الشاعر عبدالمنعم رمضان: أحببت اللغة قبل أن أعرف وأحب روايات نجيب محفوظ

الشاعر عبدالمنعم رمضان:  أحببت اللغة قبل أن أعرف وأحب   روايات نجيب محفوظ

  الشاعر عبدالمنعم رمضان أحد شعراء مصر والوطن العربي المميزين، وصاحب تجربة شعرية متفردة، قصيدته تحلق بعيدًا خارج السرب، ودائمًا ما ينسج قصيدته من الواقع، فتجد فيها الشارع، والأصدقاء، والمحبوبات، واليوميات، والمقهى، والشخصيات العامة من الساسة والفنانين. لا تشعر أنه يسكن برجًا عاجيًا كالشعراء الآخرين الذين قيل عنهم إنهم يعيشون في أرخبيل، فهو شاعر مختلف بقدر اختلاف قصيدته.

 

  في هذا الحوار يفتح عبدالمنعم رمضان دفتر الذكريات فيتحدث عن خصومته مع محمود درويش، وعن شعر أدونيس وأنسي الحاج، وعلاقته بشعر صلاح عبدالصبور وأمل دنقل، وأحبائه الشعراء بلند الحيدري، ومحمد بنيس، وعباس بيضون، وقاسم حداد، وحلمي سالم، ووديع سعادة. ويتوقف عند علاقته بمجلات الدولة وكيف كانت مخططات الاستقطاب رغم قصيدته المختلفة التي تحلق بعيدا، ودور مجلات الماستر في دعم المشهد الثقافي المصري، وفي ما يلي تفاصيل الحوار:
● كيف أثرت عليك نشأتك، وما المنابع الأولى التي كونت وجدانك الشعري في مرحلة الطفولة والصبا؟ وهل كانت هناك قراءات شعرية مبكرة؟
- أعترف أن طفولتي البيضاء كانت تشبه الشعر أكثر مما تشبه سواه، حكايات أبي وأحيانًا أناشيده، وغناء أمى وأحيانًا مراثيها، الاثنان أحاطاني وكأنهما صوت ينشع من بئر واحدة، أمي هدهدتني بأغنيات لم أعد أذكر كلماتها، أظن أنها في أحيان كثيرة كانت مليئة بالدموع المحبوسة، فيما امتلأت أغنيات أبي بالماء الجاري، «نم يا حبيبي هانئًا، نم ناعمًا، نم حالمًا»، طوال الوقت ظل أبي واقفًا على حافة طريق التصوف، لا يبتعد ولا يقترب، كأنه الدرويش الخائف من الطريق والطريقة، والخائف من نفسه، لعلني صادفت من يشبهون أبي وأمي في روايات نجيب محفوظ، أظن أن أبي أمسك بيدي وأدخلني دون قصد في إيقاع الشعر، وأظن أن أمي بما تخبئه كلماتها من أسرار دلتني أيضًا دون قصد على روح الشعر. في مدرستي الإعدادية، تعلقت بأستاذ اللغة العربية، فأسلمت نفسي للغة دون آمال، لكن مدرس الموسيقى وهو الملحن المعروف عبدالعظيم محمد أكمل مشوار أبي وأمي، وعلمنا كيف نغني في طابور الصباح، «هيا أبا بكر لقد آن الأوان»، وأبو بكر الصديق هو اسم المدرسة، ومع ذلك سوف تظل كلمة السر حائرة بينهم جميعًا، أبي وأمي وأستاذ الموسيقى وآخرين، فيما بعد سأكتشف أن روايات نجيب محفوظ التي كانت نبعًا ثالثًا إلى جوار أبي وأمي، تملك وجهين على الأقل، وجهًا رسميًا ظاهًرا، مخصوصًا للعامة والسابلة، يمكن أن تقول مخصوصًا للحكومة أيضًا، ووجهًا آخر خفيًا وعميقًا وأكثر نفاذًا، للأقطاب والمريدين، يمكن أن تقول مخصوصًا للخاصة، الأول ينفد، والثانى يتجذر.
 أعترف أننى أحببت اللغة قبل أن أعرف وأحب روايات نجيب محفوظ، وأحببت الموسيقى قبل أن أتعود القراءة بصوت مسموع، حتى أنني فيما بعد سأشك في أن الذين لم ينتبهوا إلى إيقاع اللغة لن يستمروا في محبة الأدب في أعمارهم التالية. عمومًا في بداياتي لم أقرأ الشعر، في بداياتي ضبطت نفسي أتلصص على الحكايات، ضبطت نفسي أفتش عن الأسرار لأن اللغة أيضًا ذرات نميمة، كما ضبطت نفسي أحب صوت اللغة أكثر من محبتي لما تقوله، لأن الجسد قبة الروح.

بدايات الدهشة
● إذن كيف بدأت علاقتك بالشعر، وكيف كانت علاقتك بالشعر الحر التفعيلي؟ وبمن تأثرت من الشعراء الرواد؟
- في أول علاقتي بالشعر، كنت بلا مرشدين، كنت وحيدًا جدًا، وخجولًا جدًا، أختبئ داخل غلاف وجهي، وأختبئ داخل ما أقرأه، وما أكتبه، لا أحد يدلني على الطريق، وكنت أظن أن الشاعر لا يكون إلا هكذا، تائهًا، عيناه مسكونتان بحلم دائم، وأن الشعر لا يكون أيضًا إلا هكذا، عموديًا، وغامضًا مثل صمت منطوق. أظن أنني ولفترة ليست قصيرة كنت أفتعل الكتابة تحت مظلة الشكل، لم أكن عرفت بعد الشعراء الرواد، رواد ثورة الشعر الحديث، ولم يكن لي شاعر أفضّله على سواه، فقط كنت أفضل شعر الحب على شعر الثورة والغضب، لم أكن غاضبًا، أيامها، أعترف أن المصادفات كانت تقبض على يدي بشدة، وعلى قلبي. بسبب نجاة الصغيرة قرأت كامل الشناوي ونزار قباني، وبسبب عبدالوهاب اهتممت أكثر بشوقي، وبسبب فيروز أحببت جبران، وبدوت كالمسحور، كنت في نظر بعض أقاربي أبله على الأقل، لأن بعضهم ظنني شاذًا، في أول الجامعة تعرفت على الشاعر العوضي الوكيل، تلميذ العقاد، وزرته في بيته، وأجريت معه حوارا لمجلة الحائط التي أصدرت منها عددين، كنت أبتعد عن كوني عبيط العائلة، وأبتدئ فترة تخبط ودهشة لما لا أعرفه حولي، ولما لا أعرفه داخلي، وبالمصادفة تعرفت على محمد خلاف، شاعر سبعيني انسحب باكرًا، كان يتردد على الكاتب أحمد هاشم الشريف الروائي والقاص والصحافي بمؤسسة روزاليوسف، بهرني محمد خلاف وسار معي في الطريق المؤدية إلى أدونيس وأنسي الحاج والماغوط وشوقي أبو شقرا وفؤاد رفقة وكل جماعة شعر، سحرني محمد خلاف، وأصبح رفيقي مثلما كان الشعر رفيقي، ومعه وبدونه كنت أقرأ وأحفظ «مدينة بلا قلب» لأحمد عبدالمعطي حجازي وبعض شعر صلاح عبدالصبور، أيامها ذهبت بخجلي وقصائدي إلى أحمد حجازي، المفاجأة أنه كتب بعدها مقال (نداء إلى شعراء المستقبل) عن شعري، ختمها بأنني سوف اضطر في المستقبل إلى اختصار اسمي. منذ ذلك الوقت وأنا أغرق أكثر في بحيرتي التي تمنيتها زرقاء، منذ ذلك الوقت وأنا أحاول طوال الوقت أن أكون شاعرًا، شاعرًا مجذوبًا ومجذوبًا جدًا.
● بين ارتباطك بالرواية وحبك للشعر... كيف بدأت رحلتك مع الكتابة؟
- في أيام صباي لم تعلمني المدرسة سوى الشعر العمودي، ولم يخطر ببالي إمكانية وجود أشكال أخرى، وعندما بدأت الكتابة، لم أبدأ بالشعر، كتبت رواية، كتبت روايتي، تحكي قصة حبي الأول، وعندما قرأت فيما بعد، بعقدين على الأقل، رواية الكاتب القرغيزي جنكيز أيتماتوف «المعلم الأول»، امتلأت بالحنين، وعكفت على بقية رواياته المترجمة. عمومًا بدأت الكتابة بالرواية، لكنني فجأة ودون مقدمات واضحة انتقلت إلى الشعر، لم أكن أعرف التعدد، كان الشعر عندي شكلًا واحدًا لا غير، الشعر العمودي، أختار ما أظنه الوزن حسب الشطر الأول، وأختار القافية حسب آخر كلمة في الشطر الثاني، وأكتب في ورقة مستقلة الكلمات التي توافق القافية المختارة، ثم أبدأ في تلفيق القصيدة، لم أكن ملهمًا، كنت شغيلًا، ذخيرتي لم تتجاوز قصائد كتاب المدرسة، فيما بعد ستتسع قليلًا لتشمل قصائد من الشعر القديم، خاصة شعر الغزل العذري، وبعض شعر المجون. لم أقترب من المتنبي مثلًا إلا فيما بعد، سمعت عن أبي النواس، بتشديد الواو، وسمعت بعض الشعر الصوفي، وظللت هكذا زمنًا، في أول الجامعة عرفت صديقا من الوادي الجديد كان يكتب الشعر الجديد، سخرت منه فترة، وتعاليت عليه، ثم بدأت أكتب مثله وأنا ممتلئ بالخجل، كأنني أهين الشعر، حتى صادفت الديوانين: «مدينة بلا قلب» لأحمد عبدالمعطي حجازي، و«أحلام الفارس القديم» لصلاح عبدالصبور، فأصبحا معًا كتابي، كتاب المخدة، حفظتهما جراء كثرة القراءة، هكذا تخلخلت قناعاتي وذهبت إلى مكان ظننت أيامها أنه بعيد جدًا. كنت مفتونًا، وبسبب الفتنة لم أكن أرى المسافة بوضوح، لأنني سأكتشف أنني لم أبتعد كثيرًا، وأنني مازلت على مقربة من البئر الأولى، واكتشفت أن ديواني صلاح وحجازي على بعد خطوة من شعر الأسلاف، كانا أيامها جديدين، وأصبحا فيما بعد الجديدين القديمين، بعد صلاح وحجازي، وكأنني تعلمت الخروج، تعرفت على الحداثة الثانية وكان روادها يخرجون من بيروت، كانوا أكثر جرأة، لم يكتفوا بالرحلة من العمود إلى التفعيلة، فخرجوا من الروح إلى الجسد، ومن القوميات الكبيرة إلى القوميات الصغيرة، ومنها إلى الفرد الواحد، ومع كل حركة خلخلة حركة خروج لمفهوم الإيقاع والوزن، وظهرت مساحات البياض وكأنها وحدة صوتية، بلوغًا إلى مابعد قصيدة النثر، وها نحن نتشابك بكل قوانا لنصل إلى ما لا يفصل جسد الشاعر عن جسد قصيدته، لنصل إلى توحيدهما في خرافة تجمع حقيقتين، الشاعر والقصيدة، أو حقيقة تجمع خرافتين أيضًا الشاعر والقصيدة.

ثبات القصيدة موتها
 ●ألاحظ أن قصيدتك ليست ثابتة، فأحيانًا تكتب القصيدة الدرامية التي تعتمد على تعدد الأصوات، وأحيانًا تعتمد على توظيف الموروث، وأحيانًا أخرى تسيطر أبعاد سياسية على نصك... ما الذي يدعوك إلى هذا، هل هو التجريب والبحث المستمر الذي يؤرق الشاعر، أم التنوع، أم ثراء المعطيات التي تجعلك في سعي مستمر لرفد نصك الشعري؟
- يجوز لنا ونحن في حال انتظار قصيدة جديدة، أن نزعم بأن كل قصيدة لابد قبل كتابتها أن تبحث عن شكلها، كما يجوز لنا أن نمدح شعرنا بالزعم أنه يغتسل مع كل قصيدة، يغتسل بهواء نقي، كي لا يرتكب خطيئة ثبات الشكل، مادام كل شاعر يظن أن الثبات ليس خلودًا، أن الثبات موت ما، موت رمزي. الشعر العمودي ليس ثابت الشكل كما أفهمونا، جلبابه يبدو واحدًا لغير عارفيه، إلا أن خلاياه تتغير داخل قالبه المحبوك الذي نعرفه. هكذا أقرأ شعر أبي نواس وشعر المتنبي، هكذا أقرأ مواقف النفري، وعلى الرغم من جواز القول بضرورة إيجاد شكل جديد مع كل قصيدة جديدة؛ إلا أن الانقلابات الأعمق قد تحدث رغم مظنة ثبات الشكل، أكاد أجزم أن كل قصيدة ذات فتنة لاتقلد غيرها ولا تسمح لغيرها أن يقلدها، ومع ذلك، فإن ثمة ثوابت قد تتسلل بسبب سكناها وتمكنها من البنية الشعرية لدى شاعر عنده الرغبة الواعية أو غير الواعية في تأكيد ملامح قصيدته وترسيمها، لكن روح الشاعر في الوقت ذاته، بدعوى قلقه، تمتلئ بعدم الرغبة في التكرار، تمتلئ بهوس الابتداع الذي في بعض الأحيان يكون مشوبًا بالافتعال، فكتابة قصيدة جديدة فِعل ينطوي دائمًا على هاجس الخروج على الاعتيادات الشعرية، لأن انتصار الاعتيادات يلزم الشاعر بأن يتوقف عن الكتابة زمنًا يساعده على الابتعاد المؤقت، وربما الدائم. هكذا أتصور الشعر باعتباره أحد تجليات الثورة الدائمة، هكذا أضعه كطموح أعلم صعوبته دائمًا، واستحالته أحيانًا، لذا أستسلم وأتحاشى مطاردته، وفي الأخير أخاف إهانته، أخاف محض غيابه. 
● المرأة في قصيدتك تشكل جزءًا من دهشتك... كيف تنظر إلى ذلك؟  
- منذ أمي، ومنذ جدتي، ومنذ أختي، ومنذ محبوبتي، اللواتي احتجبن عني بالموت، اللواتي كلهن علمتني كيف تصبح المرأة رحم الوجود الإنساني كله، كيف تصبح النشيد الشامل، وكأنها الكون، إذا اكتشفت طرفًا منه، فوجئت أن ما لا أعرفه أكثر مما أعرف، أكاد أوقن أن كل ما لا يؤنث لا يعول عليه، وللتحوط قد لا يعول عليه، وهكذا أكاد أوقن أن الشعر في جوهره أنثى، لذا أوقن أيضًا أنه لا يقبل الخيانة، والشعراء أغلبيتهم شعراء سوق، شعراء عرض وطلب، شعراء موديل غالب، الشعراء الأغلبية، وهؤلاء بالتأكيد الأكثر رواجا، وهم غير شعراء الشعر، الشعراء الأقلية، الأولون. الأغلبية سرعان ما ينتهون إلى خيانة الشعر بتحويله إلى مواد قابلة للاستعمال، أغلبهم ينتهون إلى خيانة المرأة، خيانة شبيهات أمي وجدتي وأختي ومحبوبتي، بالانشغال فقط بالمعنى المعطى الذي يسكن تحت جلودهن مباشرة، الذي مثله مثل العرق الحامض، يعود ويطفح، أعني المعنى، على جلودهن أيضًا، حاول أن تتشمم قصائد المعنى، لتتأكد من حموضتها وحموضته، بينما الرؤيا، بالألف، تحيا في مكان أعمق، تحيا في الأعماق، وبعضها لا يستنفد بالوقت، وبعضها يظل سيال رؤى، الشعر مثل أمي وجدتي وأختي ومحبوبتي، مؤنث مثلهن، وخصب مثلهن، ويعول عليه مثلهن، مادام كل ما لا يؤنث لا يعول عليه، فقط فقط في لقائنا بالمرأة، وكذا في لقائنا بالشعر، نعبر المعنى، نصادفه ونعرفه ونتجاوزه، كأنه محض جسر من كلمات، ونبحث بعده عن وجود، عن وجودنا، ونتعلم مثل عشاق أن المرأة باب الشعر، حتى أن المرأة نفسها تتعلم أيضًا أن المرأة باب الشعر، ونتعلم ثالثًا مثل كائنات حية أنه هكذا يصبح وجودنا أكبر من وجودنا الفعلي، يصبح وجودنا هو الوجود الخام.
● بين ديوانك الأول «الحلم ظل الوقت، الحلم ظل المسافة» عام 1980، وديوانك الأخير، المختارات «بعيدًا عن إيثاكا» 2019، شهدت كتاباتك تحولات كبيرة، كيف ترى هذا التحول بين عولم أو فضاءات شعرية متباينة؟
- «الحلم ظل الوقت، الحلم ظل المسافة» لم يكن مجرد محض هاجس، كان علامات طريق لم أفطن إليها إلا فيما بعد، حيث أدركت، أن الثلاثة الحلم والزمان والمكان يجتمعون علي في حزمتين، ومازالوا يناوشونني، وسوف يظلون، فأنا أظنني دائما شاعر مكان واحد لا آمل في سواه، مكان هو الجذر الثابت، هو البداية والنهاية، وشاعر أزمنة معيشة ومتخيلة ومحلوم بها، فأنا هكذا لا أغادر مكاني، وأنا هكذا دائم السفر في أزمنتي، حيث لا أقدم المستقبل، وحيث لا أؤخر الماضي، لست أسير أحدهما، لكنني الراهب العابر، راهب مكان، وعابر أزمنة، الحلم ظل الوقت، لم يكن فقط ديواني الأول، كان قبل ذلك هاجس اكتشاف حقيقة ما أريد أن أكونه، شاعرًا أو العدم، ولأنه، أعني الديوان، صدر عن جماعة شعرية سبعينية أسميناها «أصوات» رغبة في إعلان تعددنا ضمن وحدتنا، كنا خمسة شعراء وفنانًا تشكيليًا واحدًا، سبحنا معًا في نهرنا الصغير، نهر أصوات، وعبر مشقات حاولنا أن نقبض على أوائل أسئلتنا، وعلى كل أوائلنا الأخرى، حتى أول الحب انغمرنا معًا في التفتيش عنه. وعلى الرغم من أننا كنا فقراء ماديًا، وكنا دراويش وبسطاء فنيًا، وعلى الرغم من حماقاتنا امتلكتنا رغباتنا الدفينة في الغرق، فغرقنا. بعد «أصوات» تعودت أن أمشي مثل فرد وحيد بعيدًا عن طرقات كل سلطة منظورة، على أمل أن يصادفني رفاق طريق، رمزيون، أشباح، قدامى أو معاصرون، فامتلأت روحي بشغف انتظار الآخر البعيد، انتظاره في نوافذي، الآخر الذي يفرحني ويجرحني تطابقنا، هو وأنا، والآخر الذي يثيرني ويدهشني اختلافنا. بعد «الحلم ظل الوقت، الحلم ظل المسافة»، كنت فعلًا قد بدأت الخروج من زقاق «أصوات»، ومشيت في طرقات أجهلها، وعلى حواف أنهار، أقل ما يقال عنها، أن طعم مائها كان غريبًا، بعد «أصوات» تأكدت من أنني سأظل راهب مكاني، فانغمست فيه، في مكاني، بحثًا عن قلبه، وأنني سأظل عابر أزمنة، سأظل المسافر أبدًا، بحثًا عن قلب واحد، قلب كل الأزمنة، نعم قلب كل الأزمنة.

سارتر في القاهرة
● معروف أنك من شعراء جيل السبعينيات في مصر والوطن العربي، لكن قصيدتك كان لها توجه خاص... كيف استطعت أن تنتمي لجماعة أصوات بشكل خاص، ولحركة السبعينيات بشكل عام، وأن تحافظ في الوقت نفسه على فرادة نصك الشعري وألا يتشابه مع أحد؟
- في فترة الستينيات كنت أحد أبناء الدولة، وكانت مدرستي الإعدادية ومدرستي الثانوية هما الأهم في تربيتي المعرفية، فيهما كنا جميعًا أبناء عبدالناصر، أيامها صدقناه وتوهمنا أنه سيكون المنتصر في النهاية. في سنة 1967، انخفضت رايته في نفوسنا وبدأنا ننضج، بعدها ربما سنة 1968، زار سارتر وسيمون دوبوفوار القاهرة لتجهيز عدد من مجلتهما «الأزمنة الحديثة» عن الصراع العربي الإسرائيلي، وكانا قد زارا إسرائيل قبل زيارتهما لمصر، وفي العام نفسه حدثت انتفاضة جيل 1968 في باريس، وفي القاهرة. آنذاك لم أكن قادرًا على فهم ما يحدث، لكن غباره ورذاذه سيتراكم في نفسي وفي نفوس كثيرين من جيلي، ومن هذا الرذاذ والغبار سوف تكون مقدمات رؤية جديدة، تنزع عن عبدالناصر ثوب البطولة وترتاب في السلطة وتبحث عن طريق للخروج، في سنة 1969 التحقت بالجامعة وكانت أغلبية النشطين فيها ناصرية تدعي أنها مازالت تملك الحل، أما الأقلية التي لم تكن ضئيلة بدت أكثر قدرة على معاينة الحال، كانت أقلية يسارية وعلى هامشها بعض الوجوديين، ومع الفريقين، اليسار والوجوديين، تعلمت محاولات الاقتراب من الحقيقة، هكذا انفصلت عن الأغلبية والتصقت أكثر بطلاب الحقيقة، لكنهم زرعوا في عقلي وقلبي الأسئلة التي لا تتوقف عن مطاردتي حتى الآن، في تلك الفترة حرسنا قلقنا بتشكيل جماعات شاءت أن تتمايز، فكانت إحداهما «أصوات»، والأخرى «إضاءة»، وصارتا معًا أهم جماعتين شعريتين في حقبة السبعينيات، كانت الخيمة التي جمعتنا ببابين ونافذتين، الباب والنافذة الأوسع كانا من اختيار «إضاءة» صاحبة الانقلاب الأقل جذرية، والقابل أكثر للرواج والتأثير، الجماعتان ركزتا ثورتهما في الشعر، فأحدثتا نقلة رصدها نقاد وباحثون على شاكلة جابر عصفور، وصلاح فضل، وإدوار الخراط، وعبدالمنعم تليمة، وأحمد عبدالمعطي حجازى. كانت أصوات قد اختارت الارتباط أكثر بالمكان، الارتباط أكثر بالتراث المنبوذ، التراث الأقل رسمية، سواء كان نثريًا أو شعريًا أو صوفيًا، فعكفت على نصوص النفري وابن عربي والسورياليين المصريين، جورج حنين، وجويس منصور، وأنور كامل، ورمسيس يونان، كنا مشغولين بالكشف عن آثار زماننا على أجسادنا وأرواحنا لأننا ظننا أن قصيدة الرواد التي سبقتنا، انشغلت أكثر بآثار زمنهم على عقولهم، الرواد والستينيون كانوا ينزفون نزيفًا عقليًا، لكننا وبسبب أننا أصبحنا ملبوسين وملتبسين أكثر، أحببنا أن ننزف جسديًا وروحيًا، أن ننزف الوشم غير الثابت الذي أصابنا والذي وصلنا بالموشومين قبلنا، بالمتصوفة والسرياليين.
● تعدّ كتابتك لقصيدة النثر من التجارب الحديثة الأولى في مصر، وأذكر أن الدكتور عبدالقادر القط أثناء رئاسته لتحرير مجلة «إبداع»، كان يعجب بها، لكنه، بسبب تمسكه بشعر التفعيلة، كان يخصص لها بابًا يحمل اسم «تجارب»... كيف ترى هذا الاندفاع الهائل من قبل أجيال الشباب باتجاه كتابة قصيدة النثر؟
- في أواخر السبعينيات ومع انفجار ثورة طباعة الماستر، التي سهلت إمكانية إصدار الكتب والمجلات، بدأ الجيل الذي سميناه جيل السبعينيات تجاربه في النشر المستقل، فكانت تجارب مجلة إضاءة 77، ومطبوعات أصوات، ومجلة كتابات، ومجلة الكتابة السوداء، ومجلة الكتابة الأخرى... إلخ. كلها كانت مجلات وكتبًا غير دورية، كلها كانت مطبوعة طباعة ماستر، التي بواسطتها أصبحنا خارج قبضة المؤسسة الثقافية الرسمية. كنا نطبع 500 نسخة فقط، وبها كنا نقلب الدنيا، مما أغنانا عن الاستماع إلى نصائح كهنة الحرس القديم ووصاياهم، كنا نكتب ما نشاء، نكتب فوضانا ونظامنا، ونُعيد صياغة عالم نرى أنه عالمنا. آنذاك فكرت السلطات الثقافية في ضرورة احتوائنا، فأنشأت من عدم مجلات إبداع والقاهرة، وأتت بهيئات تحرير مطلوب منها أن تستقطبنا، كان رئيس تحرير إبداع د. عبدالقادر القط، ومعه سليمان فياض وسامي خشبة، وأتوا بغالي شكري رئيسًا لتحرير القاهرة، المهم أن «إبداع» طلبت قصائدنا لنشرها، كان عبدالقادر القط قد فعل مثلما كان يفعل يحيى حقي، وحول مكتبه إلى ندوة يقرأ فيها المبدعون ما أتوا به لنشره، وكان سليمان فياض صديقنا، قد سبق له أن دعانا وطلب قصائدنا، كنت أيامها أكتب قصائد عن الحاكم بأمر الله، أعطيته إحداها، ثم أتانا وأبلغنا بأن الدكتور القط يريد أن يرانا فذهبنا صديقي الشاعر أحمد طه وأنا إلى مكتب الدكتور القط بمقر المجلة الذي كان مليئًا بكتاب عرب ومصريين وقام سليمان فياض بتعريفه بنا، أعقب التعريف حوار أحدث مشادة بين القط وبيننا، لكنهم التزموا بنشر قصيدتي التي جعلت القط يشعر بالحرج، لأن القصيدة ضد ذائقته، بل معظم قصائدنا ضد ذائقته، لكنهم أتوا به ليحتوينا. لذا اقترح أن يخصص مساحة في آخرة المجلة، أطلق عليها اسم «تجارب» بقصد تمييز المتن الذي يوافق ذائقة القط، مع اعتبار «تجارب» مجرد هامش، لكن ما حدث فيما بعد كان العكس، فالشعراء كلهم أصبحوا يسعون للنشر في تجارب.

القصيدة بين رقيبين
● أثناء الكتابة هل تشعر بأن ثمة رقيباً داخلياً يتابعك... هل ثمة محاذير محددة تواجهها الذات الشاعرة أثناء لحظة الكتابة؟ 
- كلنا، كل مبدع يضيق برقيبه، يستاء منه، لكنني أعترف بأنني، على الخصوص، لا أكرهه، وإذا غاب سأفتقد بعض دوافع الانتصار على سلطة ما تريد أن تجعلني أحد حراسها، حارس البستان، حارس الجنة التي شرطها الاستغناء عن حراسها، شرطها أن تتهيأ لأن تكون بلا سور، عمومًا عمل الرقيب، عمله الرئيس، أن يجبرني على إحناء قامتي تحت سقفه الذي دائمًا ما يكون الإبداع أعلى منه، وهاجس المبدع، هاجسه الدائم، أن يتحايل عليه، أن يتحايل لتجاوز السقف، الرقيب رقيبان: خارجي وداخلي، الخارجي عام ومجرد ويمكن الاستهانة به، والداخلي صفاته من صفات صاحبه، الخارجي عقوباته تتسبب في شهرتنا، شهرة زائفة غالبا، والداخلي الذي صفاته من صفات صاحبه، يوقن أن صراعهما سيكون حميمًا وحارًا، وغالبًا ما يكون فاتحة لابتداعات جديدة.
  كل الثورات الفنية كانت محض انتصارات على ذلك الرقيب، أعترف بأنني أزداد حماسة عندما أحسه يتحرك بدأب تحت جلدي كأنه يريد أن يقف على حواف نصي، على بداياته وخواتيمه، فأجتهد أكثر منه للوصول إلى حيل تزيحه وتجبره على الشعور بالأسف، في أحيان كثيرة أتمادى في إغاظته والنيل منه، بتفكيك أوامره ونواهيه وبعثرتها، في هذه الأحيان أحب رقيبي لأنه حافز يضاعف اختياراتي ويعمق حيلتي ويوسع عالمي، أول انتصارات المبدع تكون في معركته مع رقيبه، خاصة الداخلي لأنه فاتحة نهايات وفاتحة بدايات، لأنه اللغم الضروري.
• تأثرت تجربتك وتجارب أبناء جيلك بمحمد عفيفي مطر، وأدونيس، وشعراء مجلة «شعر» اللبنانية، ثم خرجتوا تقولون إنكم جيل بلا آباء؟
- جيل بلا آباء... عبارة تنتسب أكثر إلى قصاصي الستينيات، ومع ذلك لا يمكن إنكار جدارة الشعراء الذين ذكرتهم، أدونيس وأنسي الحاج والماغوط ويوسف الخال وعفيفي مطر وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي، تعرفت وعكفت عليهم جميعًا شعريًا، وصاحبت بعضهم، وصرت صديقًا حميمًا لبعضهم، أكاد أشهد بأن الاقتراب الشديد من شاعر قد يفسد براءة استقبال شعره، لأن الشعراء عاديون ما بين القصيدة والقصيدة، ونحن نستاء من عاديتهم. أعترف بأنني أشعر بالأسف لعدم تعرفي على صلاح عبدالصبور مثلاً، وبأسفي لأنني تعرفت على الأبنودي لأن وجوده المادي حجب عني الكثير من وجوده الشعري. كنت أتمنى أن أحمي حبي لقصيدته، من كثافة وجوده، بالضبط مثلما كنت أتمنى أن أصاحب المازني لأضيف إلى كتابته رهافة وجوده. ومع ذلك أعترف بالندم على الكثير الذي فاتني.

الشعراء الرموز 
● إذن كيف كانت علاقتك بالشعراء الرموز محمود درويش، وصلاح عبدالصبور، والبياتي، وأمل دنقل (رغم حداثته عنهم) على صعيد الشعر، والعلاقة الإنسانية؟ 
- تعرفت عليهم جميعا فيما عدا للأسف صلاح عبدالصبور، كنت على الحافة بين المراهقة والشباب عندما قرأته لأول مرة، صدمني وأربكني، ثم صدمني وأبهجني، ثم استقر داخلي، مثل طيف شاعر أريد أن أكون مثله، وأريد أن أكون غيره، لا أعرف لماذا ظننته يلاصق المازني الذي أزعم دائمًا زعمًا يغيظ أقراني الحداثيين، أزعم أنه أبي، مات صلاح وأنا في الثلاثين، أذكر أنه عندما حانت اللحظة التي كان يمكن أن أسعى إليه فيها، غلبتني السياسة وأبعدتني عنه، بسبب أنه قبل رئاسة تحرير مجلة الكاتب بدلاً من هيئة تحريرها اليسارية الأقرب إلى ميولنا آنذاك، وذلك بعد حرب 1973، ففي تلك الأثناء وصف صلاح عيسى أحد أركان حرب المجلة تلك الحرب بأنها حرب تحريك وليست حرب تحرير، ولم يكن رأيه وحده، كان رأي مجلته، فقام النظام أيامها بإزاحة هيئة التحرير وعلى رأسها أحمد عباس صالح وتولية هيئة جديدة على رأسها صلاح عبدالصبور، الذي، بسبب قبوله، علق به اسمه الجديد المأخوذ من شعره: ياللإنسان الورقة، أسميناه الإنسان الورقة، وكنت أحد المجهولين الذين انصرفوا عنه، يؤسفني جدًا عدم اقترابي من صلاح الإنسان، أما الشاعر فقد حفظت أيامها الكثير من شعره، في تلك الفترة كان بروز اسم أمل دنقل، بقصائد تقبض على العام أكثر مما تقبض على الخاص، قصائد نحن، وليست قصائد أنا، وكنت مثل كثيرين من جيلي نعتبر الشعر فن تفريق أكثر منه فن تجميع، وأمل شاعر قبيلة، لذا أصبح أحد أهدافنا في الإزاحة والهدم، أكاد أقول لم أعرفه، فقط بعض مصادفات وبعض عبارات، لكنني أعترف أن اعتداده بنفسه راقني جدًا، وأن ديوانه الأخير «أوراق الغرفة رقم 8» كان فتنة، كان في نظري الشاهد الوحيد على أهميته، لم يكن أمل وهو جيل تالٍ على جيل صلاح، أكثر حداثة، الأصح كان أكثر قدامة، حنجرة صلاح ظلت حنجرة فرد، فيما كانت حنجرة أمل حنجرة جماعة. 
لذا أعترف أن كراهة أمل لصلاح أزعجتني، فأنا مازلت أحبه، مازلت أراه صوتًا خفيضًا ومسموعًا جدًا، يبقى محمود درويش والبياتي، عباءة النجم كان يصر محمود على أن يحيكها حول جسده الرشيق، ويسمح لأطرافها أن تتخلل وجهه وابتسامته، أما روحه فتبرز تحت تاج من الخيلاء، أظنني بسبب ذلك كرهت الاقتراب منه وأحببت شعره، أحببت النبرة في شعره. كانت نبرة حكي وغناء، تعارفنا في باريس لأول مرة، كان مقصد الجميع، وتعارفنا ثانية في القاهرة في منزل غالي شكري وبحضور رجاء النقاش وسمير سرحان وآخرين، وأيضًا كان مقصد الجميع، وتعارفنا في برلين، وكان يلح على النجومية والمنافسة. 
في كل مكان كان حريصًا على أن يكون كذلك فيتهافت عليه طلاب النجوم. اعترف أن شعره كان الأجمل في أحيان كثيرة، شعر شديد الجاذبية سريع التأثير، كأنه غناء، كأنه حنين، كأنه سقف سماء وسطح أرض، مات درويش للأسف وبيننا خصومة، خصومة النجم وشاعر ما، ففي القاهرة، في مؤتمر الشعر الذي نال جائزته، وليلة تسليم الجائزة التقى السيدة س ب صديقتي وصاحبة دار نشر ومذيعة تلفزيون سابقة، سعى إليها وظل يشتمني لها، وهو حريص على علانية ما يفعله ليشيع بين الحضور فتحرمني المجلات والصحف من نعمة الظهور على صفحاتها، لكن موته العاجل الذي أحزنني، فتح عيني أكثر على مكامن الجمال في شعره، وبعض هذا الجمال لن يتبدد، بعضه سيبقى كأثر خالد، أما الشاعر الرائد عبدالوهاب البياتي الذي حجبه عني ظل بدر شاكر السياب، لولا أن شاركته مع آخرين الحضور في أحد مؤتمرات المغرب، كنت شديد الرغبة في الاقتراب منه، ولما اقتربت سمعته يحكي بهدوء واستمتاع صغائر كل الآخرين، صغائر لا أظنها صحيحة، ففيها صنعة وابتكار، واكتشفت أن هذا هو فن البياتي الخاص الذي يتفوق به على فنه الشعري، يجيده، الحبكة والنبرة، كأنه بعض شعره، وظلت حكاياته تلك بابا واسعًا يفضي إلى حضوره وأسطورته، ليتك سألتني عن آخرين أحببتهم دون هوامش، أحببتهم حبًا خالصًا مثل أنسي الحاج، وبلند الحيدري، وأبناء جيلي حلمي سالم ووديع سعادة وعباس بيضون وقاسم حداد ومحمد بنيس... إلخ.

محاولات ساذجة 
● أعلم أنك أحببت السينما والرواية أكثر مما تحب الشعر نفسه لارتباطك بالسرد والحكي... هل أفادت تجربتك الشعرية من السرد الروائي ومن السينما، وهل من توضيح حول هذا الأمر؟
- في مرحلة دراستي الإعدادية قمت بأول فعل يدل على ما أريد أن أكونه، كنت أدور حول عامي الرابع عشر، مثل مراهق نحيل وخجول وطويل القامة، في الصباح أحلق هائم بعيوني، وفي الليل أكتب رواية تشبه روايات عبدالحليم عبدالله، بالطبع كانت محاولات ساذجة وهشة، وبسبب خجلي لم يقرأها أحد سواي. أول قراءاتي لم يكن الشعر، كانت الرواية، مازلت أحتفظ بأعمال محمد عبدالحليم عبدالله الكاملة، بصفتها نافذتي الأولى، أذكر يوم مررت مصادفة أمام مبنى دار الهلال بشارع المبتديان، حيث قرأت في لوحة إعلانات الدار خبر وفاة عبدالحليم عبدالله، وكعادتها غلبتني دموعي، في تلك الفترة كانت رواياته على رأس قائمة الأكثر مبيعًا، وبعده إحسان عبدالقدوس، فيوسف السباعي، فنجيب محفوظ. مازلت أحمل حنينًا لأبطالي في تلك الأيام، مع الاعتراف بسبب آخر غير النوستالجيا وراء استمرار بقاء كتب عبدالحليم عبدالله في مكتبتي، وهو اسم جمال قطب الذي رسم أغلفتها كلها ومنحها مذاقًا مصريًا خاصًا، كذلك احتفظت بروايات إحسان عبدالقدوس المرسومة أغلفتها بريشة حلمي التوني، كأنني كنت أتدرب على تزاوج الفنون زواج الكلمة والصورة لأصل إلى ذروة هذا الزواج بمحبتي للسينما، سينماي الخاصة، ولها حكايات أخرى.
● كيف ترى واقع الحياة الثقافية الآن في ظل غياب بعض الأصدقاء ورحيل البعض الآخر، لاسيما أنك عدت في الآونة الأخيرة، قبل تفشّي وباء كورونا، وعقب أحداث 25 يناير إلى جلستك مع الأصدقاء القدامى من المثقفين والأدباء بمقاهي وسط القاهرة؟
- كان جيلي منذ أواخر السبعينيات لا يتوقف عن محاسبة أسلافه السابقين عليه مباشرة، محاسبتهم على إصرارهم على استمرار بقائهم، كنا نقتل صلاح عبدالصبور طوال النهار، ونبكي عليه طوال الليل، وإذا هزم الهزال أحدنا أشار إلى أحمد حجازي، وزعم أنه السبب مادام يصر على التكيف مع كل وضع جديد، ولم يفلت نجيب محفوظ ولا يوسف إدريس، ولم يفلت من هم أدنى منهما، كنا نبحث عن مثال للتقدم، نبحث لنعاني هوس المهزومين، ومع بدايات القرن كان شباب جيلي قد بدأ في الانحلال، كنا نشيخ بسرعة، انفرطت جماعاتنا وأصبحنا أفرادًا موهوبين وموتورين وحمقى، كنا نشيخ بسرعة، ثوراتنا الشعرية والحياتية حرقت معظم فحمها قبل الأوان، واستهلكت فحمها الاحتياطي، استهلكت أغلبه، كنا في حاجة إلى عودة الروح، ولما فوجئنا بالخامس والعشرين من يناير، وبالخروج المفاجئ، ارتمينا في حضن الزمن، ففوجئنا باستعادة الحرارة التي سبق أن عرفناها في شبابنا، وانتشرنا في الشوارع، وانتثرنا في المقاهي، وانفردنا في الأحلام، ومنذ ذلك التاريخ خرجنا ولم نعد، ولما انطفأت الشعلة؛ ظللنا في الخارج نتمنى شعلة لا تنطفئ، آنذاك عدت إلى مقهاي التاريخي. 
ومثلي عادت غالبية تخاف من العودة إلى جحيم العزلة، وانضممنا وانضم إلينا شباب قادرون على الضحك، قادرون على السخرية، قادرون على وعي مختلف، وكتابة مختلفة، قادرون على نظرة مغايرة، وبدأنا نفكر في سيزيف، وفيما سينصحنا به، ليس من الضروري أن تصلوا إلى قمة الجبل، لكن من الضروري أن تحاولوا دائمًا... أن تحلموا، أن تكرروا الحلم، أعلم أنه قد يصبح كابوسًا، كرروه، كرروه، لكن بعدها جاءت «كورونا» وكأنها نتيجة طبيعية لتفاعل الأحلام الضائعة.
في كل تلك الآونة فقدت الكثيرين ممن صاحبت وصارعت في آن واحد، مات الشعراء حلمي سالم ومحمد عيد ورفعت سلام، مات القصاصون، ماتت المحبوبات، حتى أصبح الموت رغيفًا ساخنًا يظل أمامنا كأننا ننتظر منه أن يبرد، لكنه لا يبرد، لذا أصبحنا نحني رؤوسنا عندما نسمع الكلمات التي سبق أن تشدقنا بها، المثقف العضوي، الثورة الدائمة...، إلى آخره. واختفت الأحصنة التي حلمنا بها لمواصلة السباق، أصبحت المنافسة في سبيل تأجيل السقوط التام، وأصبحت المقهى اسطبل أحلامنا، وأصبحنا نحن الخيول الهرمة. 

الرؤية والرؤيا
● اتسمت مرحلة الثمانينيات والتسعينيات الميلادية بزخم نقدي كبير يواكب الحركة الأدبية، ويلاحق ما يصدره المبدعون إلى حد ما، كيف ترى هذه المواكبة الآن؟ 
- الأسهل دائمًا أن نتحدث عن الماضي، خاصة الماضي التام الذي يمكن أن نتحدث عنه بطلاقة أكبر، وربما بموضوعية أكبر، أما حاضرنا فلأن عيوننا وقلوبنا وأصابعنا تلتصق به، ولأننا معجونون فيه، وأيضًا هو معجون فينا؛ فغالبًا سنفشل في امتلاك القدرة على تحديده. هكذا تلزمنا مسافة ما تسمح بالرؤية والرؤيا، مسافة زمان ومسافة مكان، لذا فإن مهمتنا دائمًا هي ضبط المسافة. الماضي يتيح لنا ذلك، فيتيح لنا الرؤية والرؤيا، أما الحاضر فلأننا نلتصق به، غالبًا ما نعجز عن تحييده وتحييدنا. نعجز عن حفر المسافة اللازمة بيننا وبينه، والرؤية والرؤيا تلزمهما المسافة. يمكنني أن أتحدث بطلاقة عن السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، لكن لساني سيتعثر ويخطئ إذا تحدثت عن الآن، الآن لحظة حية نعيشها أكثر مما نراها، وإذا اجترأنا وفعلنا فسوف يحدث هذا بحياد أقل، بموضوعية أقل، وبخوف أكبر، المسافة ضرورية لنرى، ضبط المسافة ضروري لضبط الرؤية، يقول المتصوفة ابتعد لتقترب... نعم ابتعد لتقترب ■