المساكين في التاريخ

المساكين في التاريخ

يقول مصطفى صادق الرافعي في مقدمة كتابه «كتاب المساكين»: «هذا كتاب المساكين، فمن لم يكن مسكينًا لا يقرؤه لأنه لا يفهمه، ومَن كان مسكينًا فحسبي به قارئًا والسلام». ثم يضيف في مقدمة طبعته الثانية: «ومن عجيب الحكمة أنه ما من نبي أو حكيم أو شاعر يترجم إلى لسان الحياة ما هو أسمى من الحياة، إلا استمد ذلك من مساكين الحياة خاصة، هم أبدًا السحابة المستوية المخيلة لمطر العواصف على جدب الروح الإنسانية في الأرض، ولعلهم لذلك يتراكمون في الحياة من سواد كالغمائم، ويتشققون من نار كالبروق، ويجلجلون برعود يئنون فيها، ويتبجسون بمطر يبكون به».

 

لصورة المساكين عند طه حسين من خلال كتابه «المعذبون في الأرض»، مشهدٌ آخر من خلال «صالح» الفقير، فصالح من خلال ثوبه وجسده تشاهد صورة مساكين مصر والعالم: «وقد نظر الصبي إلى صالح فراعه ثوبه الممزق قد ظهر منه صدره أكثر مما ينبغي، وقد انشق عن كتفه فظهرتا من نابيتين، والثوب على ذلك رث قذر يظهر من جسم الصبي أكثر مما يخفي، كأنه أسمال قد وصل بعضها ببعض وصلًا ما، وعلقت على هذا الجسم الضئيل الناحل تعليقًا ما، لتستر منه ما تستطيع، ثم رفع الصبي رأسه إلى وجه صالح فرأى بؤسًا شاحبًا يشع فيه، ورأى ابتسامة فيها كثير من حزن وكثير من أمل... فصالح صورة البؤس والشقاء والحرمان...».
وأيضًا دستويفسكي في روايته «المساكين» يصور قصة حياته، من خلال مؤلفه (جماعة المساكين) التي نشرت وحققت نجاحًا عظيمًا... ولكن لم يكن للأدباء مكان في روسيا بطرس الأكبر، لقد كان القيصر ومن يحيطون به يخشون من حرية الكلمة، ومارس القياصرة ورجال الدين سياسة كبت الحريات، وقد صار «رب الفكر أو القلم رجلاً غير مرغوب فيه في هذه الدولة، ومع ذلك كان هذا العصر من أخصب عصور روسيا في الأدب والفكر». وروايته المساكين أهداها إلى البؤساء «الذين هُضمت حقوقهم، وداستهم الأقدام...».
وها هو جبران خليل جبران، الذي شاهد الفقر وأحس به، من جبال لبنان الخارجة من حصار الحرب العالمية الأولى، والمجاعة، والموت... ليقول: «رأيت الفقراء المساكين يزرعون والأغنياء الأقوياء يحصدون ويأكلون والظلم واقف هناك والناس يدعونه الشريعة».
ويكرّر جبران مراثيه ليربط الإنسانية المعذبة بيسوع الناصري، وكأن هنالك من يحول الفقر إلى نعمة والذل والمهانة إلى عبادة: 
«الإنسانيّة ترى يسوع الناصري مولودًا كالفقراء عائشًا كالمساكين مهانًا كالضعفاء
مصلوبًا كالمجرمين...
فتبكيه وترثيه وتندبه
وهذا كل ما تفعله لتكريمه.
منذ تسعة عشر جيلاً والبشر يعبدون الضعف بشخص يسوع، ويسوع كان قويّا ولكنّهم لا يفهمون معنى القوّة الحقيقيّة.
ما عاش يسوع مسكينًا خائفًا ولم يمت شاكيًا متوجعًا
بل عاش ثائرًا وصلب متمردًا ومات جبارًا.
لم يكن يسوع طائرًا مكسور الجناحين
بل كان عاصفة هوجاء تكسر بهبوبها جميع الأجنحة المعوجة.
لم يجيء يسوع من وراء الشفق الأزرق ليجعل الألم رمزًا للحياة
بل جاء ليجعل الحياة رمزًا للحق والحريّة».
إنهم المساكين، الذين خضعوا لذل الاستعباد وتحولوا إلى اتباع بلا فكر وبلا قدرة على التغيير، وهل يفتقدون القدرة؟ أم أنهم منذ ولادتهم اعتادوا على الاستعباد؟
تأتي الإجابة من الفيلسوف الاجتماعي الجزائري فرانز فانون، من خلال كتابه: «معذبو الأرض»: «القوة وحدها هي التي تفض المشاكل بين المُضطهدين والمضطهَدين».
إنها مرحلة تطور الفكرة والمشهد من مسكين إلى ثائر، تتدفق من خلال عناصر الضعف عناصر القوة التي طالما حققت انتصارات وحسمت معارك وأسقطت ممالك.
أما المقدس فكان أول من دافع عن هذه الطبقة وتكلم باسمها، بل وجسدّها بأسلوب إلهي لا لبس فيه، فلا تخلو الآيات المقدسة من ذكر للمساكين في التوراة والإنجيل والقرآن الكريم، إنها رسالة السماء التي تدعو إلى الدفاع عن الضعفاء وحمايتهم: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكينِ﴾ (سورة البقرة - الآية: 83).
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ (سورة الإنسان - الآية: 8). 
﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾َ (سورة البقرة - الآية: 177).
«اقْضِ بِالْعَدْلِ وَحَامِ عَنِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ» (أمثال 31: 9).
- «تعلموا فعل الخير. اطلبوا الحق. انصفوا المظلوم. اقضوا لليتيم. حاموا عن الأرملة» (سفر اشعيا).
- «روحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لِأَنَّهُ مَسَحَنِي لِأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لِأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لِأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالْإِطْلَاقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ». (لوقا 4: 18). 
وقبل الأديان السماوية الثلاثة ظهرت قيّم حمت هذه الطبقة من خلال النصوص البابلية وغيرها:
- «وفي ذلك الوقت قادتني الآلهة، أنا حمورابي، الخادم الذي سرت من أعماله،... والذي كان عونًا لشعبه في الشدائد،... والذي أفاء عليه الثروة والوفرة...، أن أمنع الأقوياء أن يظلموا الضعفاء وأنشر النور في الأرض، وأرعى مصالح الخلق». (قصة الحضارة)
- وفي آخر نص من شريعة حمورابي «... أنا الحاكم الحفيظ الأمين عليها، في قلبي حملت أهل أرض سومر وأكد... وبحكمتي قيدتهم، حتى لا يظلم الأقوياء الضعفاء، وحتى ينال العدالة اليتيم والأرملة... فليأت أي إنسان مظلوم له قضية أمام صورتي أنا ملك العدالة...» (قصة الحضارة).
- وفي النصوص المصرية القديمة: «فبدون آمون لا شجاعة لشجاع، وهو الذي يشد أزر الضعفاء حتى لتهزم الكثرة أمام القلة ويغلب الواحد ألفًا...»، نص يعود إلى عصر الأسرة المصرية الخامسة والعشرين 730 - 665 ق.م. (صالح، الشرق الأدنى القديم).
- ومن النصوص الأدبية المصرية القديمة التي وردت تحت عنوان «نصائح المعلمين»: «إذا رجاك يتيم مسكين اضطهده آخر وود هلاكه، فسارع إليه وقدم المعونة إليه. اجعل نفسك منقذًا له، فمن أعانه ربه حق عليه أن يعين كثيرين غيره»... وقال: «حرر غيرك إن وجدته رهين القيد، وكن حاميًا الضعيف، فلقد قيل إن الحسنى لمن لا يدعي الجهل بالآم غيره» (صالح، الشرق الأدنى القديم).
فمَن هم هؤلاء المساكين حسب القاموس اللغوي العربي، هل هم الجوعى، الضعفاء، المرضى، أم منكسري القلوب، البسطاء؟:
- الْمِسْكِين: كل من احْتَاجَ إِلَى كل شَيْء فَهُوَ مِسْكين (الكليات).
- المِسْكِينُ: «الذَّليلُ والضَّعيفُ» ( تاج العروس).
- مسكين، تعيس، حزين - ( تكملة المعاجم العربية).
- مِسْكين: بسيط، ساذج، سليم القلب (نفسه).
إنهم كل هؤلاء من الفئات الضعيفة: جسديًا أو المنكسرة نفسيًا، تلك التي ولأسباب مختلفة حملت لقب مسكين، وقد يكون مسكينًا كل من لم يعرف الحقيقة، ومسكينًا كل مَن لم يستطع منع الظلم والحد منه.
- وفولتير الفيلسوف الثائر على الواقع، ينقل صورة الإنسانية من زلزال لشبونة 1755م وما نتج عنه من دمار وقتلى، إلى الجثث المتراكمة نتيجة الحروب، إلى مواقد محاكم التفتيش، إنهم المساكين ضحايا الحكام والكهّان والطبيعة: «نحن حيوانات ضئيلة إلى أقصى حد. - ومع ذلك فإن كل ما يحوط بنا يسحقنا، وبعد هذا العدد الهائل من المدن التي تتهدم، ويعاد بناؤها ثم يعاد هدمها مرة أخرى كأنها أجحار النمل، ماذا نقول عن هذه البحار من الرمل، وعن الأوبئة والفيضانات والبراكين والزلازل والأمراض والحروب والجرائم؟» (موروا، نصوص مختارة من فولتير).
إذا هو الاستعباد والامتثال الأعمى للضعيف أمام القوي والأغنى على مرّ العصور:
- منذ زمن اليونان والفراعنة والفرس والرومان وما سبقهم من حضارات وأتى من بعدهم:
- «إن ملوك مصر يجمعون السجناء الذين أدانهم القضاء، وأسرى الحرب وغيرهم ممن وجهت إليهم التهم الباطلة وزجوا في السجون في سورة من الغضب، وهؤلاء كلهم يرسلون إلى مناجم الذهب تارة وحدهم وتارة مع جميع أسرهم، ليقتص منهم عن جرائم ارتكبها المجرمون منهم، أو ليستخدموا في الحصول على دخل كبير نتيجة كدهم... وإذا كان هؤلاء العمال عاجزين عن العناية بأجسامهم، ليس لهم ثياب تستر عريهم، فإن كل من يرى هؤلاء البائسين المنكودي الحظ تأخذه الرحمة بهم لفرط شقائهم. 
ذلك أنه لا يرى أحدًا يرحم المرضى والمشوهين والعجزة والضعاف من النساء، أو يخفف العمل عنهم. ولكن هؤلاء كلهم يُلزمون بالدأب على العمل حتى تخور قواهم، فيموتوا في ذل الأسر. ولهذا فإن هؤلاء البائسين المساكين يرون مستقبلهم أتعس من ماضيهم لقسوة العقاب الذي يوقع عليهم، وهم من أجل ذلك يفضلون الموت على الحياة» (قصة الحضارة).
- أن كل من حشدوا لبناء الهرم كانوا يهللون لما جمعوا له باسم الدين وتأليه الفرعون... وأكثرهم من الفقراء الكادحين في سبيل لقمة العيش (الشرق الأدنى القديم).
- وكان العبد وكل ما ملكت يداه ملكًا لسيده: من حقه أن يبيعه أو يرهنه وفاء لدين؛ ومن حقه أن يقتله إذا ظن أن موته أعود عليه بالفائدة من حياته. وإذا أبقى العبد فإن القانون لا يبيح لأحد أن يحميه، وكانت تقدّر جائزة لمن يقبض عليه. وكان من حق الدولة أن تجنده كما تجند الفلاح الحر للخدمة العسكرية أو تسخره للقيام ببعض الأعمال العامة كشق الطرق، وحفر القنوات (قصة الحضارة - بابل).
- وكان معظم العمال أحرارًا لأن العبيد كانوا في ذلك العهد لا يزالون أقلية حتى بين الطبقات الدنيا. وكان أفقر الأهلين عمال الأرض (Georgoi)، وهم الزراع الصغار الذين ينتزعون القوت من التربة الضنينة ومن شره المرابين والأشراف، وليس لهم من عزاء إلا التباهي بأنهم يملكون قطعة من الأرض (قصة الحضارة - أثينا).
- وكان التجار اليونان يشترون العبيد كما يشترون أية سلعة من السلع، ويعرضونهم للبيع، في طشيوز، وديلوس، وكورنثة، وإيجينا، وأثينة، وفي كل مكان يجدون فيه من يشتريهم. وكان النخاسون في أثينة من أغنى سكانها الغرباء؛ ولم يكن من غير المألوف في ديلوس أن يباع ألف من العبيد في اليوم الواحد (قصة الحضارة).
- أقسى الناس على العبيد هو الذي نشأ في ظل العبودية ولم يعرف طول حياته إلا الظلم والاستبداد (قصة الحضارة).
- فالأثينيون في حقيقة أمرهم حيوانات متنافسة، وبهذه المنافسة القاتلة التي لا هوادة فيها ولا رحمة، يحفز بعضهم همم بعض. وهم على جانب كبير من الذكاء، ولا يقلون دهاءً واحتيالًا عن الساميين، إذا عجزوا عن محاربة غيرهم من الأمم تحاربوا فيما بينهم. وليسوا على جانب كبير من رقة العواطف، يعيبون على يوربديز دموعه في مسرحياته، يشفقون على الحيوان ويقسون على الإنسان: فهم يعذبون العبيد دون ذنب، ويخيل إلى من يراهم أنهم ينامون ملء جفونهم بعد أن يذبحوا جميع من في المدينة من غير المحاربين... (قصة الحضارة).
 
أول مسكين: 
- تقول إحدى الأساطير إن الآلهة خلقت الإنسان سعيدًا «ولكنه أذنب وارتكب الخطايا بإرادته الحرة، فأرسل عليه طوفان عظيم عقابًا له على فعله، فأهلك الناس كافة ولم ينج منه إلا رجل واحد هو تجتوج الحائك، وأن تجتوج هذا خسر الحياة الخالدة والعافية لأنه أكل فاكهة شجرة محرمة» (قصة الحضارة).
أما الأسطورة السومرية التي تعود إلى 3000 سنة ق.م، فتحكي لنا كيف عاقبت الآلهة الإنسان الأول. 
«لولو» بعدما أغرته زوجته التي من جنسه «بتذوق العنب» المحرم عليهما، فتم إخراجهما من الجنة ومنعا من الحياة الأبدية. 
هي نفس قصة آدم وحواء في الأديان السماوية، الإنسان الأول (المسكين) يدفع ثمن الخطيئة، تمتد يده نحو الشجرة المحرمة: العنب أو التفاح... فيطرد من الجنة إلى حيث العذاب والوجع... والخطايا التي لا تنتهي.
تلك هي قصة المساكين في التاريخ، بشكل موجز، تبتدئ من (لولو) أو (أدابا) أو (تجتوج)، ولتستمر مع الأبناء والأحفاد إلى اللانهاية.
وكما قال الشاعر عبدالحميد الديب في أبياته «أذله الدهر»:
أذله الدهر لا مال ولا سكن
فتى تزيد على أنفاسه المحن
إذا سعى فجميع الأرض قبلته
وإن أقام فلا أهل ولا وطن
مهاجر بين أقطار الأسى أبدا
كأنه بيد الأرزاء مرتهن
كأنه حكمة المجنون يرسلها
من غير قصد فلا تصغى لها أذن
ثيابه كأمانيه ممزقة
كأنها وهو حيٌّ فوقه كفن
هو الهدى صرفتكم عنه محنته
إن العزيز مهين حين يمتهن
ألا فصونوه من أرزائه كرما
ولا تخلوه يورى شره الزمن
فرب عزم يثير البؤس فيصله
فينبرى لسبيل الشر لا يهن