصن الحزم الذي يقع وسط واحة خضراء بين أشجار النخيل، وقد بناه الإمام سلطان بن سيف الثاني اليعربي في أوائل القرن الثامن عشر، ويقع قبره داخل أسوار الحصن الذي كان بمثابة حصن للدفاع ومكانًا لإقامته. ويُقال بأن تشييده استنفذ كل ميراثه من أبيه، واكتمل باستخدام قروض من أصول المسجد.
الحصن كبير، مستطيل الشكل، يتكون من طابقين مع فناء داخلي ضيّق وبرجين دائريين يحيطان بالزوايا الجنوبية والشرقية. أحد هذه الأبراج مصمم لاستخدامه كمخزن للتمور، بينما البرج الآخر أُعدّ لاستخدامه كسجن. بُنيت الأبراج العالية وفتحات المدافع في الطوابق العليا، بحيث لا تتقابل مداخلها المختلفة. أبوابها خشبية ضخمة ومجهزة بأوعية لصب الزيت المغلي أو عسل التمر من الأعلى في حال اختراقها. هذا الحصن يُعدّ من روائع العمارة الإسلامية، وغاية في التشييد، ويقال بأنه من عجائب الدنيا. الحصن ليس كبيرًا في المساحة فحسب، بل أيضًا في الارتفاع، وتربط بين الطابقين سلالم متصلة ليس من السهل العثور عليها. أما أكثر الغرف روعة فهي غرف الإمام المزيّنة بسقف خشبي مزخرف. وقد تم إعادة تزيين عدد من الغرف بالمفروشات والأدوات الأثرية القديمة، وتوجد العديد من الأواني الفخارية لتبريد الماء عن طريق تعليقها أمام النوافذ لالتقاط بعض الهواء النقي. وعلى عكس معظم الحصون في عمان، فإن الحصن لا يحتوي على عوارض خشبية بل أسقف مثبتة بواسطة أعمدة قادرة على تحمل هجمات المدافع. وهناك فلج تمّ ترميمه مقابل المدخل الرئيسي مباشرةً وعلى الجانب الخلفي من جدار الحصن. كما أن هناك الكثير من الغرف في القلعة يحتوي بعضها على مدافع وبنادق وخناجر وبعض القطع الأثرية، ويوجد أيضًا ممرات سرية للهروب من القلعة.
يحتوي الحصن على خمسة مَدافع برتغالية برونزية كبيرة، نُقش على أحدها تاريخ 1597م، وشعار القائد العام فيليب الثاني ملك إسبانيا. لاحظها الكولونيل أس بي مايلز، وذكرها في مذكراته في نهاية القرن التاسع عشر، ونوّه إلى أنها قد أُحضرت مع المدافع من حصون مسقط. ويوجد أيضًا بقايا بعض المركبات الخشبية الخاصة بالمدافع، وعلى سطح أبراج المدفعية توجد فتحات للمدافع بينها فتحات أخرى صغيرة مائلة للأسفل لإطلاق النار من البنادق. أما المدهش في هذا الحصن فهو غرف الجن، وحكايات خرافية سمعناها، كالجن التي ساعدت في بناء هذا الحصن، والتي كانت تلازم الإمام اليعربي وتحرسه في كل مكان، وكانت تحارب البرتغاليين معه. 

حارة قصرى 
المحطة الأخيرة لنا في الرستاق كانت في حارة قصرى، إحدى الحارات القديمة، وإحدى مكوّنات تاريخ وتراث الرستاق، ومازالت بيوتها تحتضن تفاصيل ساحرة، وإن هُجر بعضها أو اندثر بعضها الآخر. ممرات ضيقة مرصوفة بالحجارة، وبيوت قديمة بأبواب خشبية تبدو كلوحة زيتية تتيح لك إلقاء نظرة على الماضي، وسُمّيت بهذا الاسم لأن بيوتها كانت قصورًا، كما يوجد هنا منزل الإمام ناصر اليعربي، وبعض بيوت الأئمة. حارة قصرى كان لها الأثر الكبير في الحركة العلمية والثقافية في الولاية عبر العصور.
في وسط الحارة يقع «البيت الغربي»، وهو أحد البيوت القديمة الذي حوّلته صاحبتة زكية بنت ناصر اللمكية إلى متحف مفتوح بجهد شخصي... زكية التي رفضت التخلي عن منزل والدها الذي يعود بناؤه إلى أكثر من 300 عام، والذي لم يكن منزلًا فقط بل مدرسة لتحفيظ القرآن، ومكانًا لحفظ ودائع الرستاقيين، ومكتبة لحفظ المخطوطات. قبل أعوام أعادت ترميمه وتأهيله ليصبح متحفًا تاريخيًا يضم آلاف القطع الأثرية النادرة التي جمعتها من الأصدقاء والجيران من أهل قصرى، والتي تحكي قصة هذه الحارة. أصبح هذا المنزل موقعًا يتوافد إليه الناس من كل مكان، لما يتضمنه من مقتنيات تجعل الزائر يعيش حقيقة الماضي بكل تفاصيلة. 
مضى الوقت سريعًا، وأسدل الليل أستاره، وحلّ الظلام في هذه الحارة إلى ما لا نهاية، فقررنا العودة إلى مسقط. كل شيء في الرستاق يثير الدهشة، وما تزال أصداء التاريخ تهمس في كل مكان... جبال ووديان جميلة ممزوجة بروح الإنسان الثورية وأصالة العمانيين. في النهاية لابد أن نشكر الفريق المصاحب لمجلة العربي طوال هذه الرحلة، د. المعتصم الهلالي وأحمد الشرياني، من وزارة التراث بجنوب الباطنة، اللذين غمرانا بكرم الضيافة الرستاقي ■

الطريق إلى جبال الرستاق

ممرات ضيقة ووعرة في أعالي الجبال

وادي الحوقين في ولاية الرستاق 

بلد سيت كما الفراشة  الملونة تحلق في فضاء الرستاق

زاهر وخلفة بيت للضيافة يمتلك أجمل إطلالة بانورامية لبلد سيت 

الزراعة بطريقة المدرجات في بلد سيت

صناعة النسيج من الصناعات اليدوية العمانية التي يبرع بها أهالي الرستاق

زراعة وحصاد القمح كما في أي مكان في عمان

بالقرب من عين الكسفة هناك أماكن للاستحمام، ويقصدها الناس من كل مكان

قلعة الرستاق

تحتوي قلعة الرستاق على عشرة مدافع، أربعة في البرج الحديث، وثلاثة في برج الريح، وثلاثة في أسفل القلعة

حصن الحزم

ما تبقى من حارة قصرى، إحدى الحارات القديمة في الرستاق