بيكار مطرب الضوء والظلال والحرير

بيكار  مطرب الضوء والظلال والحرير

كنت أنتظر بشغف ولهفة زاويته التي يرسمها بالكلمات المعبرة والريشة الفنانة في جريدة الأخبار، وبعد انتهائي من قراءة الجريدة أقص الزاوية بعناية وأحفظها إلى أن تكونت عندي مجموعة كبيرة أطالعها بين الحين والآخر بسهولة ويسر ومتعة، فقد كان فنانًا بارعًا يعبر عن النفس البشرية بلوحات غاية في الجمال وكلمات رقيقة وفلسفية بسيطة وسهلة، وبالإضافة إلى ذلك كان عازفًا ماهرًا على عدد من الآلات الموسيقية كالعود والبزق والطنبور، إنه الفنان متعدد المواهب حسين بيكار.

 

ولد حسين بيكار في 2 يناير 1913 بحي الأنفوشي بالإسكندرية وهو تركي الأصل، عشق الفن منذ طفولته رغم أن أسرته لم يكن لأحد من أفرادها اتجاه فني واضح، كان يحاكي ما يراه مرسومًا وما يسمعه منغمًا، وكان دكان البراويز على ناصية الشارع الذي يقطن فيه يستوقفه في ذهابه وإيابه كما كان ينبهر بأصوات الموسيقى التي يسمعها، مما دفعه إلى تعلم العزف وهو في السابعة من عمره عندما كان معلم العود الكفيف يأتي ليعطي أخته دروس العود، ولما أتقن العزف بدأ وهو في العاشرة من عمره يعطي دروسًا في العود.
في المدرسة الابتدائية وبسبب عشقه للرسم كان يرسم أساتذته ولم يكن ينوي احتراف الرسم ولكن الأقدار ساقته إلى مدرسة الفنون الجميلة والتحق بها، وكان الأول على دفعته ودرس له فيها أجانب ثم درس له الفنانان الكبيران يوسف كامل وأحمد صبري، وعندما لمحه أستاذه وصديقه أحمد صبري وهو يعزف أعجبه شكله في هذا الوضع واختاره نموذجًا للوحته الشهيرة «العازف»، وبعد التخرج حاول أن يعمل في مجال العمل الحر لكنه لم يوفق وعمل مدرسًا في وزارة المعارف من عام 1934 حتى عام 1942، ثم عمل مدرسًا للتصوير في كلية الفنون الجميلة ثم أستاذًا ورئيسًا للقسم حتى عام 1959 وكان بجانب ذلك له تجارب عديدة في رسم كتب الأطفال ومجلاتهم وقدم مع كامل كيلاني رائد أدب الأطفال أول كتبه الملونة للأطفال «علي بابا وأبوصير وأبو قير وخسرو شاه»، وتبع ذلك مجاميع عديدة للأطفال وكون فرقة موسيقية في الثلاثينيات، وعندما سافر إلى المغرب في بعثة تعليمية تفرقت هذه الفرقة وعمل في مدينة تطوان مدرسًا للرسم والموسيقى في آن واحد، وقضى هناك ثلاث سنوات وعندما عاد إلى القاهرة أعاد الفرقة الموسيقية التي كونها وشارك في إحياء الحفل الكبير الذي أقيم بمناسبة عيد زواج الملك فاروق واشترك في هذا الحفل زكريا أحمد وبعض المطربين المعروفين ووقف بيكار على المسرح وغنى أغنية من تلحينه وتأليفه، كان مطلعها: اليوم دا يوم الهنا، اليوم دا عيد عندنا، وأصبح عضوًا بمعهد الموسيقى العربية، وفي بداية الخمسينيات اجتمع مع كامل كيلاني وشفيق متري صاحب دار المعارف ومديرها لإصدار مجلة «سندباد» للأولاد في جميع البلاد، لتكون تجربة جديدة ورائدة برئاسة محمد سعيد العريان، وابتكر بيكار لها العديد من الأبطال، مثل «سندباد وصفوان والعمة مشيرة وتمر زاد والكلب نمرود وأرنباد»، وقام بالإخراج الفني وتصميم أغلفة المجلة، وتم تكليفه برسم كتاب القراءة الجديدة «الأرنب شرشر» للصفوف الأربعة الأولى بالمرحلة الابتدائية وكانت تجربة جديدة لتعليم القراءة من خلال الصور المرسومة وطبع من هذا الكتاب مليون نسخة.

الغلاف الأول
 في هذه الفترة انضم إلى «أخبار اليوم» وتحديدًا في عام 1959 فقد كان علي ومصطفى أمين يبحثان عن فنان لأخبار اليوم، ودلهما رشاد منسي الذي كان يعمل في قسم الإعلانات على بيكار، وذهب للقائهما وأخذ معه كتاب الأيام لطه حسين، وكان أول غلاف كتاب يرسمه في حياته، وبعدما نظر مصطفى أمين إلى رسوم الكتاب قال له بكل بساطة «إنت معانا»، واستدعاه علي أمين وقال له بلا مقدمات: «ليس من طبعنا تعدد الزوجات، أنت مطالب بتطليق إحدى زوجتيك، أريدك تطليق زوجتك الحكومية وتتفرغ للصحافة، فمكانك معنا هنا في أخبار اليوم»، وأعطاه مهلة أسبوعًا للتفكير، وكان يوميًا يطلبه لإقناعه، وفي اليوم الأخير من المهلة طلبه وأعطاه ورقة مزيلة بتوقيعه وقال له سيكون راتبك مجموع ما تتقاضاه من جميع الجهات التي تعمل بها، بالإضافة إلى تصريح مفتوح للسفر إلى أي مكان في العالم على نفقة الجريدة لتأتي لنا بتحقيق صحفي ترسمه وتكتبه.

سندباد الصحافة
 كان بيكار يعمل رئيسًا لقسم التصوير في الفنون الجميلة ودار المعارف ومؤسسة فرانكليبي، وفي اليوم التالي قدم استقالته ووقع على عقد حبه وعشقه لأخبار اليوم ولم يندم أبدًا على هذا التوقيع، واعتبر هذا العقد بداية عقد حياته الحقيقية وبعدها أصبح «سندباد» الصحافة يسافر إلى جميع بلدان العالم حاملًا قلمه وريشته، وأنجز العديد من الرحلات بالكلمة والصورة المرسومة وحقق نجاحًا كبيرًا. ومع أواخر الستينيات بدأت رحلته مع الكتابة في الفن التشكيلي تحت عنوان «ألوان ظلال» ليقدم للقارئ مائدة عامرة بالإبداع التشكيلي المصري والعالمي في مختلف اتجاهات وأنماط الفن وبالتزامن كتب مساحة بعنوان «صورة ورأي» عبارة عن لوحة يرسمها أسبوعية مصحوبة بتعليق صغير، ثم تطور التعليق ليصبح رباعيات وخماسيات وسداسيات متأثرًا برباعيات الخيام الذي ترجمها أحمد رامي بعدما هزته حبكتها وصوفيتها العميقة وعبر من خلال كلماته عن إحساسه بما حوله من أشياء، والصراع بين الخير والشر، والفرح والحزن، والأبيض والأسود، والتوهج والانطفاء... يقول:
بصيت من الشباك لقيت الشمس طالعة وبترمش
ولقيت الربيع مغطي الغصون بزهرة المشمش
قلت لو ميت ربيع يروحوا من عمري ما يهمش
لكن لساني يفضل عفيف يمدح ولا يذمش

ظل بيكار مطرب الضوء والظلال والحرير عاشقًا لفن البورتريه مع كل إبداعه المتنوع ورسم مئات الوجوه، أغلبها لسيدات، وقد كان يدخل في أعماق الإنسان ليصوره من داخله قبل ملامحه ويغوص في الشخصية بالتعامل والحديث ليقتنص اللحظة المناسبة ويعبر عنها باللون والخط، وقال إنه إذا لم يحب ملامح من يرسمه فلن تطاوعه فرشاته، وقال عن نفسه إنه يشعر بأن حياته كانت دائمًا مثل الكرسي الهزاز الذي يجلس عليه الشخص أحيانًا بعد عودته من عمله لينال قسطًا من الراحة، وهي عبارة قالها الفنان الفرنسي «ماتيس» وتنطبق على حياته بكل المقاييس.
من أجمل وأرق ما كتب عن الفنان بيكار هو ما كتبه الكاتب الساخر الكبير أحمد رجب حيث قال عنه: «أستاذي بيكار فنان مهذب جدًا إذا ألقى التحية على أحد قال من فضلك صباح الخير، وإذا رد التحية قال من فضلك أشكرك، ولم أره مرة واحدة إلا باسم الوجه ولم أشاهده عمري قد فقد أعصابه». 
ويقال وهي رواية غير مؤكدة إنه «اتنرفز» للمرة الأولى في حياته منذ 21 عامًا ولكن صوته لم يرتفع ولم يفقد ابتسامته الهادئة، وكل ما قاله للشخص الذي استفز أعصابه يومًا: «من فضلك عيب كده» وعيب كده هي أكبر شتمة في قاموس بيكار.

أصحاب الفضل
كان بيكار يدين بالفضل لأمه التي كافحت وضحت بكل شيء لكي تمهد له طريق التعليم والحياة، ولأستاذه أحمد صبري رائد فن البورتريه الذي يدين له بكل قطرة من دمائه، ولـ «أخبار اليوم» التي علمته فنون الصحافة ولدار المعارف التي فتحت أمامه آفاقًا جديدة في فنون الكتاب، وكان يقول دائمًا «أعط حبًا تأخذ حبًا»، ورحل بيكار في 16 نوفمبر عام 2002 عن عمر يناهز 89 عامًا، تاركًا وراءه حياة حافلة بالإبداع والجمال والرقي ■