سفينة نيرودا جراح الأوطان

سفينة نيرودا  جراح الأوطان

تتميز إيزابيل الليندي بأسلوبها الفريد في سرد الأحداث التاريخية التي حدثت في الواقع، وبخاصة في إسبانيا والشيلي وبلدان أخرى في أمريكا اللاتينية. وقد استطاعت تصوير المآسي الإنسانية بدقة فائقة لتقريبها إلى القارئ، فيشعر أنه في قلب أتونها وكأنه قد عاشها فعلًا، إذ يجد نفسه في أعماق مهاوي الخسارات التي أنتجتها العلاقات الإنسانية المنكسرة وويلات الحروب الأهلية ومرارات الهجرة القسرية وأعطاب اللجوء. كل هذا جعل من إيزابيل الليندي كاتبة آسرة، ما أن نبدأ في قراءة إحدى رواياتها حتى نغرق فيها ونتمنى أن نظل مسافرين في رحابها بلا انتهاء. 

 

ولدت إيزابيل الليندي في ليما عاصمة البيرو سنة 1942، وأمضت الكثير من طفولتها في الشيلي. وبسبب عمل والدها في السلك الدبلوماسي، فقد عاشت في عدد من بلدان العالم وتنقلت بين عدة أقطار، وتشربت ثقافات الشعوب، واكتسبت تجارب قوية وخزنت عصاراتها في آبارها السرية التي تمتاح منها لنسج رواياتها المدهشة. 
لكن أقسى تجربة عاشتها تمثلت في مقتل عمها رئيس الشيلي المنتخب سلفادور الليندي خلال عملية الانقلاب العسكري الذي قاده ضده الجنرال أوغوستو بينوتشيه. وخوفًا من انتقام مخابرات بينوتشيه من عائلة الرئيس سلفادور الليندي، قررت إيزابيل اللجوء إلى فنزويلا. وقد سردت تفاصيل ذلك الانقلاب في روايتها «بيت الأرواح»، كما ذكرته في «سفينة نيرودا».

سفينة نيرودا
تعد رواية «سفينة نيرودا» من الأعمال الرائعة التي كتبتها إيزابيل الليندي. وقد وثقت فيها أحداثًا تاريخية حقيقية وواقعية، وهي تدور في فضاء زماني تجاوز نصف قرن، امتد من سنة 1938 إلى حدود سنة 1994. وتبدأ الأحداث في منطقة كتالونيا في بداية الحرب الأهلية الإسبانية. 
أما أبطالها الرئيسيون فهم البروفيسور دالماو وزوجته كارمي وابنهما وليام المقاتل في صفوف قوات الجمهورية، وفيكتور الذي ترك دراسة الطب واشتغل ممرضًا بنفس القوات في مدريد، في مواجهة القوات العسكرية المتمردة بقيادة فرانثيسكو فرانكو. وقد انضمت فتاة قروية فقيرة تدعى روزر إلى عائلة دالماو بعدما أنقذها أستاذ التاريخ سانتياغو غوثمان من الفقر، وبعد أن لامس موهبتها الموسيقية عهد بها إلى البروفيسور والموسيقي مارسيل لويس دالماو من أجل مساعدتها على تعلم العزف على البيانو. 
وقد وجدت روزر عشًّا دافئًا وسط عائلة دالماو، وارتبطت بعلاقة عاطفية بوليام دلماو الابن الأصغر الذي قتل في إحدى المعارك بين ميليشيات الجمهوريين وقوات الجنرال فرانكو الذي ربح الحرب واستولى على حكم إسبانيا وشرع في التطهير الشامل ضد أعدائه. ولأن عائلة دالماو كانت من مناصري الجمهوريين، فلابد أن تكون مستهدفة بالتصفية، لذلك قررت اللجوء إلى فرنسا، لكن لم يصل إلى هناك سوى فيكتور وروزر، لأن الأب توفي قبل رحيل الأسرة، بينما هربت منهما الأم كارمي في الطريق إلى الحدود الفرنسية، لأنها كانت مصرة على البقاء في بيتها ورفضت اللجوء. وعندما وصلت روزر وفيكتور إلى فرنسا تم اعتقالهما والزج بهما مع آلاف اللاجئين في مخيمات تجميع في ظروف قاسية ولا إنسانية. 

السفينة المنقذة 
جهز الشاعر الشيلي بابلو نيرودا سفينة وينيبنغ لنقل اللاجئين الإسبان إلى الشيلي بموافقة رئيسها بيدرو أغيري سيردا على السماح بدخول اللاجئين الإسبان. عدم الحصول على التمويل اللازم من دولة الشيلي لشراء السفينة جعل نيرودا يشتري السفينة من ماله الخاص لنقل اللاجئين من ميناء مدينة بوردو الفرنسية في اليوم الرابع من أغسطس 1939. واستطاعت روزر  وفيكتور أن يكونا ضمن لاجئي السفينة بعد زواجهما كشرط لنقلهما معًا إلى التشيلي، حيث استقرا هناك وأكمل فيكتور دراسة الطب وأصبح متخصصًا في جراحة القلب، بينما واصلت روزر حياتها في مجال الموسيقى، وربيا مارسيل طفل روزر من وليام دالماو. وهناك تفاصيل كثيرة أسست بها إيزابيل الليندي رواية «سفينة نيرودا»، وتحتاج قراءة النص الكامل، سواء باللغة الإسبانية أو باللغات التي ترجمت إليها ومنها اللغة العربية.  

الانقلاب الدموي 
كانت العاصمة سانتياغو هادئة تنعم في سلام دافئ، وكان الشعب قد ركن إلى مشاغله اليومية مطمئنًا في ظل نظام سلفادور الليندي الذي انتخبه الشعب بأغلبية كبيرة. لكن ذات صباح ملأت الدبابات والمصفحات وناقلات الجنود كافة الشوارع، وكانت طائرات الهيلوكوبتر تحوم وتقطع سكينة المدينة. وما هي إلا ساعات حتى استولى الجيش على السلطة واقتحم القصر وقتل الرئيس سلفادور الليندي، واغتال الشرعية في وضح النهار، وتسلم الجنرال أوغستو بينوتشيه زمام السلطة، وسوف يحكم البلاد بالحديد والنار لأكثر من عقدين.  
عصف الانقلاب بالحياة الهنية التي كانت تنعم بها روزر وفيكتور في تشيلي، وبما أن فيكتور تربطه صداقة بالرئيس سلفادور الليندي، فقد صنفته أجهزة بوليس بينوتشيه عدوًا خطيرًا، فتم اعتقاله وتعذيبه، وقضى مدة من الزمن في أحد معسكرات الاعتقال الرهيبة. وأفرج عنه في ما بعد بسبب إنقاذه قائد حراس السجن من الموت بعد إصابته بنوبة قلبية.
 لم يتردد فيكتور وروزر في اللجوء إلى فنزويلا ليمكثا فيها مدة من الزمن، عادا بعدها إلى إسبانيا، لكن الظروف لم تكن لتساعدهما على البقاء هناك، لأن كل شيء قد تغير للأسوأ، وبدا لهما أن ليس لهما مكان في وطنهما الأصلي، ففضلا الرجوع إلى الشيلي واتخاذها وطنًا لهما، وهناك توفيت روزر قبل فيكتور الذي ظهرت في حياته ابنة له من علاقة غير شرعية مع فتاة من عائلة أرستقراطية تدعى أوفيليا. لم يكن فيكتور يعرف ذلك لأن أخبار أوفيليا انقطعت عنه وأخفت عنه خبر الحمل، وهي نفسها لا تعرف أنها ولدت بنتًا لأن أهلها وبمساعدة قس مسيحي خدروها أثناء الولادة، وكذبوا عليها مدعين أن ما ولدته قد مات. 

سرد المواجع
نقلت لنا إيزابيل الليندي مواجع الصراعات السياسية الدموية وما رافقها من مستنقعات اجتماعية واقتصادية وآلام المنافي وجراح الحنين إلى الأهل والوطن والكثير من الأحداث السياسية التي ساهمت في صناعة أحداث تاريخية راسخة في ضمير الإنسانية، في سرد شيق ومؤثر استلهمته من زمان تجاوز ستين عامًا. 
    تعد شخصيات رواية سفينة نيرودا صلبة وقوية لا تنال منها الظروف الصعبة التي مرت بها، ولم تزدها المآسي إلا قوة وصمودًا، ولا نبالغ إذا قلنا: إن جزءًا من جمالها يتجسد في تماسك شخصياتها ومقاومتها المستمرة لتيارات الحياة الجارفة.
تعبر رواية «سفينة نيرودا» عن ذروة المعاناة التي ولَّدها الاغتراب داخل الوطن وخارجه، في زمن الحروب والتمزق الإنساني، وتفشي قيم العنف وطغيان الديكتاتورية العسكرية التي تسحق حقوق الإنسان وكرامته دون وجه حق.
لقد راهنت إيزابيل الليندي في مشروعها الروائي على الانحياز إلى المقهورين وحقوقهم المهضومة، وفضح الظلم، وإظهار مثالب الدكتاتورية والاستبداد وانتهاك كرامة الشعوب في كل من إسبانيا والشيلي وفنزويلا وغيرها من البلدان التي كانت تعيش على إيقاع الانقلابات العسكرية والأنظمة الدكتاتورية. نلمس ذلك بوضوح في جل رواياتها... «إيفا لونا» و«باولا» و«العاشق الياباني»، بالإضافة إلى مذكرات مثل «بلدي المخترع» و«مجموع أيامنا». وكانت الواقعية السحرية من أبرز ما تميزت به أعمالها كما هو شأن العديد من كبار كتاب أمريكا اللاتينية، وعلى رأسهم غابرييل غارسيا ماركيز. وقد تُرجمت أعمالها إلى أكثر من أربعين لغة، وحازت العديد من الجوائز والأوسمة، بما فيها وسام الحرية الرئاسي الذي وشحها به الرئيس باراك أوباما، وهو أعلى وسام مدني في الولايات المتحدة الأمريكية ■