العلماء العرب آباء العلم الحديث

العلماء العرب آباء العلم الحديث

ليس هذا العنوان تلفيقًا فكريًا أو نزوة عاطفية بل حقيقة تاريخية رغم جميع المحاولات التي قام ويقوم بها بعض الباحثين الغربيين العنصريين منذ العصور الوسطى حتى اليوم لطمس تأثيرات العلم العربي الإسلامي الذي ولد وتطور ونضج خلال العصور الوسطى في نشأة العلوم الحديثة، وهو العلم الذي اعتبره مؤسس تاريخ العلم جورج سارطون أساس نشأة العلم الحديث ونشأة الحضارة الحديثة. 

 

المؤسف أنه لم يكتب حتى الآن أي تاريخ مفصل لتأثيرات هذا العلم في ولادة الحضارة الغربية الحديثة وأفكارها مع أن أوربا ورثت كما يقول المؤرخ الألماني توماس جولد تشتاين، في كتابه «المقدمات التاريخية للعلم الحديث»، مجموعة ضخمة ومتكاملة تقريبًا من المعلومات والمعارف العلمية العربية الإسلامية المتخصصة التي تعتبر بلا شك أكبر مخزون من المعارف العلمية راكمته البشرية حتى ذلك الحين (أي العصور الوسطى)، إلا أن الكثير من المدونات ومخطوطات هذا التراث العلمي الخصيب، إما فقدت وإما لا تزال مركونة في مستودعات ومكتبات الجامعات والمتاحف وأقبية الأديرة والكنائس في الغرب، ومن أمثلة ذالك أن العالم المشهور وأبرز شخصية في الرياضيات محمد بن موسى الخوارزمي كان قد وضع بالعربية أقدم كتاب في الحساب لكن أصله العربي مفقود ولا يعرف اليوم إلا في ترجمته اللاتينية. كذلك كتابه المهم «حساب الجبر والمقابلة» الذي ترجمه جيرار الكرموني إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر فإن أصله العربي مفقود أيضًا، وقد اعتمدته جامعات أوربا ككتاب رئيسي لتدريس الرياضيات حتى القرن السادس عشر، ومنه انتقلت مبادئ الجبر إلى أوربا.
لم يقتصر هذا التراث العلمي العربي الإسلامي على الموضوعات العلمية وحدها بل شمل حقول الأدب والفلسفة والتاريخ والجغرافيا والملاحة البحرية والعمارة والموسيقى والقانون وغيرها من موضوعات الفكر التي كانت سائدة في ذلك العصر، لكن معظم الباحثين الغربيين في تاريخ العلم درجوا على تقسيم هذا التاريخ إلى عصرين فقط: العصر الإغريقي وعصر النهضة الأوربية الحديثة، أي أنهم أغفلوا دور الحضارات العظيمة التي سبقت العصر الإغريقي من ناحية، وتخطوا من ناحية أخرى الآثار العلمية للحضارة العربية الإسلامية التي استمرت حوالي سبعة قرون مما أثار دهشة واستغراب مؤرخي العلم الوضعين وعلى رأسهم جورج سارطون الذي يقول في كتابه «تاريخ العلم»: «من سذاجة الأطفال الافتراض أن العلم بدأ في اليونان بل سبقته آلاف الجهود العلمية في مصر وبلاد ما بين النهرين والهند وبلاد فارس، لذلك يعتبر العلم اليوناني إحياءً أكثر منه ابتكارًا بل هو امتداد لعلوم الحضارات القديمة». لقد بين سارطون في هذا الكتاب مدى تأثير الحضارات القديمة في الحضارة اليونانية وعلومها، لاسيما الحضارتين المصرية والبابلية، مؤكدًا على أن تراث هاتين الحضارتين يشتمل على وثائق علمية موغلة في القدم لا نجد نظيرًا لها في التراث العلمي اليوناني. كما يرد على مؤرخي العلم العنصريين الذين حذفوا العلم العربي الإسلامي من تاريخ العلم بقوله في الجزء الأول من كتابه المرجع «مقدمة في تاريخ العلم»: «أن بعض المؤرخين يحاولون طمس ما قدمه العرب والمسلمون للعالم من الفكر العلمي، قائلين بأن عمل هؤلاء اقتصر على نقل العلوم القديمة ولم يضيفوا إليها شيئًا جديدًا وهذا خطأً جسيم بحق إحدى أهم المراحل في تاريخ العلم. لقد كان العرب أعظم معلمين في العالم، وقد أضافوا الكثير على ما أخذوه وترجموه من العلوم وأوصلوها إلى درجة جديرة بالاعتبار من حيث النمو والرقي».
أما مؤرخ العلم الشهير وأستاذ الرياضيات السويسري الأمريكي فلوريان كاجوري (ت 1930)، فيقول في كتابه «تاريخ الفيزياء»: إن العلماء العرب والمسلمين هم أول من بدأوا المنهج التجريبي في العلوم ودافعوا عنه بحرارةٍ، وهو المنهج الذي يعد مفخرةً من مفاخرهم إذ كانوا أول من أدرك فائدته وأهميته في العلوم الطبيعية، ويأتي ابن الهيثم على قمة رواد هذا المنهج الذي كان اليونانيون والرومان يحتقرونه وكانت الكنيسة تعتبره بدعة إسلامية ومن يتبناه يعتبر كافرًا، وهو الاتهام الذي وجهته إلى الراهب روجير بيكون أحد أوائل المتبنين لهذا المنهج في البحوث العلمية، بالإضافة إلى ذلك يحرص الأوربيون على طمس وإخفاء دور العلماء العرب المسلمين في النهضة العلمية الأوربية الحديثة وتطورها وهو أحد مهازل الفكر العنصري الأوربي، مع أن مؤلفات هؤلاء العرب كانت مراجع معتمدة للدارسين والباحثين في الجامعات الأوربية العريقة حتى أواخر القرن السابع عشر، كما كانت مفاتيح للعلوم الفيزيائية والرياضية والطبيعية والفلكية والفلسفية التي قامت النهضة العلمية الأوربية عليها والتي ساهمت بفعالية في تقليص دور الكنيسة الاستبدادي ومحاكم التفتيش الرهيبة التي حاربت كل تفكير حر، ويعتبر بعض الباحثين ومنهم الدكتور جورج صليبا في كتابه «العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوربية» أن مراجع علمية عربية مهمة نسبت إلى غير مؤلفيها العرب الحقيقيين أو حرفت أسماؤهم فطمست حقيقة هذه الأسماء.

التراث العلمي
لقد ساهمت عوامل متعددة في تكوين هذا التراث العلمي وتطويره، أهمها: 
1- حرية الفكر والرأي العلمي النسبيان، وهذه الحرية من الضروريات الأساسية لأية نهضة علمية أو فكرية.
2- تأكيد القرآن والأحاديث النبوية الكثيرة على أن العلم نور الحياة وأن دوره مهم جدًا في تطور الحياة الإنسانية ورفاهيتها والتعرف على ألغاز الكون وقوانينه وكشف أحاجيه الكثيرة.
3- التسامح الديني والانفتاح الفكري على جميع الحضارات والشعوب ذات العقائد والأديان المختلفة التي احتك بها المسلمون خلال فتوحاتهم، فنشأ عدد كبير من العلماء وطلاب العلم في هذه البيئة المسلمة المتوهجة والخصيبة. وكانت العربية لغة هذا العلم، فأقبل العلماء على البحث والتأليف في مختلف الفروع العلمية، فترجموا علومًا وابتكروا أخرى وأضافوا كثيرًا من الأفكار التي نسبت إلى غيرهم. ويقول الدكتور عبدالحليم منتصر في كتاب «أثر العرب والإسلام في النهضة الأوربية»، إن العرب المسلمين تكلموا في التطور قبل داروين بقرون، وتحدثوا عن الجاذبية والربط بين السرعة والوزن والمسافة قبل نيوتن بمئات السنين، وعلى رأسهم أبو الفتح الخازن. وتحدث ابن خلدون عن أثر البيئة على الأحياء قبل لامارك، وشرح ابن النفيس الدورة الدموية الصغرى قبل هارفي ببضعة قرون، كما تحدث ابن الهيثم عن طبيعة الضوء وسرعته وانكساره قبل علماء أوربا، وقاسوا محيط الأرض وقدّروا أحجام الكواكب وما بينها من مسافات قبل جاليليو وكبلر وكوبرنيك، وأضاف البتاني والفرغاني والكندي والخوارزمي وعبدالرحمن الصوفي (ت 986م) وغيرهم معلومات كثيرة في علم الفلك، وابتدع الخوارزمي استعمال الأرقام في الحساب فاختار سلسلتين من هذه الأرقام، الأولى تعرف بالأرقام الهندية ۱ - ۲ - ۳ والثانية تعرف بالأرقام الغبارية 3-2-1، والتي كان لها آثار ضخمة في تطور العلوم ونشوء الفكر العلمي الحديث إلى جانب نقل الصفر الذي لعب أيضًا دورًا كبيرًا في الرياضيات، ونقلوا كذلك صناعة الورق التي ساهمت في نشر الكتب، وقد أنشأ الخوارزمي أيضًا علمَي الحساب والجبر، ووضع العلماء العرب والمسلمون كتبًا في علم النبات والحيوان والمعادن والفلك والرياضيات والكيمياء والصيدلة وحساب المثلثات والهندسة والطب والموسيقى وغيرها من الموضوعات، وكانت هذه الكتب مراجع معتمدة في جامعات أوربا حتى القرن السابع عشر، كما يؤكد معظم مؤرخي العلم وعلى رأسهم جورج سارطون الذي يقول: «لولا أعمال العلماء العرب لاضطر علماء النهضة الأوربية أن يبدأوا من حيث بدأ هؤلاء، ولتأخر سير المدنية عدة قرون». 
الواقع أن الحضارات على مدى التاريخ لم تكن معزولة عن بعضها البعض، وأن تقدم الفكر الإنساني كان نتيجة اختلاط أفكار الحضارات فيما بينها، وهذا ما حصل إثر احتكاك الأوربيين بالحضارة العربية الإسلامية وتراثها العلمي الذي انتقل إليهم عبر ثلاثة مسارب بعد ترجمته إلى اللاتينية: الحروب الصليبية، الأندلس وصقلية.
1- مسرب الحروب الصليبية:
كان الهدف الرئيسي للحملات الصليبية الثمانية على المشرق العربي (1096-1297)، استرجاع الأراضي المقدسة، أي فلسطين التي ولد فيها المسيح، من أيدي المسلمين وإبادة المشرق العربي الإسلامي مهد الإسلام الذي اعتبره الرهبان الأوربيون هرطقة مسيحية.
كان هؤلاء الرهبان مع الملوك الذين حرضوا على الحروب الصليبية يعتقدون أن التخلف المريع في كل نواحي الحياة يطغى على سكان هذا الشرق كالتخلف الذي يطغى على الأوربيين أنفسهم، والذي أجاد في وصفه أسامة بن المنقذ في كتابه «الاعتبار»، لكنهم ذهلوا غاية الذهول عندما وجدوا سكان هذا المشرق، مسلمين ومسيحيين، يرفلون في حضارةٍ زاهرة، فأخذوا يتوددون إليهم ويتعاونون معهم في تسيير شؤون الإمارات التي أقاموها على شواطئ الشام وفلسطين، ونسجوا معهم روابط عائلية، إلا أنهم طردوا بعد قرنين من الزمن دون أن يحققوا أهدافهم، لكنهم أنعشوا الحركة التجارية والثقافية بين الشرق والغرب مع أخذهم بعض العلوم العربية لأن هدفهم الأساس كان الحرب والقتل والنهب والدمار بحيث لم يتمكنوا من استيعاب سوى القليل من هذه العلوم بسبب جهلهم المدقع وبربريتهم وتعصبهم المقيت، لكن بعض المؤرخين يعتبرونهم النافذة الشرقية التي انتقل عبرها بعض التراث العلمي العربي إلى أوربا في العصور الوسطى. ويقول بعض الباحثين إن إحساس هؤلاء الأوربيين بالدونية وعقدة النقص تجاه حضارة المسلمين التي احتكوا بها قد ترسخ في عقولهم ودفعهم إلى محاولة طمس تأثيرات هذه الحضارة وعلومها في نهضتهم الحديثة وتخلصهم من سلطان الكنيسة الطاغي على عقولهم الذي استمر حوالي 1500 سنة، وهو ما نجده حتى اليوم في بحوث بعض المؤرخين الأوربيين حول هذا الموضوع.
2- المسرب الأندلسي: 
 كانت مدن الأندلس المسارب الرئيسية لعبور التراث العلمي العربي الخصيب إلى أوربا وإيقاظها من سباتها العميق، فقد استمر حكم العرب المسلمين للأندلس حوالي ثمانية قرون (710-1492) استطاعوا خلالها إنشاء إمبراطورية عالمية أصبحت منارةً للتقدم والرقي، فشيّدوا الجامعات في قرطبة وطليطلة وغيرهما من المدن الإسبانية التي انتشرت فيها المكتبات والوراقين، وأصبحت مقصدًا للأوربيين لا سيما رجال الدين المسيحيين لينهلوا منها العلم والمعرفة.
تعتبر الفترة بين عامي 1100 و1500 الفترة الرئيسية التي تكونت فيها أسس الحضارة الأوربية الحديثة والتي تتميز بالتأثير العربي الشامل في كافة الميادين العلمية والثقافية بحيث كانت الكتب العربية الأساس الجوهري لجميع مواد التعليم في مدارس أوربا اللاتينية في العصور الوسطى. وعندما استرد الإسبان طليطلة من العرب عام 1085م بقيت هذه المدينة فترة طويلة محافظةً على موقعها كأحد أهم مراكز الدراسات الإسلامية وترجمات الكنوز العربية إلى اللاتينية ونقلها إلى الغرب، فقد أنشأت فيها بفضل مساعي رئيس أساقفتها ريموندو الأول (1126-1151) مدرسةً نظامية للترجمة على غرار مدرسة بيت الحكمة التي أنشأها المأمون في بغداد، وقد نشطت الترجمة في هذه المدرسة نشاطًا عظيمًا بحيث انتشرت ترجماتها بين الأوساط الشعبية في مختلف أنحاء أوربا، كما أصبحت مقصدًا للعلماء من مختلف أنحاء هذه القارة، فجاء ميخائيل سكوت من بريطانيا، وهو أحد ناقلي فلسفة ابن رشد إلى اللاتينية، ومترجم كتاب الهيئة في الفلك للبطروجي، وكذلك روبرت أوف تشيستر الذي ترجم كتاب الخوارزمي الشهير «الجبر»، وإدلارد أوف باث أحد كبار علماء الإنجليز قبل روجر بيكون، لكن جيرار الكرموني كان أكثر علماء طليطلة أثرًا في النقل إذ ترجم من العربية إلى اللاتينية حوالي 87 كتابًا في شتى العلوم، منها: «المجسطي» لبطليموس، و«أصول الهندسة» لإقليدس، ورسائل متفرقة لأرسطو وأبوقراط، كما لمع في هذا المجال اسم اليهودي المتنصر يوحنا الإشبيلي (ما بين عامي 1135-1153) الذي ترجم كتباً في الحساب والفلك والتنجيم والطب والفلسفة، لاسيما كتاب أبو العباس أحمد الفرغاني- «المدخل إلى علم هيئة الأفلاك وحركات النجوم»، والأسقف جونديسالينوس الذي كان عميد المترجمين، وميخائيل الاسكتلندي وهيرمان الألماني وغيرهم. ويقول فيليب حتى في كتابه: تاريخ العرب أن العلم والفلسفة العربيان اتصلا بأوربا عبر منطقة اللورين التي أصبحت منذ القرن العاشر مركزًا علميًا مهمًا لنمو العلوم العربية وانتشارها في سائر أنحاء ألمانيا وإنجلترا، وهكذا تسربت مبادئ هذه العلوم الأندلسية إلى غرب أوربا، وبذلك أنجزت إسبانيا مهمتها كوسيط في هذا الميدان.
3- المسرب الصقلي:
شاركت مدن صقلية المدن الإسبانية في هذا الميدان بحيث لعبت دورًا مؤثرًا في نشر العلوم العربية والاهتمام بها طيلة ثلاثة قرون تقريبًا خلال سيطرة الأغالبة والفاطميين عليها، ثم خلال حكم النورمنديين الذين لم يحاربوا العرب وحضارتهم بل تعاونوا معهم وتقربوا إليهم وعينوا الكثيرين منهم في وظائف حكومية عالية وأسبغوا العطايا على العلماء العرب مثلما فعل روجير الثاني مع العالم الجغرافي الإدريسي، وقد أتقن معظم الملوك النورمان اللغة العربية وكانوا يقرأون الكتب العربية بلغتها الأصلية.
لقد كانت صقلية ملتقى ثلاث ثقافات يونانية وعربية ولاتينية، لذلك ساهمت في نقل الفكر اليوناني والعربي إلى الغرب وكانت هذه اللغات الثلاث تستعمل في المعاملات الرسمية.
وبما أن سلطات ملوك النورمان وخلفاءهم شملت جنوب إيطاليا، فقد غدت جسرًا عبرت عليه العناصر العلمية والثقافية العربية إلى شبه الجزيرة الإيطالية وأوربا الوسطى لا سيما صناعة الحرير والملابس الفاخرة وفنون الأدب المختلفة.
وفي القرن الخامس عشر تبنت مدينة البندقية الغنية الأزياء الإسلامية في الفنون والآداب ونشرتها. ومنذ القرن الثالث عشر ونتيجة لترجمات العلوم والآداب والفنون الإسلامية بدأ الأوربيون يستيقظون من سباتهم العميق لينسجوا حضارةً جديدة استنادًا إلى ما أخذوه من حضارة العرب في الوقت الذي بدأت فيه شمس هذه الحضارة بالأفول مع سقوط مدينة غرناطة عام 1492م. 
ويؤكد ذلك قول مؤرخ العلم الفرنسي الشهير المعاصر رينيه تاتون (توفي عام 2004): «إن المكاسب العلمية والتكنولوجية الواسعة التي حققتها أوربا فيما بعد (الثورة الصناعية) قد قامت دون شك على إسهامات العلماء العرب والمسلمين الذين بذروا أول بذور الحضارة الحديثة في العالم». كما يؤكد صحة قول جواهر لآل نهرو، والفيلسوف ألكونت سان سيمون أحد رواد دعاة الثورة الصناعية والإنمائية وغيرهما من المفكرين الأحرار أن العلماء العرب هم آباء العلم الحديث ■