فرانز فانون... الاستقلال عبر العنف الثوري

فرانز فانون... الاستقلال عبر العنف الثوري

عندما قَدِم فرانز فانون (1925-1961) إلى الجزائر في 23 نوفمبر 1953، أتى بكل ما يملك من قدرات وملكات وعُدَّة من المفاهيم والتطلعات بقصد تحقيق تجربته الثورية التي يمكن اختزالها بضرورة إسقاط النظام الاستعماري عبر العنف الثوري أو الثورة العارمة، وليس فقط الحرب كما يرى البعض، خاصة في المتروبول الفرنسي. العنف أو الثورة الغاضبة هي التعبير الأخير عن وضع استعماري عنيف بدوره وقاهر لا يرتع عند حد، بل يعاند في التواجد ويصر على الاستغلال والاحتلال والامتصاص حتى الرمق الأخير، لأنه من طبيعة ظالمة ولا يهدأ له بال إلا في التوسع والتشريد والاعتقال. 

 

جاء فرانز فانون إلى الجزائر بناءً على طلبه ليعمل ويواسي شعبها المريض في مؤسسة استشفائية بمدينة البُلَيْدَة. آل على نفسه مهمة شاقة ينوء بحملها كاهله الضعيف، لأن أعراض المرض الخبيث بدأت تظهر عليه، وجره إلى الموت، حيث لفظ أنفاسه الأخيرة بمدينة نيويورك 1961، يوم 9 ديسمبر. يقول عن تجربته في هذا المستشفى: «لقد سخَّرت نفسي لخدمة هذا البلد (الجزائر) ولعباده الذي يقطنونه، لمدة ثلاث سنوات متتالية، فلم أدخر جهدي وحماسي. وكل قطعة من نشاطي، قَلَّت أو كثُرَت إلا وتَطَلب ظهور عالم ممكن ومقبول ضمن أفق يرغبه الجميع». هذا ما جاء في رسالة استقالته من وظيفته على إثر إضراب قام به موظفو هذه المؤسسة الصحية. عدم استجابة السيد المقيم العام في الجزائر لمطالبهم هو تعبير عن وضع شاذ وغير صحي إطلاقًا لا يطال المرضى فحسب بل الأصحاء أيضًا، لكن يجري التغاضي على الوضع بكامله لأن المركز القانوني للجزائر كما كتب أيضًا هو عبارة عن تجريد متواصل لما هو إنساني (بشري) للمؤسسة. 
فالاستعمار، كما كتب سارتر في تمهيده لكتاب فانون «معذّبو الأرض» عام 1961، هو «نظام» لا يملك له الإنسان فكاكًا إلا الإطاحة به كصيغة جماعية لبنية من عِصَابة الرأسماليين الكامبرادوريين الذين تورطوا في احتلال شعوب غير شعوبهم، وذهبوا إلى تجارب في غير تاريخهم الخاص. 
  عندما تصل الرأسمالية في صيغتها الاستعمارية إلى مرحلتها الإمبريالية، على ما عبر عنه في حينه الزعيم الروسي فلاديمير لينين، معنى ذلك أنه يجب ملاحقة الاستعمار والانتقال إليه حيثما كان ووجد، على ما فعل فرانز فانون، عندما انخرط في القوات الفرنسية الحرة، ثم انضمامه إلى الثورة الجزائرية عام 1957، بعد أن مكث في مستشفى البلَيْدة/جوانفيل قرابة الثلاث سنوات يعاين ليس المرضى فحسب، بل موظفي المصالح المختلفة في المؤسسة ذاتها، لأنه كطبيب أعصاب ومحلل نفسي أدرك إشكالية المستعمَر والمستعمِر في الصلة بينهما ومدى قدرة هذه الإشكالية المستحكمة في تلافيف ومسامي العلاقة المشكلة للظاهرة الاستعمارية برمتها. فقد وقف على الظاهرة المرضية التي تمس أيضًا الذين يعتقدون بأنهم يعالجون المرضى أو يدَّعون بأنهم أصِحَّاء، فقط قِصَر النظر وعجزٌ في التحليل هو الذي أوحى لهم بذلك، فالظاهرة الاستعمارية تطال الكل ولا يدركها إلا القادم من الخارج، على ما فعل فرانز فانون نفسه الذي جاء إلى الجزائر، بلد لاستعمار استيطاني وأمل فرنسا الغَالِية في تحقيق تفوقها العالمي. 
العنف في كل مكان وفي كافة الحالات، لمن أوتي القدرة على النظر مع قدرة أخرى على الفعل لأن الوضعية الاستعمارية، على ما وصفها المفكر وعالم الاجتماع الفرنسي جورج بلادييه تربك الوضعية ولا تترك التاريخ يفعل فعله لصالح الطرفين معًا، لا بل ضدهما بالحَتم والضَّرورة. في حالة مثل هذه يصبح العنف ليس بمعناه البغيض والمستهجن، بل يثوي في طياته مشروع توظيفه ومواجهة الاستعمار ذاته لأن هذا العنف هو الجزء الظاهر الذي احتكره المستعمِر لنفسه فقط عبر إجراءات مُسَكِّنة وتدابير صامتة، لا يشعر بها إلا من له القدرة على التحليل والمعاينة، كما فَعَل فانون نفسه، فقد كانت وظيفته هي نضاله اليومي، يخوض المعارك على جبهة الإدارة وعلى جبهة المستضعفين والمستعمرين على ما فعل في كتابه «معذبو الأرض». ومن هنا، فهذا النوع من العنف المستخلص من طبيعة النظام الاستعماري، الذي استكمل فساده التام في الجزائر بعد أكثر من قرن من الاحتلال وما رافق من حيف وظلم وبؤس وعلاقات بينية مربكة واحتلال هيكلي وتبديد ونهب لخيرات البلد وثرواته.

الاستعمار كمنظومة عنف 
الحقيقة أن العنف الذي التمسه الجزائريون حيال السلطة الاستعمارية يمتلك شرعيته ليس من المؤسسة الاستعمارية الفرنسية فحسب، بل من النضال اليومي للجماهير الجزائرية التي لا يني وعيها السياسي يتزايد وضميرها الجمعي يتقدم ويجب أن يجد سياقه اللائق من أجل التعبير عن مطالبه وكيفية تحقيقها بالضرورة وإلا العنف هو الوسيلة المناسبة والوحيدة في جدلية المواجهة والاعتراض، لأن السياق لما بعد الحرب العالمية الثانية فرض شروطه ومقتضياته بضرورة التوجه إلى الشرعية الدولية التي تحددها الهيئة الأممية الجديدة. فقد دخل القانون الدولي إلى العالم الجديد وأصبح يوجه العلاقات الدولية عبر الحرص الشديد على الشرعية والاحتكام إليها... وقد صار الأمر إلى البلدان المستضعفة للتعبير عن مدى قدرتها على ذلك... وقد ولّى أيضًا زمن فرض القانون الداخلي الاستعماري كمعيار حصري لتحديد العنف وتحديد شرعية استخدامه من صلب القوانين العنيفة (قانون الأهالي) الذي فرض على المسلمين والعرب في الجزائر طوال العهد الاستعماري. 
بطبيعة الحال، أن الإقرار بهذا العنف كما يفهمه فرانز فانون لا يملك له القوة على تيسير فهمه على الجميع إلا من أوتي فكرًا يقظًا خاصة الفلاسفة الوجوديين الذين يُعَاينُون الوُجود الإنساني ويحلِّلُون ويعيدونه إلى أصوله، ومنها أصول العنف الظاهر والمضمر، المؤلم والساكن. فلم يكن لفَانُون إلا قلمه ونشاطه في مصحة جوانفيل لما كان في الجزائر، وفي جبالها وفي تونس لما التحق بالثورة، بينما كان للسلطة الاستعمارية ولدى الإدارة العليا في باريس والكارتل الرأسمالي في كل العالم كل الترسانة الدعائية والخطاب الأيديولوجي، لكي توصف الثورة بالعنف والإرهاب، ومظاهر التذمر والغضب كلها تندرج ضمن أعمال التخريب والشغب والفوضى والإخلال بالأمن... لماذا؟ لأن الاستعمار نفسه صار منْظُومة متَمَكِّنة من أجهزة البطش والقمع والاعتقال والحجز والسجن والمنع والحظر وكافة المفردات التي ترسف الجماهير الغاضبة في أغلال من القيود وتكتم على أنفاسهم... وتلك هي الحالات والأوضاع التي وقف عندها فرانز فانون بالشرح والتحليل والمعالجة... ولم يكن إلا هو أو من أمثاله الذي يستطيعون كشف طبيعة الثورة التي تدور رحاها في الجزائر، ويظهر من ثم جانب آخر من جوانب الثورة الجزائرية التحريرية التي تستحق الاستقلال بناء على شرعية العنف لأنه المعادل الموضوعي لعنف الكيان الفرنسي طوال احتلاله واستغلاله البشع للجزائر. 
كان تاريخ الحركة الوطنية في مرحلتها السياسية عبارة عن تعبير متواصل على أن الجزائر أمة ومجتمع وكيان قابل لامتلاك العدة السياسية الكافية من أجل التحرر والانعتاق والتعبير عن الذات بأدوات ومفاهيم المدنية الحديثة خاصة منها الدولة ذات المؤسسات القارة والمنزهة عن الاحتكار والاستغلال والأغراض الشللية.

عنف الوجود الاستعماري
والحقيقة، وقبل المطاف الأخير، أن العنف الذي حاول فانون أن يضفي عليه الشرعية لا يصدر عن عقل معادٍ لفرنسا ولا لتاريخها أو لغتها، بل العكس تمامًا، هذه المقومات هي التي جعلته يشعر أكثر بمدى عنف الوجود الاستعماري حيث استمرأه وتعوّد عليه الفرنسيون أنفسهم وصاروا لا يبالون به ولا يلتفتون إليه ولا يلقون له بالًا. فقد عرّفوا الاستعمار بأنه عبارة عن حملات تعمير وإصلاح تُجريها فرنسا في بلاد ما وراء البحار.
العنف، كما يُكتشف في تجربة فانون هو أعلى تعبير عن الخاصية الإنسانية لدى الرجل وخبرة غالية جدّا لمن يحسن التدبير والتصرف من أجل تحرير شعوب البلدان المستعمَرة، فالرجل أقرب إلى المستعمِر والمستعمَر من حبل الوريد أي بؤرة العلاقة البينية بينهما وهذا مربض الخيل في إشكالية العنف والثورة والاستقلال. فقد وفر فانون لهذه الإشكالية كلماتها ومصطلحاتها ومفاهيمها من خلال سياقها وقواها المتصارعة على صَعيد الظاهر كما على صعيد المضْمَر.

فرانز فانون ثورة دائمة 
تعزى مقولة الثورة الدائمة إلى المفكر ومؤسس الجيش السوفييتي ليون تروتسكي، وكان يقصد بها الثورة التي لا تكف عن الإفصاح عن حاجاتها ومتطلباتها المتواصلة، وأن المهام الجديدة التي تقع على الجيش والدولة ومؤسساتها تتطلب ثورة دائمة يفرضها الصراع ضد الرأسمالية. لكن الثورة الدائمة في حالة المناضل والمثقف فرانز فانون هي هو نفسه الذي لم يهدأ له بال مع وضع حتى ينتقل إلى وضع آخر، لأن الذين ينافح عنهم من الغَلَبة والمهمشين والمستضعفين لا يعانون الاستغلال الرأسمالي والاحتلال النفسي والاجتماعي والثقافي فحسب، بل يعانون قرونًا من التخلف والتراجع الحضاري والتاريخي الذي يدخلهم في صراع دائم بسبب خلل البنية التي يصيبها الاستعمار. فالثورة الدائمة والمتواصلة كما عاينها عن خبرة وكطبيب لكل الجسد والروح ونفس الإنسان الجزائري هي التي تجعله يتكلم عنها ويشرح وضعيتها بصورة مستمرة.
انخرط فانون في القوات الفرنسية الحرة عن عمر بالكاد يناهز ثمانية عشر سنة. وكان رائده الرئيس أن يدحر النظام النازي، القوة التي أرادت أن تفرض العنصرية والتصنيف التراتبي للشعوب والبلدان على أساس من العرق والدم والانتماء. فقد كانت النازية النظام الذي يجب دحره وهدمه كأفضل سبيل إلى ترتيب عالم آخر لما بعد الحرب العالمية الثانية التي كان هو السبب فيها، كما كان السبب في الحرب الكبرى أيضًا. لكن ملابسات الحرب وصلتها بكافة اعتباراتها لا تنفي إطلاقًا مسؤولية الاستعمار كظاهرة لازمت النظام الرأسمالي بما هو قوة استغلالية غاشمة وظالمة... وهذا ما اكتشفه فانون نفسه، بعد نهاية الحرب عام 1945، عندما واتته الفرصة لمتابعة دراسته الجامعية في مدينة ليون الفرنسية، حيث وقف فعلاً فانون على المعاملة العنصرية والنظرة الدونية التي بقيت تلازم الإنسان الأوربي حيال الإفريقي والعربي والمسلم، فقد كانت النازية موجودة كمزاج وحالة ثقافية مضمرة في النظام الاستعماري، لا تنفك عنه أبدًا. فعلى الطالب المارتينيكي أن يعاين ويدرس مظاهرها وتجلياتها على المستعمِر والمستعمَر على السواء، وكان ذلك في الجزائر، حيث تجري ثورة حقيقية بكل ما تحمل من احتمالات وتطلعات لفرنسا كما للجزائر.
في هذا السياق الدولي الضاغط على الاستعمار وعلى الذين يعانون منه، أوحى إلى فرانز فانون بفكرة تشخيص حالة الذين انتصروا على النازية لأنهم لا يقلون فاشية عن الذين أعلنوا عنصريتهم وثقافتهم غير الإنسانية. ففي طبيعة الاستعمار ذاته قوة باطشة لا تدرك في المجتمعات الأمية، بل يجب امتلاك الوعي بها من داخل الثقافة الفرنسية وعلومها عبر تجربة فكرية مختلفة تمامًا عن المجتمع الفرنسي المتقدم. لأن مثل هذه الدراسة والتجربة تفضح أول ما تفضح المضمر في السلطة الاستعمارية، لأن ما يسمى تعمير بلاد المستعمرات Pays de la colonisation، على ما كان يجري في بلاد الأنتين Antilles  ومنها المارتنيك Martinique بلد فرانز فانون، أصبح لاحقًا خاصة في سياق الحرب الكبرى وبعدها نزعة استعمارية Colonialisme، أي قوة داهمة لا تتوانى عن الاستغلال ومزيد من الاستغلال... وتلك هي الطامة الكبرى التي تنتظر فرنسا في الجزائر وهي في ذات الوقت موعد الجزائريين مع إنجاز استقلالهم الحتمي.
اكتشف فانون أن داء الاستعمار قد تقدم في جسد الإنسان الأوربي وبلغ مراحله الخطيرة جدًا، بعد ما صار هناك إمكانية الإحالة إلى القانون الدولي، وبعدما تقدمت العلوم الإنسانية والإجتماعية والطبية التي تقف على حقيقة الأدواء والأمراض التي تطال بالضرورة المجتمعات التي مسّها الاستعمار، مثل الجزائر التي تكابد وضعية استيطانية تنطوي على المحو والإبعاد والإقصاء والانتهاك والاعتداء على الهويات والأجناس والأعراض ■