ابن خلدون ونظرية المعرفة

ابن خلدون ونظرية المعرفة

يُعرف عبدالرحمن بن خلدون (1332 - 1406م) كرائد عربي لعلم الاجتماع، لكونه أفرد في مقدمته الشهيرة لكتاب العبر مساحة كبيرة لموضوع لم يكن أحد قط قد تطرق إليه قبله وهو علم العمران البشري. وقد أضحى هذا الأمر معروفًا ومعممًا اليوم على صعيد واسع. لكن ما يهمنا أيضا لفت الانتباه إليه أنه، في سياق نظريته حول علم العمران البشري، قام ابن خلدون أيضا ببلورة نظرية للمعرفة لا تقل أهمية، في نظرنا، عن نظرية العمران البشري.

ينطلق ابن خلدون من مبدأ مفاده أن ثمة رابطا عضويا يقوم بين ما نسميه تجليات الثقافة وبين المجتمع وحياته ككل. فيرى أن حياة العلوم والمعارف مرتبطة بالحياة الاجتماعية التي تحتضنها وتبلورها. من هنا فإن الثقافة، في نظره، مادة حية ومتحركة.

ربما أن المسألة باتت اليوم بديهية، لكن قبل ستة قرون إلى الوراء لم يكن أحد قد طرح هذه الفكرة، لا شرقًا ولا غربًا.

لا علوم خارج المجتمع

فلنطلع على ما يقوله ابن خلدون حرفيا قبل أن نتوسع بالشرح. يقول: «إن العلوم تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة، والسبب في ذلك أن الصنائع إنما تكثر في الأمصار، وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة، والحضارة والترف، تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة، لأنه أمر زائد على المعاش.

فمتى فصلنا أهل العمران عن معاشهم، انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان، وهي العلوم والصنائع» (ابن خلدون، المقدمة، دار إحياء التراث العربي، بيروت طبعة بلا تاريخ ص434).

فلو أخذنا مثل البدو والرحل، سوف نلاحظ أنهم، حتى بعد تأمين معاشهم، لا يتوقون إلى بلورة علوم وصنائع. فالمسألة إذن تتعدى تأمين الاكتفاء المعيشي لترتبط بالبنية الاجتماعية الاقتصادية ككل.

يفترض ابن خلدون - عن حق - أن العلوم والصنائع (أي المعارف كما نسميها اليوم) موجودة عند كل الناس وجميع المجتمعات. فهو يعتبر أن «خاصية الإنسان هي العلوم والصنائع». لكن الفرق يكمن في أن ثمة بنى اجتماعية، كالبنية الحضرية، المتمثلة بالأمصار، تعمل على بلورة هذه المعارف، وأخرى، كالبنية البدوية، تكتفي بتأمين معاشها ولا تسعى لبلورة العلوم والصنائع».

نستخلص من التحليل الذي يقدمه ابن خلدون، وهو تحليل مبني منهجيًا على ثنائية عمرانية، أن شكل العمران البشري هو المسئول عن تقدم أو تأخر العلوم في المجتمعات. فالشكل البسيط للعمران، أي شكل العمران البدوي، غالبًا ما يترافق مع غياب للعلوم وتأخر في المعارف.

في المقابل، فإن شكل العمران المركّب، أي العمران الحضري، يترافق مع ازدهار للعلوم والصنائع والمعارف، ذلك «أن العلوم تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة».

وبذلك يكون ابن خلدون قد أوجد التفسير لمسألة كانت مستعصية على المفكرين قبل ذاك.

حيث إن العودة إلى شكل العمران البشري (حضري أو بدوي) هو الذي يسمح بفهم تقدم أو عدم تقدم العلوم والصنائع، ومعها المعرفة ككل، في المجتمعات. فالمجتمعات التي يغلب عليها العمران الحضري هي بيئات مناسبة لتبلور المعارف وتقدمها، في حين أن المجتمعات التي يغلب عليها الطابع البدوي، هي مجتمعات كابحة لتقدم المعارف، ذلك «أن الصنائع إنما تكثر في الأمصار، وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة، والحضارة والترف، تكون نسبة الصنائع في الجودة».

نلاحظ أيضا أن ابن خلدون لا يميّز بين الصنائع والعلوم، بل يضعها على قدم المساواة. ولا عجب في ذلك، حيث إن مفهوم العلوم النظرية الصرف الذي تبلور خلال القرن التاسع عشر في أوربا، ظاهرة نسبية.

ففي عصر ابن خلدون لم يكن هناك فرز بين العمل العلمي الفكري والعمل العلمي اليدوي. فكان الحرفيون المهرة، وبخاصة المعلمون من بينهم، يعملون وينتجون بفكرهم وأيديهم على حد سواء، بحيث لا حدود مصطنعة بين العلم والمعرفة، أو بين أهل العلم وغيرهم من أهل الإنتاج.

فالحقل المعرفي الأساس، في نظر ابن خلدون، هو حقل البنية الاجتماعية التي يطلق عليها تسمية العمران البشري.

من بنية المجتمع إلى بنية المعرفة

ثم يتابع ابن خلدون تحليله لمسألة المعارف والعلوم فيلاحظ أنها تغنينا على مستويين:

- المستوى النوعي (حيث تكسبنا كمية من المعلومات الجديدة).

- المستوى الكمّي (حيث تكسبنا بنية فكرية جديدة).

لا حاجة في أن نشرح ما يقصده العلامة ابن خلدون بالكسب الكمي للمعارف والعلوم. أما في ما يتعلق بالكسب النوعي للمعارف والعلوم، فنلاحظ أن مفكرنا كان عميقًا جدًا في طرحه.

وهنا لا بد من الإشارة إلى خطأ ارتكبه العديد من المستشرقين الذين اعتبروا أن السقف الفكري للفلسفة والتفكير العربي كان سقف الفكر اليوناني. في حين أننا سنلاحظ بعد قليل أن الفكر العربي قد تمكّن مرّات عدة من تخطي ما توصل إليه الفلاسفة اليونانيون الذين لم يتخطّوا أشكال المنطق الصوري المعروفة. فقد قام على سبيل المثال ابن خلدون باختراق المنطق الصوري (الذي كان مطلعًا عليه بطبيعة الحال) ليلوج إلى ما يعرف اليوم بالمنطق الجدلي.

يقول ابن خلدون: «إن الحضر لهم آداب في أحوالهم في المعاش والمسكن والبناء وأمور الدين والدنيا. وكذا سائر أعمالهم وعاداتهم ومعاملاتهم وجميع تصرفاتهم. فلهم في ذلك كله آداب. وهي صنائع يتلقاها الآخر عن الأول منهم. ولا شك أن كل صناعة مرتبة يرجع فيها إلى النفس أثر يكسبها عقلا جديدا تستعد به لقبول صناعة أخرى، ويتهيأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف» (ابن خلدون، المرجع نفسه ص433).

لا أعتقد أن السويسري جان بياجيه، المتخصص في دراسة آليات الذكاء عند الطفل، كان ليقول أفضل من هذا الكلام. مع العلم أن جان بياجيه ينتمي إلى القرن العشرين في حين أن ابن خلدون قد سبقه في ما قاله بخمسة قرون ونيّف.

فهذا «العقل الجديد» الذي يتكلّم عنه ابن خلدون يشار إليه اليوم بمصطلح البنية المعرفية. فالمعارف والعلوم تتميز في أنها تكسبنا، في آن معًا بحسب ابن خلدون، كمية من المعلومات الجديدة وانفتاحًا ذهنيًا على معارف وعلوم أخرى.

فالعملية المعرفية لا تكسبنا اطلاعًا على كمية من المعلومات الجديدة فحسب، بل تولّد فينا أيضا شهية فكرية لتقبّل معارف أخرى واستعدادا ذهنيا للذهاب أبعد من الكمية المكتسبة.

وقد أكد الشيء نفسه عالم الاجتماع الأمريكي المعروف بيتيريم سوروكين في كتابه الدينامية الاجتماعية والثقافية (Pitirim Sorokin, Social And Cultural Dynamics). حيث تكلّم، في الاندماج، عن شكل الاندماج الثقافي المنطقي - المعبّر (Logico - Meaningful Integration)، الذي اعتبره أرقى أشكال الاندماج الاجتماعي والثقافي.

ففي رأيه أن ميزة المعرفة تكمن في أنها تسمح للعقل بالانتقال، بنيويا، من عالم إلى عالم. فالعالم بالموسيقى يلتقي مع العالم بالرسم أو الرقص أو حتى الرياضيات أو الأدب دون أن يتعلّم بالضرورة لغة كل علم من هذه العلوم. فهو على استعداد لإدراكه وهذا ما يكفي.

العقل الجديد

ومفهوم «العقل الجديد» الذي تُكسبنا إياه المعارف والعلوم والصنائع بحسب ابن خلدون هو مفتاح تفسير تطور الثقافة وتبلورها عبر العصور. فلو أن المعرفة عند الإنسان كانت تقتصر فقط على مجرد تسجيل معلومات، لما تميّزت بطابعها الدينامي والحي. ولاتسمت بالطابع التكراري.

فالفرق بين المعرفة عند الإنسان والمعرفة عند الحيوان أو الحشرة، يكمن هنا بالتحديد، في هذا الفارق النوعي الذي لا يكدّس المعلومة اللاحقة فوق المعلومة السابقة، بل يجعل من المعلومة معرفة حية تدفع العقل باتجاه اكتساب معلومات فمعارف أخرى إلى ما لا نهاية.

من هنا فإن معرفة أجدادنا في البشرية، آدم وحواء، لا تشبه المعرفة التي نمتلكها اليوم، ذلك أنّ كل جيل من الأجيال أضاف على المعرفة شحنة نوعية جعلتها تنتقل إلى الجيل الآخر بحلّة جديدة، بشكل ومضمون جديدين في كل مرة. فسرّ التقدم الثقافي عند البشر يقوم على هذا «العقل الجديد» الذي نكتسبه في كل مرة نتزوّد فيها بمعلومة أو معرفة جديدة. وإلا لكانت ثقافتنا صورة طبق الأصل لثقافة أجدادنا وأسلافنا.

فلو نظرنا إلى ما يحصل في عالمي الحشرات والحيوانات للاحظنا مباشرة أنّ ما ينقصها - حتى عند أذكى الأصناف عندها - هو تحديدا «العقل الجديد» الذي تكلّم عنه ابن خلدون. فالحيوان يحيل كل المعلومات إلى غريزته التي تصنّفها إلى مقبولة أو غير مقبولة بحسب ما هو مسجّل فيها، فإن تطابق مع هذا السجل المرجعي الكبير الذي تشكّله الغريزة، حاز القبول، وإلا فلا.

فإن قدّمت للحيوان طعامًا لا يلقى رضى غريزته، يرفضه مباشرة ولا ينظر في أمره، حتى لو كانت له فوائد علمية وبيولوجية جمّة. وإن وضعت عطرًا اصطناعيًا للورد على عود خشب، يقصده النحل بعناد، حاسبينه وردة فيها رحيق.

فالمعرفة الحيوانية تراكمية، تكراريّة، غريزية، يحكمها منطق مغلق وواحد، في حين أن معرفة الإنسان تركيبية، غير تكرارية، ذهنية، ومفتوحة على الاستزادة بشكل مطرد ودائم. فبإمكان الإنسان أن يزداد علمًا، ذلك أن المعرفة عنده عمليّة ذهنيّة ديناميّة وحيّة، أما عند الحيوان أو الحشرة فهي مغلقة وموصدة بإحكام.

فــ«العقل الجديد»، الخلدوني، يحوّل المعلومة المعرفيّة من ماهيّة كميّة إلى ماهيّة نوعية. كما أنه يضع المعلومات في موقع بنيوي، فيه سابق وفيه لاحق. مع الإشارة إلى أن المعلومة اللاحقة ليست قائمة في الواقع، بل إنها استعداد بالقوة لاكتساب معلومة مشابهة جديدة.

من هنا تنشأ حركة حلزونيّة، جدليّة، ننتقل فيها مما نعرفه إلى ما لا نعرفه بشكل طبيعي، وقد تمكّن العلاّمة ابن خلدون من أن يدرك أن كل معلومة تنتقل إلى الذهن البشري هي على النحو الآتي: معلومة زائد بنية لمعلومة استعداديّة، جديدة. وتشكّل هذه البنية المعرفية، بانفتاحها، استعدادًا لاستيعاب المزيد من المعارف، فكلّما تعلّمت شيئًا في مجال الأدب فهمت أكثر ما يتعلّق بمجال الرسم أو الموسيقى أو حتى الرياضيّات (فتركيب اللغة منطقي وفيه معادلات شبيهة بتلك التي نجدها في العلوم). كلما انفتحت على علوم جديدة، انفتحت أمامي علوم لم أكن لأتصوّر أنه بإمكاني استيعابها. ذلك أن في ذهن الإنسان قنوات متصلة بين جميع الزوايا والمدارك.

فالمعارف تصبّ كلها، في نهاية المطاف، في عملية واحدة لخّصها ابن خلدون بكلمة «العقل الجديد».

وقد بيّن بالفعل جان بياجيه في دراساته (Jean Piagge La Representation Du Monde Chez L'enfant).

(Le Jugement Moral Chez L'enfant) أن عمليات التعليم تكسب الطفل أكثر بكثير من مجرد كمية معلومات. إنها تكسبه عقلاً جديدًا بكل معنى الكلمة، أي استعدادًا معرفيًا يتجلى على شكل انفتاح ذهني حلزوني مفتوح، ينتقل بالمعلومة إلى معلومة أخرى مساوية، أو إلى نقيضها، كما هي الحال في التحليل الجدلي الذي ينتقل فيه الذهن من الطريحة (Thesis) إلى النقيض (Antithesis) فتصل بعد ذاك إلى الخلاصة (Synthesis).

الكمّي والنوعي في المعرفة

بلغ ابن خلدون من خلال مفهوم العقل الجديد مستوى من التجريد لم يبلغه أحد قبله، في جميع الثقافات المعروفة في عصره وقبله. فالمعرفة، كما يحددها، تتميّز بمكوّنين: مكوّن مادي (المعلومة)، ومكوّن غير مادي (المعلومة الاستعدادية).

فالمعلومة الاستعدادية، موجودة في عقل الإنسان، لا في المعلومة التي تبلغ ذهنه أو وعيه. فلو كانت موجودة في المعلومة ذاتها، لأدركها واكتسبها الإنسان والحيوان والحشرة على حدّ سواء.

لكن كونها موجودة في ذهن الإنسان، المتلقي الحي لها، تتحول مباشرة إلى استعداد لاكتساب معلومات ومعارف أخرى سمحت للإنسان، من جملة ما سمحت به، بأن يصل إلى القمر.

أما عند الحيوان فالغريزة، كشكل جامد للوعي، فيتم تلقي المعلومة بشكل غير حي. وبالتالي لا تفاعل معها ولا تلاقح ذهنيًا ولا استزادة بالمعرفة.

كل ذلك تمكّن ابن خلدون من فهمه في قلعة ابن سلامة، في الصحراء المغربية، عام 1375م، فدوّنها ونقلها إلينا في المقدمة، لكننا لم نعمل على تطوير مفهومه هذا ولا نظريته منذ ذلك الحين، بحيث أضحت اليوم النظريات التربوية والنظريات المعرفية كلها من إنتاج مراكز الأبحاث والجامعات في الغرب.

فهل نلوم أحدًا سوى أنفسنا؟.
-------------------------------
* عميد معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية

--------------------------------

وأذكُرُ أنَّكِ كُنْـتِ طَرِيَّـة
وشاحاً على دَرْبِ رِيحٍ شقية
تلمّيـن معطفَـكِ الفستقي
على كنـزِ قامَتِكِ الفستقية
وقلتُ أنا : مرحباً .. فالتفتِّ
وأمطرتِ ثلجاً وناراً عَلَيَّـةْ
وكانتْ رموشُ النجومِ بعيداً
تُحاولُ جَرْحَ الغيـومِ العتيةْ
وكنتِ بِحَرْبَـةِ رِمْشٍ طَرِيٍّ
تُريدين جَرْحَ معاني التحيـةْ
وَسِرْتِ بَعِيدَاً ورأسكِ نَحْوِي
وفي النظراتِ معانٍ سخيـةْ
وشوقٌ بعينيـكِ أنْ ترجعي
كأشـواقِ لاجئةٍ يَافَوِيَّـةْ

راشد حسين

 

 

فردريك معتوق*