مي السعد تحيي التّراث العربي بلغة عصرية

مي السعد تحيي التّراث العربي بلغة عصرية

عندما يكون الفنان التشكيلي في حالة دائمة من الاتصال مع نفسه وأفكاره طوال فترة مسيرته، باستلهامه المؤثرات والتقلبات والتغيرات، فنجد عبر قراءة أعماله الفنية محطات لتطورات ملفتة تتبع الحالة الخاصة التي تملكته في لحظات تكوين الموضوع وفكرته، تعتمد على صدق الشعور والصوت الداخلي والاتصال مع النفس والفكر الخاص. 

 

مي السعد... فنانة تشكيلية من دولة الكويت، بدأت تجربتها الفنية منذ التسعينيات، تأخذ بيد تراثنا العربي لتحلق به مع نبض اللون وقوته، وتحاكي عبر لوحاتها تاريخًا عربيًا غنيًا، لم يكن رسمًا فحسب، بل شعور قوي ينضح من أعمالها بالاعتزاز والفخر بعروبتنا وثقافتنا العربية، وضعته بمنظور وأسلوب فني معاصر.
محطات ثابتة ومدروسة في سياق الأعمال ومضامينها، نجد بينها روابط صغيرة جمعت بها تلك التنقلات والمحطات الفنية بهوية ثابتة، شملت الموتيفات الصغيرة التي تفاوتت بين مرحلة وأخرى، فتجدها كالرموز والدلالات المنتشرة في خلفيات العمل في مجموعة، تتحول وتستخرج منها عناصر أساسية ثابتة في العمل استعانت بها في التكوين والتشكيل الفني وتوضيح فكرة الموضوع المقدّم. 
هناك مفارقة جميلة تستذكرها الفنانة مي السعد في فلسفتها عما يفصل بين الإلهام أو الاستلهام، وما يتخزن عادة في الذاكرة للتراكمات الكثيرة، بين الجميل والقبيح، أو الأصوات المتوراية بطريقة أو بأخرى على هيئة صور ومشاهد لمرحلة عمرية معينة، أو لحقبة زمنية دفعت على تحريك الشعور والإحساس لمن يقرأ أو يتبصّر أو يتأمل بأدائها الفني. 
تستنطق مجموعاتها اللونية في أعمالها، وعلى مدار سنوات طويلة، منذ المرحلة التي وصلت بها إلى محطة أثيرة جدًا تمكنت من استقطاب حاسة السمع أو الإنصات لدوي التنافر اللوني المقصود من فرشاتها، ولتستند به كارتكازة أساسية في المضمون الذي تقدمه، وليتحوّل اللون من مجرد مساحة لونية إلى حركة وصوت وإيقاع، ووقع طبول ودفوف وأصوات وتصفيق عالٍ وضحكات ولون يضج بالحياة، قفزات وتحليق في أوج اللون المبتهج بحركته وإيقاعاته على السطح، تنتقل به السعد إلى مستوى آخر أعلى بكثير من توزيع المساحات والتشكيل الفني للمرئيات الواقعية للتراث، وبتشكيل خارج عن صورته النمطية، مكونة بحرفية ذلك الانطباع العميق لمشاعر العروبة وثقافة كاملة ممتدة لإرث ثقيل ومهم.
تحلق بترحال اللون بهذه المنطقة الجغرافية للوطن العربي، باستنطاقها الحاذق لهذه الثقافة للنقوش والزخرفة الإسلامية التي تتصدر مجموعة جديرة بالاهتمام في أعمالها.
ترصد بألوانها ملامح الوجوه في أعمالها، برموز وموتيفات متماهية تمامًا مع الهوية العربية المتغيرة على مر التاريخ، لتضع كل تحوّل أو تغير على ذلك المكان الشاسع بخط ثابت ومتّصل، يضع لها امتدادًا لسنوات طويلة من الاهتمام، لتجبر المتلقي على تأمل العمل الذي تقدمه في كل مرحلة 

تجربة خاصة
مي السعد قارئة من الطراز الأول، تنتقل في قراءاتها بين الأدب العربي والأجنبي والروايات والشعر، وصدر لها كتابها المعنون بـ «شيء من الكتابة» الذي لامست به جمهورها النوعي ومتذوقي الفن التشكيلي، واضعة لتلك الأرضية المشتركة بين الفن والأدب مكانة خاصة ترتحل منها وإليها بانعكاس أثر الكلمة والرواية على أعمالها، ويجدر بالذكر مشروعها الفني المتعلق بالشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد 1934-1967 بلوحات تشكيلية وعمل مركّب نال جائزة عيسى صقر الإبداعية عام 2012، موضحة الحزن العميق الذي يسكن النفس أحيانًا من خلال الإيماءة الحزينة للغة الجسد للتكوين الذي وضعته في العمل، إلى جانب قصاصات الأشعار والصور المطوية، كالرموز والدلالات في لغة الفن التي يرمز إليها الفنان ويترك  لنا مجال الفهم.
ولوحة انتظار غودو التي نالت جائزة مهرجان القرين الثقافي لعام 2015، حيث وظفت بها شخصيات العمل المسرحي المترجم من الفرنسية إلى الإنجليزية للكاتب الإيرلندي صمويل بيكيت، بتجسيد ذلك الانتظار من بين فلاديمير وأستراغون  وجوجو ولاكي، ورصد الحالة الإنسانية التي وضعتها في تكوينها للعمل.
لم يكن الهدف تجسيد شخصيات المسرحية المذكورة بقدر ما كان تعبيرًا منها عن الشعور بعبثية الانتظار حين لا يصاحبه فعل حقيقي، وعن غربة المثقف وانتظاره للحرية أن تأتي... من خلال حوارات مقطوعة وشجب ورفض للواقع واكتفائه بالهذيان فقط لإمضاء الوقت دون ممارسة فعل واضح، فتترك للمشاهد حرية التحليل والتطبيق وإطلاق الأسماء على عناصر اللوحة، وللفنان فقط حرية رسم الفكرة، فتوجد لهذه المنطقة المشتركة بين الأدب بكافة أشكاله وبين الفن التشكيلي، تتقاطع وتتمدد وتتماهى وتظل مصدرًا للإلهام والاستلهام المتبادل.

المرحلة الدراسية
في دراستها لإدارة الأعمال بكلية العلوم الإدارية جامعة دولة الكويت تزامنت تلك الفترة مع المطالعة والبحث بين المجلات الأجنبية المتعلقة بالفنون والتقنيات الفنية، مما أثمر ـ بعد سنوات لاحقة ـ عن إدارتها لغاليري خاص في دولة الكويت، يحتضن مكتبة ومساحة لعرض أعمالها الفنية بين المقهى الذي تستضيف به الزوار والفنانين.
تفوقت السعد على نفسها بأعمال متجددة تخاطب الفكر المعاصر وتواكب الانفتاح العالمي بلغة فنية حديثة تفوق إطار الكانفاس، فنلمح في شخصيتها فنانًا يمضي بنتاج ثابت ومتجدد، وتحلق بهذه الحرية مع المحافظة على البصمة المستقرة في الأسلوب التعبيري الذي لازم فرشاتها مع فارق المحطات الفنية والتنقلات في تعبيرات الفنانة منذ البدايات حتى السنوات الحالية، يؤكده تمامًا التقاء اللوحة الأولى أو العمل التشكيلي الأول 1994 مع مضمون العمل التشكيلي الذي حظي بجائزة الدولة التشجيعية لعام 2014، باختلاف الأسلوب وطريقة الطرح، لتواصل النهج الثابت والخط المتّصل الذي وضعته في أعمالها، وصوتها المختبئ في أفكارها هو مَن يقتاد اللون والفكرة المطروحة.
في مجموعة الأعمال الأولى في فترة التسعينيات أسهبت من واقع التجربة المريرة التي مرت بها دولة الكويت بأعمال تحاكي الشأن المحلّي وتعكس إحساسها بواجبها الوطني تجاه قضاياه السياسية، مركزة على صوت المرأة ورفضها تحجيم حقها السياسي في التصويت والترشح. كانت الفكرة موجزة بكتم صوت المرأة بداخل الزجاجات المتطايرة في العمل، فرسمت الرجل والمرأة ومجلس الأمة وتحرير دولة الكويت برمزية الأجنحة البيضاء تعبيرًا عن بلد السلام والأمن والأمان. 
  انطلقت بأعمالها لتقف مستندة على مهارتها في التشكيل، ولم يصعب عليها إيجاد تلك المساحة الفريدة بفعل اطلاعاتها، حتى أثبتت بألوانها ووصلت إلى محطة يمكن اعتبارها بالمحطة الرئيسية لمنجز مي السعد ولمسيرتها الفنية، فجعلت من التكوين حركة ومن اللون صوتًا يقفز من العمل فيروي قصته ويغني كلمته لمن يقرأ العمل ويتأمله.

قفزات مبتهجة - صوت اللون
تلتقي حرية القفزات تلك مع انطلاق فكر الفنانة ذاته، فمن سلسلة الكويت الأولى إلى القفز على الهواء والطيران في فراغات العمل الذي كان يحتّم على الفنانة تلك القوة التي تختتم بها لوحاتها، لتعطي ذلك الإيقاع اللوني المفاجئ كآخر طبقة لونية فوق التكوينات المبتهجة، تعطي تلك الأصداء بضربات النيلي الصريح والأحمر القاني، لتنقل لنا مي السعد مستوى ناضجًا من التشكيل والإيحاء المدهش بحركات الشخوص ووقع التصفيق العالي، وليتصدر لون فجائي بضرباته القوية فيغزو العمل بجرأة، يصرخ حدة ويفرض وجوده في العمل.
كانت القفزات العالية في تكويناتها والوثبة والعرضة العربية ورقصة السامري الأخاذة وبهجة العيد والبدوية الراقصة أعمالاً أخذت منحى مختلفًا بعيدًا عن التوثيق للتراث بحد ذاته، بل انتقلت بهذه المجموعة إلى مستوى أعمق يأخذنا إلى انتشال مشاعر البهجة والفرحة خلف هذه القفزات والإيماءات في تكوينات العمل، فتلمح وجوهًا مبتسمة ورقصات خفيفة متطايرة، وأقمشة اللباس الشعبي، وثوب النشل بتطريزه الذهبي يحتفي بنفسه وبعروبته.
هنا يمكننا التوقف لبرهة لتأمل الطبقات اللونية في الأعمال، وتماهي الوجوه والتعابير مع الزخارف والنقوش التي قصدت بها الفنانة اتخاذ النقوش والموتيفات الموجودة في السجاد الفارسي كعنصر مهم وأساسي في بناء العمل، ولتتداخل بين نقطة أو أخرى مع اللباس العربي والإيماءات الشامخة في أعمالها، فترى السجاد وجماليات النقوش والموتيفات من ذلك النسيج القريبة من زخرفة الأرابيسك بألوانه الزاهية، تضع بينها مي السعد ملامح عربية أصيلة ممتدة قاصدة بذلك رسم الوطن العربي والجزيرة العربية عبر الوجوه والبورتريهات.
كما تستند على أقوال عظماء الشعر والأدب لمحمود درويش وقاسم حداد وأحمد مطر وأشعار فروغ فرخزاد، وانعكاس تأثير تلك القراءات على اللون والتشكيل لترتحل منه وإليه بين الفن التشكيلي والكلمة، وتمتد أعمالها تلامس بيت القرّاء والنقاد والشعراء وأصحاب الدواوين والبيوت، لتزدان بها العباءة السوداء ولباس الرجل العربي، لتترك بريق السيوف وأشكال العرضة والزفة والفريسة، ولتستنطق كل هذه العناصر كرموز أصيلة تعشقها البيوت العربية والخليجية بالتقنيات الحديثة في أدواتها المستخدمة بين ورق الذهب والفضة والمعاجين النافرة.

صوت الهدوء
في مجموعتها الجديدة استطاعت أن تفتح نافذة مختلفة عن الفلسلفة السابقة لمشروعها الفني، جاعلة من أيقونة جورج أورويل لمزرعة الحيوان ذلك الإسقاط السياسي الذي طوعته في أعمالها، مستعينة بتصدّر النمور والأسود والخيول التي تمكنت بها أن تخفي الكثير من التأويلات السياسية في العمل.
فرغم الصمت الذي وضع نفسه بعد أزمة الوباء، أخذت لوحاتها ذلك المنعطف الجديد، بالهدوء اللوني، وليغلب الأمر صدى آخر يمكن قراءته بأصوات الاحتجاج عبر التكوين والملامح الصحراوية وألوان الرماديات والدرجات اللونية الهادئة التي لم تأتِ عبثًا، بل جاءت به ليصبح العنصر والموضوع هو من يتصدّر العمل وليس التنافر اللوني حسب الفلسفة السابقة، بطرح تكوين العمل كالملحمة الغنية التي يمكن تأملها وقراءة موضوعها، فضلاً عن الكتابات الخطية للأشعار والقصائد المدوّنة لكلمات الشاعر الكويتي الراحل زيد الحرب 1887-1972، والمضافة على مساحة الكانفاس كتحليل للفراغ بعفوية الخط من قبل الفنانة، كالوثيقة المهمة التي قيّدتها السعد في عصر جديد متخم بالأسئلة تطرح بها ومن خلالها تساؤلات لا تنتهي  ■