سلمى الخضراء الجيوسي سنديانة الثقافة العربية

 سلمى الخضراء الجيوسي  سنديانة الثقافة العربية

   في العشرين من أبريل 2023، رحلت في العاصمة الأردنية عمّان الشاعرة والباحثة والناقدة والمترجمة والأكاديمية الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي، عن ثمانيةٍ وتسعين عامًا، فجاء رحيلها بمثابة حجرٍ أُلقي على صفحة ماء ساكنة، قلقل سكون الماء، وأحدث على الصفحة كثيرًا من الدوائر، وهو ما تمظهر في مقالات كثيرة في الراحلة الكبيرة، وكأنّه كان بدّ من الموت للانتباه إليها مجدّدًا، على طريقة «الناس نيامٌ فإذا ماتوا انتبهوا»، كما يُؤثر عن الإمام علي بن أبي طالب. ولعمري ما كان لتلك الدوائر أن تنداح، ولتلك المقالات أن تُكتب، لو لم تكن الراحلة شاهدة على قرن كامل، ولو لم تشغل دورًا محوريًّا في تاريخ الثقافة العربية، منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وهو ما يشكّل موضوع هذه القراءة.

 

وُلِدَت الجيوسي في مدينة السلط الأردنية، في السادس عشر من  أبريل 1925، لأبٍ فلسطيني محامٍ من صفد هو صبحي سعيد الخضراء، وأُمٍّ لبنانية مثقّفة من جباع الشوف هي أنيسة يوسف سليم، ما أتاح لها النشأة بين أبوين مثقّفين كان لحكاياتهما أبلغ الأثر في تشكيل ميولها وبناء استعداداتها، فنشأت على حب الأدب وطرح الأسئلة منذ نعومة أظفارها، واكتنزت من الرعاية الوالدية والحكايات الأسرية ما سيشكّل زادًا وفيرًا للسنين القادمة.
في هذا السياق، تشير قريبتها الدكتورة بيان نويهض الحوت إلى أن سلمى الصغيرة «لم تكن تُسَرُّ بالألعاب التي تجذب الأطفال، وكانت ترهق أمّها بأسئلتها التي لا تنضب عن كلّ شيء، عن الكبريتة، عن السفينة، وحتى عن البنزين» (مجلة دنيا المرأة، العدد الثالث 1960). ولعل هذا الفضول العلمي المبكّر مضافًا إلى نشأتها في ظلِّ أبيها المناوئ للانتداب البريطاني في فلسطين، وخالها فؤاد سليم المناضل ضدّ الانتداب الفرنسي في سورية حتى الشهادة، كان لهما تأثير كبير في طفولة الصغيرة ومستقبلها، فإذا بها تنخرط في تظاهرة مدرسية ضدّ الانتداب البريطاني في فلسطين وهي لم تتجاوز الحادية عشرة من العمر، وإذا بالهمّ الفلسطيني يلازمها طيلة حياتها. 

دراستها ومدارسها 
تلقّت الجيوسي دروسها الابتدائية في مدرسة المأمونية في القدس، ودروسها الإعدادية في المدرسة الحكومية في عكا، والثانوية في كلية شميدت للبنات في القدس، والجامعية في الجامعة الأمريكية في بيروت. وأبدت خلال المراحل الدراسية المختلفة قدرًا كبيرًا من النجابة والذكاء والتفوّق. وفي مرحلة لاحقة، تابعت دراساتها العليا في مدرسة العلوم الشرقية والإفريقية في لندن، ونالت شهادة الدكتوراه عام 1970 في موضوع «الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث». وهو موضوع كانت إرهاصاته آخذة في التشكّل، مطلع الستينيات من القرن الماضي، بعد استقرار أسرتها في بيروت، وانخراط سلمى في الحراك الثقافي المستعر  آنذاك، وإسهامها في الجدل بين الالتزام والحداثة الذي استعر على صفحات مجلتي «الآداب» و«شعر»، من خلال مقالات نشرتها في المجلّتين المذكورتين، وأبدت فيها مرونة فكرية متقدّمة في مقاربة القضايا المطروحة، فانفتحت على قصيدة النثر لكنها رفضت اعتبارها آخر تجلّيات الإبداع الشعري، انطلاقًا من قناعة راسخة «أن هذا الشكل سيصبح يومًا شكلًا قديمًا لأن كل شيء يتغيّر»، على حد تعبيرها. وعلى الرغم من هذه المرونة الفنية، فإن سلمى لم تكن لتساوم على موضوع الهوية الحضارية، لذلك، ما إن تلمس تنكّر القائمين على مجلة «شعر» للعروبة وقول بعضهم بضرورة تهديم التراث شرطًا للإبداع حتى تفترق عنهم إلى غير رجعة.
 
تدريسها وعملها  
بعد تخرّجها من الجامعة الأمريكية في بيروت وعودتها إلى القدس، قامت الجيوسي بالتدريس في دار المعلّمات في المدينة لسنة واحدة. غير أن اقترانها بالدبلوماسي الأردني من أصل فلسطيني برهان كمال الجيوسي، الذي تعرّفت إليه في الجامعة، في العام 1942، سيضطرّها إلى الانقطاع عن التدريس، ومواكبة زوجها حول العالم، والتنقل معه بين روما ومدريد وبغداد ولندن وبون ودمشق وغيرها من العواصم، ما سيفتح لها آفاقًا جديدة، فتعقد الصداقات، وتتابع دراساتها العليا، وتشارك في الأنشطة الثقافية، وتلقي المحاضرات، وتحضر المؤتمرات.
وبعد نيلها شهادة الدكتوراه في العام 1970، تنفتح أمامها فرصة التدريس الجامعي على مصراعيها، فتدرّس في جامعات السودان والجزائر والولايات المتحّدة الأمريكية، وتلقي المحاضرات في جامعات أمريكية وكندية، ما يكسبها احترام الأوساط الأكاديمية الغربية، ويفتح أمامها باب أن تكون جسرًا للتفاعل الثقافي بين الشرق والغرب، ويمنحها فرصة أن تسدي خدمة جلّى للحضارة العربية الإسلامية تعجز عنها مؤسسات كثيرة، ما نُفصّل القول فيه، في موضعه.   
إن حضور الجيوسي في المشهد الثقافي العربي، في النصف الثاني من القرن العشرين، يتخطّى الدراسة والتدريس إلى النتاج الثقافي في غير حقل معرفي. وهو نتاج يتّصف بتعدّد الاهتمامات، وتنوّع الحقول، والشمول العربي، وبعد الآفاق. ويتمظهر في الشعر والبحث والنقد والترجمة وإدارة المشاريع. ولعل هذه المواصفات والتمظهرات هي ما جعل الراحلة تشغل موقعًا متقدّمًا على خريطة الثقافة العربية. 
 
الشاعرة المقلّة
في الشعر، يقتصر نتاج الجيوسي الشعري على مجموعتين اثنتين يفصل بينهما واحدٌ وستون عامًا؛ ففي العام 1960 صدرت عن دار الآداب في بيروت، مجموعتها الشعرية الأولى «العودة من النبع الحالم»، وفيها يحضر الهمّ الفلسطيني بتمظهراته المختلفة، ويتجلّى القلق الناجم عن الهزيمة والشتات وانسداد الأفق. وفي العام 2021، صدرت، عن دار الأهلية في عمّان، مجموعتها الثانية والأخيرة «صَفَوْنا مع الدهر»، وفيها يحضر الهمّ الإنساني بتمظهراته المختلفة، ويتجلّى الحب الصوفي المعتّق في خوابي الزمن. وبذلك، تكون الجيوسي قد بدأت حياتها الثقافية بالشعر وأنهتها به. غير أن موقعها المتقدّم على خريطة الثقافة العربية لا يرتبط بالبداية والنهاية  بقدر ما يتعلّق بما بينهما من إنجازات.
 
 الباحثة الأكاديمية 
في البحث، شكّلت التحوّلات التي شهدها الشعر العربي، منتصف القرن العشرين، موضوع رسالة الدكتوراه التي أنجزتها الجيوسي في مدرسة العلوم الشرقية والإفريقية في جامعة لندن في العام 1970، تحت عنوان «الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث». وقد درست فيها روّاد الحداثة الشعرية، وأبرزت دور كلٍّ منهم في حركة الحداثة، في اثنتين من تجلياتها، على الأقل، هما: قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. وغلّبت في دراستها الاعتبار الفني التقني على ما عداه، وتجنّبت الاعتبارات الذاتية والخاصّة في التقييم، وهو ما عبّرت عنه، ذات مقابلة، بالقول: «... ولم أسمح إطلاقًا لأي اعتبار أن يتدخّل في محاولتي تقييم ما حدث للشعر العربي في منتصف القرن العشرين، إذ إن تلك الثورة الكبيرة الناجحة بامتياز، هي أخطر ما حدث له في تاريخه الطويل...». وفي دراستها، تعزو الفضل الأساسي في تلك الثورة للشاعرة العراقية نازك الملائكة، التي يحتفل العالم العربي بمئويتها هذا العام، دون أن تغفل دور بدر شاكر السيّاب فيها. غير أن الجيوسي، في المقابل، تأخذ على الملائكة إنكارها محاولات التحديث السابقة لها، على المستوى التقني، لا سيّما محاولتي الشاعر المصري علي أحمد باكثير والشاعر اللبناني فؤاد الخشن (مجلة المستقبل العربي، العدد 428).
 
الناقدة الأدبية
في النقد، تركت الجيوسي نتاجًا نقديًّا وفيرًا، يتمظهر في فصول من كتب مشتركة، ومقالات ودراسات منشورة في المجلات الأدبية، ومقدّمات لكتب مختلفة. وفي هذا السياق، يحصي الأكاديمي الفلسطيني أحمد جميل عزم من جامعة بير زيت نتاج الجيوسي النقدي، فيشير إلى: وضعها أربعة عشر فصلًا، يتمحور معظمها حول الشعر، في أربعة عشر كتابًا مشتركًا مع آخرين، بين عامي 1982 و1996، ونشرها ثلاثة وثلاثين مقالًا ودراسة في مجلات أدبية مرموقة، بين عامي 1955 و1996، ووضعها إحدى وعشرين مقدّمة لكتب مختلفة، بين عامي 1987 و2005. وفي هذا المجال الأخير، تشاء المصادفات الجميلة أن نتجاور معًا في مقدّمتين اثنتين لأعمال الشاعرة اللبنانية أم خلدون جنان سليم نويهض، وهي خالة الجيوسي، التي صدرت في بيروت في العام 2022. 

المشاريع الثقافية
على أهمية النتاج المذكور أعلاه، شعرًا وبحثًا ونقدًا، فإن الإنجاز الأبرز في مسيرة الجيوسي الثقافية يكمن في حركة الترجمة التي أدارتها، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، بهدف تعريف الغرب بالحضارة العربية الإسلامية، من جهة، وتعريف العرب ببعض النتاج الغربي، من جهة ثانية. وبذلك، تكون قد بنت جسرًا ثقافيًّا بين الشرق والغرب، فأسدت خدمةً جلّى لحضارتها العربية، ونجحت في التواصل مع الحضارة الغربية وحظيت بتقدير الأوساط الأكاديمية الغربية. فعلى هامش محاضرة ألقتها في جامعة كولومبيا النيويوركية في العام 1979، اقترح عليها مدير دار النشر في الجامعة السيد جون مور ترجمة كتب من الأدب العربي الحديث إلى اللغة الإنجليزية، فشكّل اقتراحه حافزًا لتأسيس مشروعها للترجمة (The Project of Translation from Arabic) الذي أبصر النور في العام 1980، وشارك فيه عشرات المترجمين والمحررين والباحثين.
  وإذا كان هذا المشروع يهدف إلى تعريف الغرب بالحضارة العربية، عبر الترجمة، فإن مشروعها الآخر «رابطة الشرق والغرب» (East-West Nexus) الذي سيبصر النور، في العام 1990، جاء ليعرّف الغرب بالحضارة العربية، عبر المؤتمرات والدراسات. وبذلك، نكون إزاء مشروعين كبيرين متكاملين لتعريف الغرب بالحضارة العربية الإسلامية، أسّستهما الجيوسي وأشرفت عليهما، وقد تمخّض المشروعان، في بعض الإحصاءات عن خمسين مجلّدًا وكتابًا، منها إحدى عشرة موسوعة. نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر: الشعر العربي الحديث 1987، الأدب العربي الحديث 1988، الأدب الفلسطيني الحديث 1992، الدراما العربية الحديثة 1995، الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس 1999، حقوق الإنسان في الفكر العربي 2002، وغيرها.  

تكريمات وجوائز
هذا الحضور الثقافي المتقدّم كمًّا ونوعًا كان لا بدّ له أن يكون موضع تقدير من عدد من الجهات العربية والدولية، وهو ما تمظهر في عدد من التكريمات والجوائز؛ فجرى تكريمها من قبل: مؤتمر الخرّيجين العرب في أمريكا 1996، المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون 2001، المجلس الوطني للثقافة في مصر 2006، على سبيل المثال لا الحصر. وجرى منحها عددًا من الجوائز المهمة، نذكر منها: جائزة كمال جنبلاط لخدمة الثقافة العربية 1996، جائزة إدوارد سعيد للتميّز الأكاديمي 2005، جائزة العويس 2007، جائزة الملك عبدالله بن عبدالعزيز 2088، جائزة الشيخ زايد 2020، وغيرها. وهي مستحقة لهذه الجوائز وتلك التكريمات. 
وعودٌ على بدء سلمى الخضراء الجيوسي سنديانة ثقافية عميقة الجذور في الأرض العربية، غير أنّ ظلالها الوارفة تعدّت أرض العروبة إلى مناطق أخرى من العالم. واليوم، إذ ترحل جذوعًا وأغصانًا عن المكان، فإنّ ظلالها ستبقى على الزمان ■