ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط
قبل بلوغه الثلاثين كان كتابه «الغربال» يدشّن نظرة جديدة تجاه الأدب العربي عامة، وتجري في نهر نقده مياه جديدة، فدخل ميخائيل نعيمة الكتابة من باب النقد وانتهى المطاف به داعيًا إلى إلغاء وظيفة النقد، تمامًا كما انتهت حياته مسالمًا منعزلاً بينما بدأها مغامرًا متمردًا، ويثمن - بعد تردد - نقد العقاد لشوقي ثم يتحيز لشوقي ويرفعه دون العالمين. يلتقي في كثير من تصوراته وحروبه مع النسق القديم مع جماعة الديوان بمصر، غير أنه لم يصدر في نقده عن منهج متماسك قدر قيامه على تصور تأثري شأن كثير من المبدعين إذا تصدوا للنقد.
يجتمع في شخصية ميخائيل نعيمة مزيج من الموسوعية التي أحاطت بإنتاج رواد عصر النهضة، تجاورها فرادة في الموهبة وقدرة على الاستيعاب سمحت له بفتح آفاق الحوار مع الوافد الغربي، وجعلته النظرة المختلفة للأصيل العربي ممثلًا للعودة للمفهوم القديم للأدب حين كان الأخذ من كل علم بطرف، فينتقد بذائقة الفنان وموسوعية المثقف. ومن الغريب أنك تستطيع أن ترتب أولويات الطبقات التي يتكون منها إنتاج بعض النماذج؛ كالعقاد الذي يطغى لديه السياسي على النقدي، بينما الأمر مختلف مع ميخائيل نعيمة الذي استوعب الصدمة الحضارية بأريحية شديدة، فيما ظل ولاؤه للأدب العربي حاضرًا وثابتًا.
إنه ناقد ومترجم وأديب كتب في كل الأنواع الأدبية شعرًا ونثرًا، ومجال خصب لمن يدرس الأدب المقارن؛ إذ أتقن الإنجليزية والروسية وألم بالفرنسية، وإن غلب عليه الشهرة بالشعر برغم توقفه عن كتابته في مرحلة مبكرة.
اتصال ثقافي
توفر لميخائيل نعيمة عظيم اتصال بالثقافتين الإنجليزية والروسية، فاحتل تولوستوي مكانة كبيرة في نفسه، بفضل قدرته على التغلغل داخل الذات البشرية، ويتحمس لأسلوب وولت هوتمن، فمدح أسلوبه المعتمد على مفردات عارية أو متقشفة بلاغيًا. ولا ينافس دوستوفسكي لديه سوى طاغور، ولا يقارب مكانة الترجمة سوى الاعتداد بمراجعة المفاهيم القديمة.
والمزج بين أكثر من ثقافتين جعله مؤهلاً لأن يصبح ذا رؤية متسعة، وربما تراجع عن قول الشعر لصعوبة حمله ما يريده، فاتصل بالقصة والمسرح والرواية وركز على النقد صبًا لأفكاره الواعية. كانت مرحلة روسيا بعيدة الأثر في تكوينه وكان اطلاعه على الأدب الروسي دافعًا لنقد الأدب العربي من جهة ندرة الصدق ومخاصمة المجتمع وتقديم التنميق على الفكر فنمت رغبته في الدعوة إلى التجديد، وأكمل تصوراته عقب سفره إلى أمريكا ودراسة القانون والآداب والفلسفة.
لم يقف على أطلال الاغتراب التي أحاطت بالكثيرين ممن واجهوا الحضارة الغربية بغصة الانهزام الداخلي وكثير من إحساس الدونية، ولكنه ناوش الحضارة الغربية معتقدًا أنها ليست نبي العصر، ربما بالقدر الذي يأسى فيه لحال العرب بحضارتهم الحالية، وتمسك بمحاولات إحيائها؛ فيظهر امتنانًا كبيرًا للشاعر الكبير جبران خليل جبران ليس فقط لأنه رائد «الرابطة القلمية» (1920-1931) والتي انضم لها ميخائيل نعيمة، وكان جبران لديه هو نموذج الشاعر في تصور الأدب الجديد، ويرى الغبن قائدًا لنظرتنا تجاهه بما هو سابق لعصره، ومستشرف لجوهر الشعر.
درس ميخائيل نعيمة في روسيا ثم تخرج في جامعة نيويورك فأكمل دراسة الحقوق والآداب وتخرج فيها 1916، وكان مستشارًا للرابطة القلمية في نيويورك، فتغيرت بعض أفكاره وحمل على البلاغة المتيبسة فكان اهتمامه بكيفية القول دون ظاهر معناه، ولم يشغله الخلاف المصنوع بين الناقد والمبدع ولم يهتم بتقديم أحد الطرفين على سواه، ولكنه ضمهما في خندق واحد يبغي البحث في لُبّ الأدب والتنقيب عن جوهر الإنسان. والأدب لديه رسالة، بعيدًا عن حاله البائس مع بداية انشغاله بالهم الأدبي حين كان مجرد بهرجة عروضية وأزياء اللغوية، فيلح على وجوب انطلاق الأدب من توجه بعينه ورسالة خُطط لها بموضوعية، فكانت تعنيه التخوم ويشغله التنقيب عن كوامن الذات بدرجة أكبر من اهتمامه بالقشور والافتتان بالطلاء الظاهر دون الجوهر الأصيل، وآمن أن الفكر كائن قبل اللغة، والعاطفة قبل الفكر.
وتمرد على عروض الخليل وذهب يدعو مع غيره من المهجريين إلى الشعر المنثور وغيره من أنماط تخرج على السائد والمنتشر. ويقوم جوهر موقفه من الشعر العمودي على نقد التبعية وقلة التمرد فيه، أو انحباس النفس الشاعرة في انفعالات مؤطرة.
وقد نالت النعيمي سهامُ النقد؛ لخلو كتاباته من الاهتمام بالمنهج أو المصطلح، ولكن وضع الأمور في سياقها التاريخي يدحض ذلك فكان اهتمام عصره بإحياء حال الأدب ونقده مقدمًا على غيره من الاعتبارات، وتأسيس الحرية أكثر أصالة لديهم من المنهج، وتظهر الحرية لديه بمفهوم آخر هو «الانطلاق»؛ فلا يتقيد بوزن أو قافية، ولعله السياق العام الذي شهد الشعر المرسل والشعر المنسرح والاختلاف بين شعر التفعيلة والشعر الحر دون أن يؤطر الشعر، ويعارض - صراحة - من يدعي احتكار الحقيقة الشعرية، فيرى أنه هكذا يجب أن يكون الشعر كما خاطب يوسف الخال.
يؤرقه دومًا سؤال الأصل والأساس والمنبت الذي نشأت عنه الظاهرة بالدرجة ذاتها التي يبحث بها دائمًا عن «الإنسان» بوصفه بشرًا قبل كل اعتبار. وعلى الرغم من نزعته الطليعية فلا تبتعد عن سطوره تصورات الشاعر النبي، التي أحاطت بالوعي القديم، ولعله من الطبيعي ألا يتخلص المجدد من الآثار القديمة بالكلية.
حرية الكاتب
تمثلت المقاييس الأدبية لديه في ما هو مشترك بين الأفراد والأمم في كل العصور والأمكنة، ويرادف بين مفهوم الأدب ومفهوم الحرية، وعلى ضوء هذا نفهم دعوته النزقة لاستخدام العامية تحيزًا لحرية التعبير وتقديمها على سواه، وربما وجدها سبيلًا لإعلاء البعد الفردي في الإبداع بما يعنيه من خصوصية النظر، وقد عارضه أغلب مجايليه في تلك الدعوة، ولكنه - للحق - أظهر كثيرًا من المرونة بين المسرحية وتلوين الشخصيات بطبقات لغوية متفاوتة، والقصة واقتضاءاتها الفنية. لقد جاءت رغبته في «تحرر» الكاتب لغويًا تمظهرًا لحلمه في حرية الكاتب، فاللغة لديه تخضع لقوانين الحياة بالدرجة ذاتها التي تتبع فيها قواعد اللغة، وعليه فالعامية لديه حية أكبر من غيرها.
ولعل عدم تعويله على المقاييس الأدبية جاء فرعًا عن احتفائه بمفاهيم «القيمة» والإنساني والثابت عوضًا عن التعويل على المقاييس التي تتبدل وتتغير بين فترة وأخرى؛ فجديد اليوم قديم غدًا، بينما الأدب عمومًا والشعر خصوصًا لا نضع يدنا بحسم على السر في هذه الأبيات التي كلما طال عليها الدهر تجددت لذتها كالخمر المعتقة؟
وتتوافق آراء العقاد في «الديوان» مع أسس وعي ميخائيل نعيمة في «الغربال» وبخاصة مع صدورهما في وقتين متقاربين، ونكاد نجزم أن نزق النعيمي في التجديد كان أكثر جموحًا من أصحاب الديوان فتوجه تلقاء التحرر من كل قاعدة قديمة تقوده محاولات الثورة على النمط. وربما - لهذا الاعتبار - جاءت فترة كان ينفر فيها من شوقي وحافظ لارتباط شعرهما بالجزئي والعابر، ووقوع نصيب وافر منه في دائرة المناسبات العارضة، فتفتقد الصدق التعبيري دون قدرة على تجاوز المناسبة إلى الكلية والخلود، فالمحك لديه هو الوقوع على العالم الخاص وليس متصلاً بالبهرجة، وكانت إعادة النظرة الكلية للمنتج الشعري قد جعلت الشعر العربي القديم والشعراء الجدد صغارًا.
تعدّدت كتابات ميخائيل نعيمة فكتب أعمالاً روائية هي: «مذكرات الأرقش»، ولقاء، وكتابات مرداد واليوم الأخير وسيطر عليه فيها خيال جموح، ومغادرة للواقع حد الوصول إلى الخرافة تارة والواقعية السحرية أخرى، واستغل سيولة السرد لعرض أفكاره الميتافيزيقية واضعًا أشخاصًا ليست من دنيا الواقع، وقد نالت بعض تلك الأعمال معارضة شديدة لاعتبارات مختلفة.
ولميخائيل نعيمة ثلاث مجموعات قصصية نازع بها البعض في ريادة كتابة القصة القصيرة، واعتمد فيها التوجه الرومانسي واستحضر البيئة الريفية ومزج فيها بين الحوار والسرد وتأثر بالكتاب الروس وبخاصة تشيخوف وجوجول وترجنيف.
كتب نعيمة مسرحيتين طويلتين، وعددًا من المسرحيات القصيرة، ورقمًا ضخمًا من المقالات، فكانت حياته متجردة للكتابة والإبداع، وظل هاجس التجديد حاضرًا، وراية التمرد مرفوعة واستمر يحمل على قيمة المبالغة التي تخرج بالأدب عن حدود الإنساني والمعقول إذا وجدها في الأدب العربي بالقدر ذاته الذي استفزه حال وجودها في الأدب الروسي فاعتبر التخلص منها أسمى قدرات بوشكين.
لا يقتصر حضور ميخائيل نعيمة وأثره على جانب الشعر فيه، فقد تعددت مناحي إبداعه بين السيرة الغيرية حين كتب عام 1934 عن جبران خليل جبران كتابًا يحمل اسم الفقيد بعد وفاته بثلاث سنوات فكتب عن صديقه الأعز وصنوه الروحي لمدة خمسة عشر عامًا فقدم صورة حية له، لا مجرد سرد عنه، كما كتب سيرته الذاتية بعنوان «سبعون» ■