المعلّم الإسبانيّ بدرو مارتينث رائد دراسات الأدب العربي الحديث في المؤسسة الأكاديميّة الإسبانيّة
«توفي الأستاذ بِدرو مارتينِث مونتابِث... توفي المعلّم الإسبانيّ».
ران صمتٌ مبحوح قَطَعَهُ السؤال: وفي نهاية المطاف، ألسنا نولد ونموت على الرغم منا؟ شعرْتُ بذاكرتي تتنزّى بالصور من غيابة الماضي إلى عالم الحضور كما لو أنّها شريطٌ سينمائيّ حدثَ البارحة.
تعود معرفتي للمستعرب الإسباني بدرو مارتينث مونتابِث (1933-2023) لربع قرن مضى، لسنوات التلمذة أثناء تحضيري لأطروحة الدكتوراه في جامعة آوتوموما في مدريد. كيف لي أن أعبّر عن حنيني للتحدّث معه؟ عن مسرّتي للتواصل مع أستاذ استثنائي مثله؟ كيف لي أن أحكي عنه بعبارات تجتلي ما خبرته من أيامه العامرة بالسخاء المهني والإنساني، وبالطموح المعرفي الدؤوب؟
في ضيعة خودر الأندلسيّة، التي عُرِفَتْ باسم «شودر» بالعربيّة، وُلد معلمنا الإنسانوي قبل ثلاث سنوات من الحرب الأهليّة (1936-1939)، التي تفجّرتْ إثر انقلاب الجنرال فرانكو على الحكومة الجمهوريّة المنتخبة شرعيًّا. بمعنى أنّ معلّمنا الإسباني هو ابنُ الحرب التي تشكّلَتْ فيها ذاكرته الريفيّة الأولى، قبل التحوّلات المدينيّة والاجتماعيّة، والتي فرضها انتقاله للعيش في العاصمة وهو بعمر سبع سنوات. حربٌ طاحنة، وصّفَها فرانكو مع من ناصره من الاكليروس بحرب «التحرير الصليبيّة»، ونتج عنها ضياع جيلٍ بأسره ومَنعِهِ من تكوين ذاته؛ فضلًا عن استفحال أزمة ضمير فادحة بعد أنْ ضَفَرَ الديكتاتور على جبهتِه إكلِيل الغار، وأرسى قواعد بروباغاندا تستمرئ التَرَدّي وتَهَاويل الوَيلات لتحيلها بطولاتٍ وأمجادًا تُبثّ في وسائل الإعلام، وتُدرّسُ في المؤسسات التعليميّة؛ علاوة على ترسيخ عقائديّة كتائب الفَلانخيه الفاشيّة ومُثُلها العُليا التي تتغذى من أيديولوجيا «نقاء العرق» في «الأمة الإسبانيّة».
بدايات شكّلت ميوله
في هذه الأجواء السياسيّة عاش الطفل والشاب بدرو مارتينث مونتابِث. وفي الصيف المتقدم على تسجيله في الجامعة، وقع بين يديه كتاب سحره وأثّر في ميوله الدراسيّة، ألا وهو «أشعار عربية - أندلسيّة» للشاعر ابن سعيد المغربي (القرن الثالث عشر)، بترجمة المستعرب الكبير إِميليو غارثيّا غومِث (1905-1995)، الذي سيصبح أستاذه ويلعب دورًا مهمًا في مسيرته، بتسليمه حلقة في سلسلة المواظبة على الاستعراب، ويتركه ليكون ذلك المريد المُنشقّ الذي فتح أبوابًا جديدة أمام البحوث العلميّة للثقافة العربيّة لاحقًا.
أثناء دراسته في كلية الآداب والفلسفة في «الجامعة المركزية» في مدريد (جامعة كومبلوتنِسيه حاليًا) أَزمَعَ مارتينث مونتابِث على التخصص في فرعيّ التاريخ والدراسات الساميّة. وكان لدراسته التاريخ تأثيرٌ جمٌّ على كيفيّة مقاربته للاستعراب، وذلك من خلال عنايته بالشرط الزمكاني للأدب والفنّ والنقد. وعليه، شقّ استعرابه دربه المفارق عن المكرس حتئذٍ، وهو يتكمّش بالوعي والإيمان «أن الدرب يُشقُّ بالمشي»، يُشقُّ بفِعْلِ المشي، على حدِّ تعبير مواطنه الشاعر أنطونيو ماتشادو. فمنذ منتصف القرن العشرين، استقطب كيانه الشكّ النقدي في الاستعراب التقليدي والأحكام الاستشراقيّة المسبقة. الأمر الذي قاده ليقظةٍ وجدانيّة ومعرفيّة انزاحت عن واقع الانعزال العلمي الذي كان يولي جُلّ عنايته بالدراسات الأندلسيّة في شبه الجزيرة الإيبيريّة فقط. هكذا، بدأتْ خبرته الأخلاقيّة تتحرر من قوقعة الالتصاق بالأطر الذهنيّة الثابتة، وشرع يرود أبعادًا جديدة في الثقافة العربيّة ترتبط مباشرة بالواقع العربي المعاصر وقضاياه. وأعلن لنفسه أنّ اللغة العربيّة وآدابها هي وجود حيّ يرزق، وليست محض ماض هرم أو ثقافة معطلة زمنيًّا، فضلًا عن أنّ سياقاتها غير متوقفة عند الماضي الراحل، بل مازالت حاضرة تُدوِّمها الحركة كما الجدل. ولعل في المختارات الشعريّة الموسومة «المدرسة السوريّة الأمريكيّة» التي أنجزها عام 1956، وهي أوّل كتاب إسباني يتناول إحدى جوانب الحداثة الشعريّة العربيّة، مثالٌ بارز على ما أعنيه بكلامي، لأنّه يشير إلى باكورة السجال والانزياح عن الاستعراب الاتباعي.
الاستعراب في مصر
الآن، وأنا أنظر خلفًا لسيرته، أستطيع التأكيد أنّ تجربته الحيويّة في مصر (من 1957 إلى 1962)، التي سافر إليها مع زوجته بعد تخرُّجهما من الجامعة، كان لها الأثر النافذ في بلورة طبيعة الاستعراب الذي مارسه. فقد شكّل العيش في مصر العامل الذي حَسَمَ توجّهه الذي مضى فيه بقصديّة واعية. ففي مصر أكّد المعلم الإسباني نفسه من خلال تكلّم اللغة العربيّة والتواصل بها، كما خَبرَ التماهي التواجديّ والتفاعل العملي اليومي مع الثقافة وأهلها. نزل إلى أرض الواقع، واقترب من مختلف المكونات الاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة. رفض استيهامات التخييل الاستشراقي، وأنكر الرؤية الجوهرانيّة المتعالية، ونصر الرؤية النقديّة للمجتمع والثقافة العربيّة. عبّرَ عن ذاته وأفكاره بلا مواربة في سريرته، على حدٍّ سواء مع تعبيره عن ذاته وأفكاره بين الجموع... وتحرر على الصعيد الشخصي والبحثي. مازلتُ أذكر كلماته وهو يحكي عن تلك السنوات المصريّة بشغف. وما برح صوته الرخيم يصلني وهو يسرد تفاصيل ذلك الهوى والانفتاح والتعلّم والتعليم... واكتشافه لذاته من خلال اكتشاف الآخر.
ربطته أواصر الصداقة بأهمّ الشخصيّات الأدبيّة والفكريّة في مصر حينئذٍ، إلا أنّ تناغمه الأقصى كان يتحقق حين تواصله مع المكون الشعبي الذي تعلّم منه الأجمل والأكثر أهميّة بالنسبة له في الحارات، والأزقة، والمقاهي، والأوتوبيس، وأرصفة الترامواي، ومحطات القطارات، والأسواق الشعبيّة، والمساجد الأثريّة، وعاليات المآذن، والأوابد التاريخيّة، والزمزمات الليليّة... إلخ.
في مستهل إقامته في مصر عُيّن مديرًا تقنيّا في «المركز الثقافي للدراسات الإسبانيّة» (معهد ثربانتس لاحقًا). وإلى جانب تحضيره لأطروحة الدكتوراه، قام بتحرير مجلة La Rabita «الرابطة»، وهي مجلة ثنائية اللغة كانت توزع في مصر وتنقل عن طريق السفارة الإسبانية إلى إسبانيا. ويحمل اسمها الذي سكّه محررها امتنانًا مبطنًا لـ «الرابطة القلميّة» التي صدرت في المهجر الأمريكي. توجّهتْ مجلة «الرابطة» للقراء العرب والناطقين بالإسبانيّة، سواء كانوا من الإسبان أو من أمريكا اللاتينيّة المقيمين في مصر. وكنتُ اطلعتُ على أعداد منها في أحد الأرشيفات الحكوميّة في مدريد. وفي حقيقة الأمر، أعجبت بهذا المشروع المبكر الذي يستحق الاحترام والتقدير لما تَبَصّرته فيه من سعي مبكر لبناء جسور التواصل على أساس المساواة بين اللغتين العربيّة والإسبانيّة، وتوطيد أواصر الصداقة والحوار المعرفيّ بين الثقافتين. وفيها نشر محررها الشاب مارتينث مونتابث نصوصًا إبداعيّة شعريّة وقصصيّة إسبانيّة وعربيّة. أذكر منها نشره قصائد للشاعر اليساري رافائيل ألبيرتي (الأمر الذي لم يرق للرقابة في إسبانيا حينها)؛ كما ترجم نصًّا قصصيًّا لنجيب محفوظ (هو الأول باللغة الإسبانيّة) مرفقًا مع لقاء أجراه معه، بغية تنبيه الثقافة الإسبانيّة والأوربيّة بقيمته الإبداعيّة قبل حصوله على جائزة نوبل بعقود. كما ظهرت في المجلة سلسلة من المواضيع واللقاءات والحوارات التي عقدها المحرر مع أهمّ أدباء ونقاد المرحلة العرب، مثل يوسف الشاروني، يحيى حقي، صلاح عبدالصبور، محمد عبدالحليم عبدالله، يوسف إدريس، عبدالرحمن الخميسي... إلخ.
من جانب آخر، اشتغل بدرو مارتينث مونتابِث في «مدرسة الألسن العليا» (كلية الألسن بجامعة عين شمس لاحقًا) التي أسّسها رفاعة الطهطاوي، وكان أول مدير لقسم اللغة الإسبانيّة فيها. ويقال إنّ كُراس تَعَلُّم الإسبانيّة الذي أعدّه في سنة 1958، لا يزال صالحًا للآن، وأن العديد من الطلاب المصريين يتناقلونه لليوم، ويعرف فيما بينهم باسم «كُراس بدرو»، فضلًا عن كلّ ما سبق من أشغال عمل مذيعًا في القسم الإسباني في الإذاعة المصريّة الموجه إلى أمريكا اللاتينيّة، ذلك أنّ تكاليف الحياة أخذت تكبر مع ازدياد عدد أفراد أسرته بولادة ثلاثة أبناء له في مصر. أذكر منهم روسا-ايسابيل مارتينث ليّو التي ستتلمذ على يد والدها في جامعة آوتونوما في مدريد فيما بعد، وتستأنف درب الاستعراب، وتدريس الأدب العربي الحديث في الجامعات الإسبانيّة، وغيرها في إيطاليا وأمريكا اللاتينيّة، بروح تجديديّة مفردة.
التعريب في إسبانيا
عقب انتهاء إقامته في مصر عاد مارتينث مونتابِث إلى إسبانيا ودافع عن أطروحة الدكتوراه. وبدأ مسيرته الأكاديميّة، فعمل أول الأمر أستاذًا في جامعة كومبلوتِنسيه بمدريد، ثم عُيّن في عام 1970 مديرًا لقسم الدراسات العربيّة في جامعة إشبيلية، فقام بتحويل مساحته التي لا تتجاوز العشرة أمتار مربعة، والمزودة بخزانة تَضَمّنَتْ مجلّدات مُغبَّرة، إلى قسمٍ حقيقيّ. فقد نفضَ غبار الهجران المتراكم عنه، لصالحِ تراكمٍ آخر تظهر نتائجه الآن عند ملاحظة مساواته مع غيره من أقسام الآداب الإنسانيّة الأخرى في جامعة إشبيلية. وبعد فراغه من هذه المهمة عاود العمل في جامعات مدريد، وانْكبَّ على تجديد الاستعراب الكلاسيكي، ومساءلة منجزه السابق وطبيعته وكيفيّته. ومن المهم التأكيد هنا، أنّ انفصاله عن الاستعراب التقليدي، أو ابتعاده عنه، لم يعنِ أبدًا إدارة ظهره له، أو إنكار أهميّة منجز المستعربين السابقين عليه، بل كان يعني استيعاب حقائقهم الفكريّة، وفهم نقاط ضعفهم، وإدراك متطلبات لحظته التاريخيّة، وما يستدعيه ذلك من نظرية لغويّة وأدبيّة ونقديّة حديثة مغايرة. لذلك أنشأ أُسُسًا علميّة لدراسات الأدب العربي الحديث، فله يعود الفضل في التعريف بهذا الأدب ودراسته ونقده. ويُشار إليه في تاريخ الثقافتين الإسبانيّة والعربيّة على أنّه مؤسس الاستعراب الحديث في الفضاء الأكاديميّ الإسبانيّ. فقد عمل على تحقيق عقدٍ تعليمي ثقافيّ جديد يقوم على إصلاح المناهج الدراسيّة، وطرق التدريس ومفاتيح التأويل والشرح، وتطوير العلاقة بين الطلبة والأساتذة على أساس الحوار، والتحرر من الخطاب اليقيني نحو رؤية نقديّة مزودة بحرّية التعبير وإنتاج الأفكار. ومن الأهمّية بمكان القول إنّه كان أول رئيس في جامعة آوتونوما يُنتخب ديمقراطيًّا (1978-1982). ومدفوعًا بمسؤوليّةِ المثقفِ الأخلاقيّةِ، دعم كافة الجهود التي تنتزع الفضاء الجامعيّ من العزلة البنيويّة المنغلقة، لمصلحة التواصل، إنسانيًّا ومعرفيًّا، مع قضايا المجتمع الإسباني وقضايا العالم العادلة كقضية فلسطين. وأنوه إلى أنّ بدرو مارتنيث مونتابِث زار معظم البلدان العربيّة، فقد حرص باستمرار على التواصل مع مناخاتها الأدبيّة المحليّة، وأهل الأدب والفنّ فيها، دون أن يفوته التوغل في التفاصيل الاجتماعيّة والثقافيّة للحواضر والضياع والبوادي مداومًا على التعلّم لآخر العمر على حدِّ تعبيره.
وله يعود الفضل بتقديم وتشجيع ورعاية الترجمة إلى اللغة الإسبانيّة لمنجز الكثير من المبدعين والنقاد العرب مثل نزار قباني، نجيب محفوظ، توفيق الحكيم، أدونيس، عبدالوهاب البياتي، سعدي يوسف، محمود درويش من بين آخرين. وفي راهن اليوم، ثمّة موكب من الطلبة ممن تحوّل إلى بحاثة ومترجمين مرموقين يشاد بهم في الاستعراب الإسباني، ويحضرني منهم، في معرض الحديث هنا، المستعربة كارمن رويث برابو-بياثِنتِه، التي تابعت ولا تزال نهج أستاذها بمفرد شخصيتها، متمسكةً بالتفكير النقدي الحرّ.
وأود القول إنّ سيرة مارتينث مونتابِث الذاتية في المرحلة الفرانكويّة (1939-1975)، ومن ثم أثناء التحول الديمقراطي (مازال ساريًا) هي انعكاس صادق لتلك الإسبانية المكافحة بعناد من أجل تحقيق عالم حرّ عادل، ومتنوع تحت مظلة المساواة في حقوق الإنسان، ورفض أيديولوجيا الطغاة وديماغوجيّة من نصبوا نفسهم قوّامين على المستضعفين في الأرض، إضافة لرفض هيمنة أي ثقافة على ثقافة أخرى. ولدوره التاريخي والثقافيّ ومنجزه البحثي القيّم حصل على أرفع الجوائز والأوسمة الثقافيّة والتكريمات المتعاقبة داخل وخارج بلده.
وأختتم كلامي بالإشارة إلى أن معلمنا الإسباني لم يتوان عن تقديم الدعم المعنوي لطلابه العرب، خاصة ممن بقي للإقامة في إسبانيا. وهنا أشير إلى دوره الأبويّ التوجيهيّ، وإعانته الكثيرين على استيعاب وجودهم الوجداني ضمن ثقافتين ينبغي أن تتعايشا معًا جدليًّا، دون إسكات إحداهما للأخرى أو إجبارها على تقاعدٍ غير عادلٍ ولا منصفٍ ■