معارك أدبية ناجزة في عصر النهضة العربية

معارك أدبية ناجزة  في عصر النهضة العربية

 كان الأدب العربي في عصر الانحطاط يعاني من ضحالة الإبداع واجترار المعاني واستهلاك الصور الباهتة وتداعي الأخيلة المبتذلة، وكان أغلب ما ينتجه الأدباء حينذاك سطحيًا بلا عمق فكري أو مسحة إبداعية، بل تحول إلى ألاعيب لفظية، وتعابير شكلية بدون مضامين تسمو به عن الكلام العادي، وتحول جزء منه إلى ألغاز ونوادر. وانحصرت مهام الشعراء في تسلية الأكابر وذوي النفوذ، فجنح أكثرهم إلى التكسب بقصائد تغلب عليها الصنعة والتكلف وخلت من رحيق الشعر وجفت من نسغ الفن الإبداعي، وانتفى فيها المضمون الفكري والقيم الإنسانية، وتفشى استعمال العامية في الشعر والنثر، وانتشرت المقطّعات وغابت القصائد الطوال.

 

لقد شكل احتكاك المشرق العربي بالغرب في أواخر القرن الثامن عشر رجّة قوية في مصر، أدت إلى إذكاء صحوة أدبية وفكرية وإبداعية كرد فعل طبيعي لمجابهة الغرب وثقافته وفكره. ولتحقيق ذلك المرام كان لابد من النفاذ إلى ساحة المعركة عبر بوابة الأدب العربي الذي طاله التخريب، وكان السلاح هو إحياء التراث العربي القديم وأصوله والامتياح من منابعه، واتخاذ ذلك التراث مرجعًا أساسًا لتخليص الأدب شعرًا ونثرًا من قيود الجمود الذي نشر عليهما أطنابه خلال فترة ما قبل النهضة أو عصر الانحطاط. 
وفي هذا السياق ظهرت حركة أدبية سماها روادها حركة البعث والإحياء، وتعدّ نقطة تحول بارزة في مسار الأدب العربي، وفي حركة الشعر العربي الحديث. 

عوامل نشأة حركة البعث والإحياء
لقد كان لظهور حركة البعث والإحياء أسباب وعوامل موضوعية، منها تَعرُّف المشرق العربي على الثقافة الغربية بعد حملة نابليون على مصر سنة 1798، والتي لم تكن عسكرية فحسب، بل واكبتها حملة فكرية وثقافية نتجت عنها تحولات سياسية وثقافية واجتماعية مختلفة، وكان لابد من صدّ ذلك الهجوم الكاسح للحضارة الغربية بمحاولات الحد من مؤثراتها على مقومات الحضارة العربية الإسلامية، وتعزيز الانتماء إليها والاعتزاز بالتراث العربي، والإحساس بهوة الانحطاط والرغبة في تجاوزه باستدعاء العصور الزاهية للأدب العربي، الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي، واعتماد أدبيات التيارات الفكرية الإصلاحية، كحركة التجديد والإصلاح التي ظهرت في مصر في القرن التاسع عشر، وهي حركة تسعى إلى إدخال مجموعة من الإصلاحات الدينية والاجتماعية من أجل النهوض بالأمة وتقويتها، ومن روادها الشيخ محمد عبده ورفاعة رافع الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وعبدالرحمن الكواكبي ومحمد رشيد رضا. 
وكانت مجلة «العروة الوثقى» الأسبوعية التي أنشأها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، قد صدرت في مارس 1884، وكان آخر عدد لها في أكتوبر من السنة نفسها حيث حظرتها بريطانيا فانقطعت عن الصدور، وتعد منبرًا للدعوة إلى وحدة الأمة ونهضتها ومقاومة الاستعمار البريطاني.
 
خطاب البعث والإحياء 
لقد كان خطاب حركة البعث والإحياء متعدد الأهداف، فقد عمل على إحياء التجربة الشعرية العربية القديمة من جهة، وترسيخ القيم الثقافية للإنسان العربي من جهة أخرى. وشعر هذه الحركة كان شعرًا غيريًا يوثق الأحداث السياسية والاجتماعية التي تطرأ على البلاد. كان  الشعراء يعودون إلى الشعر العربي القديم، يقتدون به ويستوحون صوره ورؤاه ولغته وأساليبه التعبيرية، ويحيون القيم الإنسانية والثقافية العربية القديمة كالكرم والشجاعة والفروسية، محافظين في ذلك على البنية الإيقاعية الكلاسيكية المتمثلة في وحدة البيت الشعري ذي الشطرين، ووحدة الوزن والروي والقافية. 
ومن ناحية أخرى ترتبط حركة البعث والإحياء بالحركة الإصلاحية والحركة السياسية والحركة القومية، مما أمدها بمضامين وموضوعات يطغى عليها الطابع السياسي والاجتماعي. ومن أهم رواد هذا الاتجاه محمود سامي البارودي وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي. 

تيار التجديد والمعارك النقدية
لكن ما أن حلّ الربع الأول من القرن العشرين حتى ظهر جيل جديد من الشعراء ممن نهل من ينابيع الآداب الإنجليزية والفرنسية وغيرها من الآداب الغربية، جيل يرى أن الشعر الحقيقي هو الشعر الذي ينحو نحو الطبيعة ويعبّر عن الهموم الذاتية والحياة الإنسانية عامة، وما يختلج في أعماق وجدان الشاعر من مشاعر وأحاسيس تجاه نفسه وتجاه كل ما يحيط به. وفي هذا السياق ظهرت معارك محتدمة بين تيار التقليد وتيار التجديد، ففي سنة 1913، كتب عباس محمود العقاد مقدمةً للجزء الثاني من ديوان عبد الرحمن شكري، وفيها يقول: «اليوم يتلقى قراء العربية هذا الجزء الثاني من ديوان شكري، فيتلقون صفحات جمعت من الشعر أفانين، ويرون في هذه الصفحات نظرة المتدبر وسجدة العابد ولمحة العاشق وزفرة المتوجع وصيحة الغاضب ودمعة الحزين وابتسامة الساخر وبشاشة الرضا وعبوسة السخط وفتور اليأس وحرارة الرجاء. إن شعر شكري لا ينحدر انحدار السيل في شدة وصخب وانصباب، ولكنه ينبسط انبساط البحر في عمق وسعة وسكون». 
إن العقاد يدافع في هذه المقدمة عن شعر الجيل الجديد ويلمّح إلى أن شعر البعث والإحياء شعر شديد وصاخب.  وفي سنة 1914، كتب إبراهيم عبدالقادر المازني مقالات خصّصها لنقد شعر حافظ إبراهيم، ونشرها فيما بعد في كتاب يحمل عنوان «شعر حافظ»، وكان هذا الكتاب يتضمن نقدًا لاذعًا ومرًّا لقصائد حافظ إبراهيم، ومقارنة بين شعره وشعر شكري، حيث انتهى المازني إلى أن شعر الأول شعر متصنع ومتكلف لا يمتّ إلى المشاعر الإنسانية بصلة، وأنه شعر سياسي وصحفي أو شعر مناسبات ومجاملات، شعر ضعيف وقاصر عن اكتناه أسرار الجمال والطبيعة والكون، بينما شعر شكري شعر جديد ينضح بالمشاعر الإنسانية والقيم السامية، تجد فيه نجوى الفؤاد وحديث القلب وصدق الإحساس، مما يجعله شعرًا غير متكلف.
والغريب أن المازني قد انقلب على شكري وساءت العلاقة بينهما وبلغت مستوى القطيعة النهائية بينهما. وكان ذلك بسبب ما كتبه شكري في مقدمة الجزء الخامس من ديوانه، حيث لام فيها المازني على انتحاله قصائد شعراء غربيين ونسبها إلى نفسه بعدما ترجمها إلى اللغة العربية. وقد أثار ذلك حفيظة المازني فشن عليه هجومًا نقديًا تجاوز شعره إلى النيل من شخصه، وضمن ذلك في كتاب «الديوان في الأدب والنقد» الذي ألفه مع عباس محمود العقاد، وصدر سنة 1921. وخصص فيه العقاد حيزًا كبيرًا لنقد شعر أحمد شوقي نقدًا جارحًا خارجًا عن أصول النقد البناء. لذلك اعتبر عدد من النقاد والدارسين أن تأليف كتاب الديوان كان من أجل تصفية حسابات مختلفة. لكن العقاد أراد بذلك أن يوضّح رأي مدرسته في الشعر والمقومات التي ترتكز عليها، إذ يرى أن على الشاعر أن يتغلغل في كنه الأشياء ويتعمق في نظرته للكون، وأن يعبر عن فلسفته الخاصة في الحياة، ويبسط الأفكار ويحلّلها، ويتأمل في الأشياء تأملًا عميقًا ونافذًا. أما التشابيه التي كان يأتي بها أحمد شوقي فهي، في رأي العقاد، تشابيه سطحية تنقل الحس الخارجي فقط ولا تنفذ إلى أعماق الأشياء، ومردّ ذلك أن شوقي كان يعتمد التشبيه الحسي على طريقة القدماء. وقد اختار العقاد أن ينتقد أضعف حصن من حصون شعر شوقي، وهو الرثاء، فهو لا يبرع في هذا اللون الشعري مقارنة بالألوان الشعرية الأخرى. 

صراع الشعراء
لقد اتخذت هذه الصراعات شكل هجومات بين الطرفين، فنجد مثلًا كتاب «على السّفود» الذي هاجم فيه مصطفى صادق الرافعي الجيل الجديد، وبخاصة العقاد، حيث نقده نقدًا موجعًا. لكن أنصار التجديد ظلوا يواصلون الإبداع والكتابة وفق تصوراتهم الخاصة ردًّا على أصحاب النزعة الأصولية والتيار السلفي وأنصار البعث والإحياء. فنجد رواد الرابطة القلمية مثلًا ينشرون الديوان تلو الآخر، وألف ميخائيل نعيمة كتابه «الغربال»، الذي يضم مقالات نقدية جريئة هاجم فيها الشعر الرديء. أما طه حسين، فقد رماه الأزهر بتهمة الكفر والإلحاد بسبب كتابه «في الشعر الجاهلي» الذي تمت مصادرته ومنعه، لكنه استطاع نشره من جديد بعد أن غير عنوانه إلى «في الأدب الجاهلي»، حيث حذف منه الفصول المثيرة للجدل.
ومع كل ما قيل وما حدث، فإن تيار التقليد وتيار التجديد، رغم خلافاتهما واختلاف منطلقاتهما وتباين قناعاتهما، قد استطاعا بصمَ تجربتيهما الإبداعية والنقدية بسمات خاصة ومميزة فرضتها الظروف الموضوعية التي أطّرت إنتاجاتهما الأدبية، كالزمان والمكان واللغة والدين والثقافة والمجتمع والبيئة المحيطة والظروف التاريخية، واستطاعا إغناء الحياة الأدبية والفكرية والثقافية في مصر والعالم العربي، وظل تأثيرهما مستمرًا ومساهمًا في بروز تجارب أدبية مختلفة، وله امتدادات ملموسة إلى اليوم ■